غزة واختبار المزاج الشعبي

د. مخلص الصيادي

انتهت آخر جولة من جولات العدوان الصهيوني على غزة باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته مصر، وقال المتحدث باسم الجهاد الإسلامي محمد الهندي إن مصر التزمت في مسعاها لوقف إطلاق النار بالعمل على إطلاق سراح الأسيرين خالد عواودة وبسام السعدي.

وشهدت الساعات الأخيرة قبيل سريان وقف إطلاق النار تصعيدا إسرائيليا كبيرا ردت عليه حركة الجهاد الإسلامي بقصف صاروخي استهدف مطاري تل ابيب وابن غوريون، ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ليل الاثنين / الثلاثاء 8 / 8 / 2022، وذلك بعد أن سجل استشهاد 44 فلسطينيا معظمهم من المدنيين، ومن بينهم 15 طفلا وأربع نساء.

وكان العدوان الإسرائيلي على غزة قد بدأ الجمعة واستمر على مدى أربعة أيام، وافتتح بقصف أسفر عن استشهاد القياديين في الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري قائد الجبهة الشمالية، وخالد منصور قائد الجبهة الجنوبية، وللشهيدين مكانة عسكرية بارزة في بنية حركة الجهاد الإسلامي.

ليس هناك ما يمكن الوقوف عليه في هذا العدوان، فالطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني لا تحتاج إلى دليل، والاستعداد للشهادة عند المجاهدين في فلسطين بات نمط حياة، يحزن ويؤلم استشهاد أي فرد، قائدا مجاهدا كان أو مدنيا، لكن مع ارتقاء كل شهيد تزهر أرض فلسطين، وأرض غزة، المزيد من المجاهدين، فقتال العدو بات عقيدة ومذهبا وبرنامجا سياسيا واجتماعيا لكل الفلسطينيين. وردود الفعل الدولية والعربية هي هي لم تتغير، بل إنها زادت خنوعا للمطالب الإسرائيلية، وتبريرا لعدوانية هذا العدو، ولعل المتابع لردود الفعل يلحظ الأثر المباشر لاتفاقات ابراهام على تطويع النظام العربي، وجعله مضبوطا تماما على موجبات تلك الاتفاقيات التي حولت العدو الصهيوني إلى حليف مؤتمن، وجعلت رؤية هذا العدو لأمنه ولتطلعاته هي الحاكمة لكل أطراف تلك الاتفاقيات. فلم يعد الكيان الصهيوني دولة احتلال، ولم يعد يمثل أي خطر على الحقوق العربية أو على الأمن القومي العربي، ولم يعد هناك ذكر للحقوق الفلسطينية وللحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال.

ورغم هذه الطبيعة المستقرة للعدوانية الإسرائيلية، ورغم التغير الذي أحدثته تلك الاتفاقيات التي جعلت يد هذا العدو هي العليا في كل شيء، فإن المراقب يلاحظ جديدا في مناخ هذا العدوان وفي ردود الفعل عليه:

1ـ هذه الجولة من العدوانية الإسرائيلية اختصت باستهداف حركة الجهاد الإسلامي، “المواقع والقيادات”، وحيدت أو نحت جانبا الأهداف الخاصة بحماس، ولا شك أن هناك أغراضا خبيثة، وأخرى سياسية لهذا المسلك الإسرائيلي، ذلك أنه مثًل رسالة شديدة الوضوح بأن حماس غير مقصودة، وبالتالي فإن عليها ألا تبادر في الرد على القصف الإسرائيلي. وفي التقدير الخبيث أن التزام حماس بهذه الحدود يمكن أن يوقع شقاقا، ويبذر بذرة عدم الثقة بين التنظيمين، وهما قوة المقاومة الرئيسية في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وفي مضمون هذه الرسالة أيضا أنه في أي عدوان جديد قد تكون “حماس” هي المقصودة، وبالتالي يصبح على الجهاد أن تنحي نفسها وتلتزم الحياد الميداني، وهكذا يتم تفتيت وحدة المقاومة الفلسطينية ووحدة أمنها.

2ـ وإذا كان رد فعل النظام العربي متوقع ومفهوم، فإن ما كان لافتا هو رد الفعل الشعبي، الذي لا نشك أنه كان ضد العدوان الإسرائيلي، ومع المقاومة الفلسطينية ومع نضال الشعب الفلسطيني، وكان مع أهل غزة، مدنيين ومجاهدين، لكن مع ذلك فإن رد الفعل هذا لم يظهر، بقي مكبوتا، يغلي في الصدور، لكن لا يرى سبيلا للخروج للعلن، لم نشهد مظاهرات ولا احتجاجات ولا وقفات انتصار وتأييد لهذه المقاومة، ولهذا الشعب، كما كان يحدث دائما.

وهذه ظاهرة خطيرة يجب الوقوف عندها، وفهمها، ويجب على قادة المقاومة الفلسطينية، وقادة تنظيماتها أن يتفكروا فيها جيدا، وأن يعملوا على معالجتها، واستعادة مكانتهم في الضمير الشعبي العربي.

3ـ ولا شك أن هزيمة “الربيع العربي”، وفشل قواه في الوصول إلى أهدافها أو بعض أهدافها في كل البلاد العربية، والثمن الهائل الذي دفعته هذه الجماهير من دمها وحريتها، ودفعته قواها الشبابية الحية الصاعدة كان له أثر بالغ في خفوت تجاوب الشارع العربي، مع الحدث الفلسطيني، ومع أي حدث عربي، وأي حدث عام يعبر عن التزام وطني أو قومي أو أممي.

إن المواطن العربي في مختلف أقاليمه، المواطن المقهور، والمسجون، والمشرد، واللاجئ، بات في حالة انزواء.

في فضاء الربيع العربي امتلأت ساحات العواصم العربية بعشرات الملايين من الشباب الذين نزلوا إلى الشارع يريدون التغيير، ويريدون الكرامة، ويريدون الأمل، ويريدون التحرير، ويريدون نظما نابعة منهم، معبرة عن ارادتهم، وظنوا لساعات أو لأيام أو لشهور، أنهم وصلوا إلى مبتغاهم، فإذا ببوابات الجحيم تفتح على مصاريعها، وإذا بهم يواجهون بأبشع القيم والمفاهيم والسلوكيات، وكانت الحصيلة مئات الألوف من القتلى ومثلهم من المفقودين، وأكثر من ذلك في السجون والمعتقلات، وإذا الاستبداد والفساد هو سيد الموقف، وهو أكثر من استفاد من هذا الربيع، وانهارت في هذه الأجواء قيم الوطنية والالتزام القومي، بل وانهارت الوحدة الوطنية داخل كل بلد، وانهارت وحدته السياسية، وتكاد أن تنهار وحدته الجغرافية. وبرز التغول الفارسي الطائفي كقوة رئيسية فاعلة تجتاح دولا عربية عديدة، وباتت هي الوريث للوجود الأمريكي والحارس لأنظمة الاستبداد، والقتل، تنشر راياتها في عواصم عربية مركزية مهمة، وتهدد بتدخلاتها عواصم ودول عربية أخرى.

4ـ لا شك أن مآلات الربيع العربي، أثرت تأثيرا خطيرا على الموقف الشعبي وقدرته على التفاعل مع الأحداث الوطنية والقومية والإنسانية، لكن لأن لفلسطين مكانتها الخاصة في قلب وعقل ووجدان كل عربي كان لا بد نبحث عن أسباب أخرى جعلت هذا “الوهن المحرم” يتسرب إلى هذه القضية المقدسة.

وفي محاولة فهم هذا الوضع أرحج أن سلوك قيادات منظمات المقاومة الفلسطينية تجاه مآلات الربيع العربي كان لها الأثر البالغ، في إيجاد شرخ بين القضية الفلسطينية وبين هذه المنظمات. وفي التأثير السلبي على التجاوب العربي الشعبي مع تجليات النضال الفلسطيني.

ومن أبرز ما باعد بين الضمير الشعبي العربي وهذه المنظمات هذا التحالف الذي انتظمت فيه المقاومة الفلسطينية مع النظام الإيراني، والسوري، وتنظيماتهما الطائفية، فباتت كل معركة تدخلها المقاومة وكأنها تسجل في سجل هذه الأنظمة، حتى ظهرت هذه النظم المستبدة الطائفية والعنصرية وكأنها المدافع الوحيد عن القضية الفلسطينية، وعن الشعب الفلسطيني.

وإذا كانت بعض حجج المقاومة الفلسطينية في هذا التحالف أنها لم تجد بديلا، وأنها في معركة مع العدو الصهيوني تحتاج فيه إلى دعم عسكري ومادي وتقني، وأن هذا الدعم تجده في المعسكر الإيراني الطائفي على وجه التحديد وامتداداته في الوطن العربي، ولا تجده في مكان آخر،  فإن هذه الحجج لا تبدو مقبولة من الجمهور العربي، خصوصا وأن سلوك قيادات هذه المنظمات وفي مقدمتها حماس والتي ظهرت مؤخرا، لا تعبر عن حالة اضطرار، ولا تقف عند حدود الحاجة، وإنما هي تنخرط في تحالف معها في العمق، تبرر فيه كل سياسات إيران العدوانية والطائفية وسياسات الأنظمة المتحالف معها، وتجعل منها السند والظهير لها، وتدير ظهرها لمئات الالاف من الشهداء الذين قضوا في معركتهم مع هذه الأنظمة والذين هم في الأصل الدرع الشعبي الجماهيري لفلسطين في كل إقليم عربي.

مهم جداً أن يستعيد الشارع العربي الاهتمام بالوضع الفلسطيني: القضية، والشعب، والمقاومة، والأحداث المتوالية.

مهم جدا أن ينظر بتمايز بين منظمات المقاومة وبين القضية الفلسطينية، بين أخطاء الأولى وحتى خطاياها، وبين الالتزام بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية للأمة ولكل شعب من شعوبها. قضية مقدسة، قضية تحرير كامل لا يقبل المساومة، ولا يتأثر بالمراحل.

هذا التحالف بين المقاومة الفلسطينية وهذه الأنظمة والتنظيمات الطائفية التي تتخذ القضية الفلسطينية ستار لها، غير مقبول من القوى الشعبية والوطنية، ونجزم بأن الضمير الشعبي العربي يرفضه، لكن أيضا غير مقبول أن تُحَمل القضية الفلسطينية، أو الشعب الفلسطيني، أو المجاهدين الفلسطينيين، خطيئة ذلك التحالف. وبالتالي فإن من الواجب بذل جهد مشترك مثابر وصبور من الجميع لتحقيق هذا الهدف.

الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في عموم الأراضي الفلسطينية، لن تتوقف، والهدنة الراهنة مجرد هدنة في سياق صراع مستمر لن يهدأ، ولا بد من الاستعداد للجولات القادمة.

ومن أجل ذلك يجب التشديد على وحدة قوى المقاومة والجهاد فلا يتسرب العدو بأساليبه المعروفة لإيقاع الفرقة بينها، فالجميع مستهدف: المقاومة والشعب والأرض.

 ومن أجل ذلك يجب إعادة القضية الفلسطينية بأركانها الثلاثة إلى عمق الضمير والالتزام الشعبي العربي، فهذا هو حصنها الحصين، وبه تحقق انتصاراتها الاستراتيجية.

ومن أجل ذلك أيضا ندعو كل القوى الوطنية والقومية في فلسطين وفي كل إقليم عربي لبذل قصارى جهدها لتصحيح المسار وتحقيق التلاحم المطلوب حول قضيتنا المركزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى