كأن لبنان يعود إلى صراعات غابرة، إلى لحظة إنشاء لبنان الكبير، عندما كان طرف يؤيد ولادته، وآخر يعارضها بحثًا عن بحر عربي أوسع، وثالث كان يبدو مغيبًا.
اليوم تنقلب أدوار الطوائف. الصراع السياسي مداره الهويات ويدور بين الشيعة والمسيحيين، فيما السنّة غائبون. سنتان بعد المئة على ولادة لبنان الكبير، ويستعيد اللبنانيون بالصورة الحيّة مشاهد الانقسام التاريخي، الذي استمر متلونًا في مراحل وحقب، بعضها طائفي الطابع وبعضها الآخر قومي، لا سيما الصراع الآفل بين القومية العربية والقومية اللبنانية.
حزب الله يطوِّع الطوائف
قبل سنوات طرح حزب الله معادلة جديدة، تتجاوز هذه الصراعات، فوضع للصراع أفقًا متقدمًا: جغرافيًا، من خلال توحيد الجبهات العسكرية والأمنية مع حلفائه المتنوعي الجنسيات والطوائف. وسياسيًا، بناءً على معادلة وئام مع الحليف وعداوة مع الخصم.
منذ العام 2005، شرع حزب الله في مسار جديد: واجه بروز تيار لبناني عام وعارم التقى على شعار “لبنان أولًا” عقب اغتيال رفيق الحريري وانتفاضة 14 آذار. في العام 2011 شهدت الوقائع السياسية بدايات انكسار قوى هذا الشعار، بعدما كان حزب الله قد نجح في التحالف مع شطر واسع من المسيحيين. واستكملت المرحلة الانتقالية على وقع اندلاع ثورات الربيع العربي، ولا سيما الثورة السورية.
تدخل حزب الله في سوريا، مدعيًا القتال لدحر الإرهاب ومنعه من الوصول إلى جونية وسواها. ونُقلت آنذاك عن البطريرك الماروني بشارة الراعي تصريحات عن أهمية ما يقوم به حزب الله في سوريا. فجسد ذلك التقاءً مسيحيًا- شيعيًا. ويمكن في هذا السياق استذكار بعض المجموعات المسيحية التي ذهبت للقتال في سوريا تحت راية حزب الله، وإن لغايات التصوير الإعلاني فقط. في تلك المرحلة عمل الحزب عينه على تطويع السنّة، وشيطنة كل مناصر للثورة السورية. وماشاه المسيحيون في ذلك، إلى أن أدى السنّة فروض الطاعة بتخليهم عن مشروع سياسي واسع ورحب، وانخراطهم في صراعات الطوائف والمذاهب والمحاصصة والتي تجسدت في تسوية العام 2016.
كانت تلك محطة بارزة من محطات نجاح حزب الله في تطويع الطوائف: رفع المسيحيون المؤيديون لميشال عون شعار المشرقية. وتراجع السنّة إلى مسائل تفصيلية لا تتجاوز بعض المشاريع داخل إدارات الدولة الضيقة، بلا أفق ولا مشروع سياسي واضح.
عودة إلى الأوهام
استفاد حزب الله من وقائع دولية وإقليمية: محاربة الإرهاب وتنظيم داعش. حتى الحرس الثوري وضع في خانة القوى التي تقاتل الإرهاب. وكان ذلك طريقًا ومعبرًا للالتقاء الإيراني- الأميركي في الاتفاق النووي.
وجاءت لحظة التغيّر الدولي: انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي. ساءت علاقة واشنطن بطهران. اشتد الضغط في المنطقة. وصل العراق ولبنان إلى الانفجار الشعبي. طرحت شعارات ومشاريع مدنية ووطنية، قبل الالتفاف عليها وإجهاضها، وصولًا إلى إدخال اللبنانيين والعراقيين مجددًا في لعبة التحاصص والصراع على المواقع والمناصب.
تبددت الشعارات المدنية والوطنية. رفعت الأحزاب شعار حرب الوجود والبقاء. على وقع الانهيار، استعاد اللبنانيون المنقسمون خطابات ظنّوا أنها من المنسيات. لكنها كانت كامنة. عادت نغمة التقسيم أو الفيدرالية، وعادت النزعة التفوقية في الخطاب السياسي، وصولًا إلى الصراع على تاريخ مثقل بالأوهام والتورم: ذاك يريد القومية اللبنانية، وهذا مع القومية العربية والإسلامية، وكلاهما لم يبق منهما شيء. هذا يريد الشرق وذاك يريد الغرب، أي العودة إلى اللحظة التأسيسية للبنان الحديث، مع فارق أساسي: افتقاد أي مقوم من مقومات التأسيس. الصراع هذا ينذر بمخاطر احتراب أهلي، أو صراع بأبعاد اجتماعية وأمنية وعسكرية.
مغتربون ونفط
يحدث هذا مع انهيار ساحق وشامل. لا يملك أي طرف طروحات لمشاريع قادرة على تقديم حلول. كان مفتاح الحلّ لدى حزب الله التوجه شرقًا وتعزيز القطاعات الزراعية والانتاجية. أما المؤسسات اللبنانية فلم تجد سوى استجداء المغتربين والرهان على روافدهم المالية، إما بفعل السياحة وإما بفعل التكافل الاجتماعي. وبعد الشرق والزراعة لم يجد حزب الله أمامه سوى خيار استخراج النفط والغاز للخروج من الأزمة الاقتصادية.
أعاد حزب الله الخيوط إلى يديه. طريق الإنقاذ واضح ومفهوم: لا بد من استخراج النفط. إذا احتاج الأمر لسلاح، فالسلاح موجود. والحزب على أهبة الاستعداد للقتال. وإذا احتاج الأمر إلى تفاوض وسياسة، فالحزب أيضًا جاهز ويشكل عنصر قوة في المسار التفاوضي بتهديداته ومسيّراته وصواريخه.
هكذا حضّر حزب الله الأرضية اللازمة والمسرح لإعلان انتصاره، سواء خضع الإسرائيليون لضغوط أميركية أدت إلى انجاز الترسيم سريعًا، وسط مؤشرات إيجابية تفيد بذلك، أو في حال رفض الإسرائيليون وكان الخيار الذهاب إلى مواجهة عسكرية، فيكون حزب الله رابحًا أيضًا.
صراع الهويات
على وقع هذه المعادلة، يتجدد صراع الهويات حول من يرسم الوجهة اللبنانية، وما هي الهوية السياسية التي يريدها اللبنانيون؟ تلك معركة مستمرة ومؤجلة إلى مرحلة ما بعد إنجاز الترسيم أو عدم إنجازه. وفي كلا الحالتين يكون المجتمع اللبناني على مواعيد جديدة من التشرذم والانقسام في الاستحقاقات الدستورية والسياسية، وفي البحث عن حلول اقتصادية ومالية.
الصراع هذا غير قابل للانتهاء، كحال الصراع بين حزب الله وإسرائيل، من دون إغفال معادلة الجبهات الموحدة بقيادة طهران، التي تكرس انقسامًا حول القضية الفلسطينية، بتحولها قضية دينية، بدلًا من كونها وطنية وقومية عربية.
أطروحات باسيلية
قبل أيام، قال جبران باسيل إن حزب الله انتصر عسكريًا على إسرائيل، لكنه لم ينجح في معركة بناء الدولة، ولم ينتصر في السياسة والاقتصاد. باسيل محق في معادلته. لكن طروحاته هذه تنطلق من خلفيات تكريس قواعد الانقسام التي تجاوزتها إسرائيل منذ سنوات مديدة. فهي تخطت آليات الصراع القومي، من خلال غلبة التطرف الديني اليهودي على أي طروحات أخرى. وهذا تطرف يقابله تطرف نقيض: تحويل فلسطين قضية إسلامية.
الانقسام الإسرائيلي التاريخي بين اليمين واليسار، أو بين مجموعات يهودية غربية وعلمانية، في مقابل مجموعات شرقية متطرفة، تم تجاوزه بإعلان يهودية الدولة. أما في لبنان، فيتجدد صراعه هذا، وكأنه يبدأ لتوه. هناك مجموعات بعينها قد تربح مرحليًا في هذا الصراع، وتلحق الخسارة بالآخرين. لكنه بالتأكيد لن يؤدي إلى اتفاق على هوية لبنان ووحدته. هذا مكمن الصراع المفتوح، بغض النظر عن إنجاز الترسيم أو عدمه، وكل الاستحقاقات المقبلة دستوريًا، اقتصاديًا، وسياسيًا.
المصدر: المدن