نادي أمراء الحرب

د. أحمد سامر العش

لطالما كانتِ الحربُ الأهليةُ اللبنانيةُ كتابًا مفتوحًا عمّا سوف تؤول إليه الأمورُ في مناطقنا العربيةِ في المستقبل، ويغرق كثيرٌ من الباحثين في تفاصيل تلك الحربِ مما يجعلُهم يُغفلون في كثير من الأحيان الخطوطَ العريضةَ والدروسَ الكبرى التي يمكن من خلالها رؤيةُ حالةٍ متقدمةٍ عمّا يُخطط لنا ولأولادنا من بعدنا من قبل المنظومة العالمية ومن يتحكم بأوراق اللعبة.

الحرب الأهلية اللبنانية لم تتوقف مع مطلع تسعينات القرن الماضي بل مازالت فصولُها مستمرةً إلى يومنا هذا، بل أصبحت أكثرَ شراسة في تحطيم الإنسان في فصولها اللاعنفية من فصولها العنيفة، كحال الفرق بين الاستعمار القديم والجديد.

ما يميز المرحلةَ اللاعنفية عنوانٌ عريضٌ يدعى “نادي أمراء الحرب” الذي يسمى تلطفًا بالحياة السياسية والذي سيكون سيناريوهًا مكررًا في المستقبل القريب في ثورات الربيع العربي، ذلك أنّ هذا النادي أعاد بطريقة مدروسة محكمة تدجين الشعوب بطريقة بشعة، بحيث بات قاطني هذا النادي يترحمون على الفترة العنيفة من الحرب.

تقاسمُ مقدراتِ البلاد بين أمراءِ الحرب وملوكِ الطوائف هو شكلٌ اجتماعيٌّ-سياسيٌّ جديدٌ مبتكرٌ، سوف يتكرر في بلدان الربيع العربي مع تعديلات لطيفة، هذا النادي دائمًا ما يكون له عناصرُ ثابتة، فهو يحتاج لترخيص من المنظومة العالمية، وأوصياء إقليميين ليحافظوا على قواعد اللعبة، وتقاسم الثروة أو عفوًا النهب المنظم لمقدرات الدول الحالية والمستقبلية، بمعنى النهب المبالغ فيه بحيث تكون أجيالُ المستقبل رهينةَ ما نهبه هذا النادي خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا.

لطالما كانت أدواتِ تنصيبِ الديكتاتور كملك “يملك ولا يحكم” فكرةً لطيفةً لتأطير النهب المفتوح إلى نهب مضبوط مؤطر، وكانت تلك الفكرةُ ناجحةً مع التاج البريطاني، ربّما لأنه لم يكن يتحكم بثروة بلده فقط، بل بثروة العالم! أمّا مع دول أخرى فلم تلقَ تلك الفكرةُ النجاح نفسه، ربّما لضعف ثروة البلد، أو لطبيعة النفوس البشرية، وقصر تفكيرها، التي لا ترضى بفقد أي ميزة في هذه الحياة ولو كانت صغيرةً تافهةً، فما بالك بالتحكم بمصائر البشر وكأنك إلهٌ يحيي ويميت!

مستقبلُ دولنا يُخطط على هذا النحو، ترخيصٌ دوليٌّ لنادي أمراء الحرب، ووكيلٌ إقليمي يدير هذا النادي مقابل حصة من الأرباح، ولاعبون متنوعون يتلاعبون بمقدرات البلد ومجتمعاتها وفق قواعد لا يساهمون هم أنفسهم بوضعها، بل يقسمون اليمين على احترامها كشرط رئيسي لقبولهم في هذا النادي النخبوي.

العقبةُ الأكبرُ في تشكيل هذا النادي هو تدجينُ اللاعبين؛ ليكونوا متساويي ومتعاكسي القوى بحيث تكون المحصلة النهائية صفرية، ولا يكون النادي فرصة لاستقوائهم على من منحهم الترخيص أو من يتكلف بإدارة هذا النادي من اللاعبين الإقليميين! أما العدو الرئيسي لهذا النادي، فهو الاستيقاظ الفجائي للمجتمعات بمعجزات وترتيب إلهي خارج التخطيط المحكم لقواعد هذا النادي! تلك الحالةُ الانفجاريةُ للمجتمعات لابد من تنفيسها عبر آلياتٍ مكررة نجحت على مر عشرات السنوات، على رأسها الهجرةُ والتفريغ، المساعدات الإنسانية، التدين الموجه، والسيطرة الهرمية من اللاعبين على المجتمع عبر طبقات متتالية ضيقة من المنتفعين عابرة لكافة طبقات المجتمع. هؤلاء تزداد منافعهم مع اقترابهم من أعلى الهرم، وتخف منافعهم مع اقترابهم من قاعدة الهرم لتنتهي بسلة غذائية أو بطاقة تموينية تضمن أيسرَ جزءٍ من الحاجات الحياتية.

من خلال تلك الأدوات التقليدية الناجعة تُفرَّغ المجتمعاتُ من العناصر التي تنشر الوعي ومن الممارسة الحياتية العملية للتغيير. بلاد الشام ومصر فُرغت منذ منتصف القرن الماضي من تلك العناصر الاجتماعية بإستراتيجيتين؛ “إستراتيجية الجذب” و”إستراتيجية الدفع”. إستراتيجيةِ الجذب، وعنصرُها الأولُ المالُ وتحقيقُ الثروة، وإستراتيجية الدفع، وعنصرُها الأولُ الخوف والترهيب ، تلك الإستراتيجياتُ بحاجة بطبيعة الحال إلى مناطق جذب خارجية مستقبلةٍ مسيطرٍ عليها، وتحكم بقواعدها، ولا يشكل بها الغرباءُ عناصرَ تأثير، بل على العكس تؤثرُ عليهم، وتدجنُهم لمصلحة البلد الأم، وهذه البلاد كانت دول الخليج في الماضي وأصبحت اليوم الدول الأوروبية!

محاربةُ المرشحين لدخول هذا النادي معركةٌ خاسرةٌ من الناحية الإستراتيجية؛ لأن البديل جاهزٌ وبكثرة، بل يتكاثر المرشحون عند إسقاط أحدهم! فكلما قطعتَ رأس مرشحٍ، ظهر بديله بالعشرات! وهذا ما يُضيع جهدًا كثيرًا من المخلصين للخروج من هذا السيناريو المظلم محكم الأطراف.

ما يدعونا للتفكير هو كيف يمكن إسقاط هذا النادي، أو على الأقل إيجادُ ضوابطَ ملزمةٍ للاعبيه حتى يكون للمجتمعات دورٌ في إدارة مصيرها، ولو بجزء بسيط يسير! أو يمهد طريقَ النجاة للأجيال القادمة! أو على الأقل يدفع هؤلاء اللاعبين “أمراءُ الحرب” ليقيموا اعتبارًا لتلك المجتمعات، فلا يتلاعبون بها، ويتقاذفونها كالكرة بلا رقيب أو حسيب؟! سؤالٌ علينا أن نفكر به جميعًا وأن يحتل جزءًا من تفكيرنا وممارساتنا اليومية، حتى نستحق كلمةَ إنسان في مجتمعاتنا التي لم تعاملنا يومًا الّا كرقم للإحصاء في نادي أمراء الحرب!

3/07/2022

زر الذهاب إلى الأعلى