مساع لتوحيد الكتل السيادية وتفادي التشتت السني تعيد اسم نواف سلام إلى الصدارة. قد يرى المراقب من الخارج في “معركة” تسمية رئيس حكومة لبنان المقبلة بعد أن حولت الانتخابات النيابية التي أجريت في 15 مايو (أيار) الماضي، حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وفق الدستور، إلى حكومة تصريف أعمال، أن الفرقاء اللبنانيين يخوضون معارك عبثية في شأن تشكيل الحكومة، نظراً إلى أن عمرها يقارب الأربعة أشهر لأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يفترض أن يتبوأ منصبه في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، سيحولها دستورياً، إلى حكومة مستقيلة.
لكن من يراقب من الخارج ليس وحده من يستغرب المعارك العبثية الجارية في البلد الصغير، بل إن المواطن اللبناني العادي في وادٍ والقوى السياسية المتناحرة في شأن تسمية الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة في وادٍ آخر. وبالاستماع إلى ردود فعل الشارع اللبناني المنكوب بوضعه الاقتصادي والمعيشي والصحي الذي يعاني منه، كل صباح، بفعل تقلبات سعر صرف الدولار وفقدان سلع وأدوية أساسية، حول الضجيج الإعلامي والسياسي في شأن التسمية وتركيبة الحكومة المقبلة، يدرك أن هم الناس في مكان آخر، ولم تعد تجذبهم السجالات الدورية بين أبطال اللعبة السياسية الداخلية حول الاستحقاق الحكومي. والسؤال الذي يشغل اللبنانيين هو سعر ربطة الخبز وصفيحة البنزين، وتأمين الأدوية بعد الارتفاع الخيالي في أسعارها لأنها تستورد من الخارج بسعر السوق السوداء للعملة الأجنبية، وسط عجز كامل من السلطة السياسية عن تأمين الحد الأدنى من ضبط الأسعار واتخاذ الإجراءات لإدارة الأزمة بتخفيف الأضرار عن كاهل الفقراء الذين تضاعف عددهم.
اختيار رئيس الحكومة اختبار لانتخاب الرئيس؟
إلا أن مسألة تسمية رئيس الحكومة من قبل المجلس النيابي تشغل الوسط السياسي اللبناني لأسباب عدة على الرغم من انصراف الرأي العام عنها أكثر من أي وقت، ومع إشاعة توقعات حصول الفراغ الحكومي، واستمرار حكومة الرئيس ميقاتي في تصريف الأعمال، جراء الخلافات على تأليف الحكومة الجديدة، إلى ما بعد نهاية عهد الرئيس ميشال عون، لأن الفراغ سيشمل الرئاسة الأولى نتيجة العجز عن انتخاب رئيس جديد، فإن الخريطة المفترضة لتوزع أصوات أعضاء البرلمان الجديد لمصلحة هذا أو ذاك في رئاسة الحكومة العتيدة، ستكون اختباراً لخريطة التوجهات النيابية في شأن الرئاسة الأولى. فإذا حصد رئيس الحكومة المقبل المفضل من “حزب الله” أكثرية الأصوات، يكون ذلك مؤشراً إلى أن المرشح للرئاسة سيكون من يختاره، وإذا حصد مرشح لرئاسة الحكومة مدعوم من القوى المعارضة للحزب عدداً من الأصوات المقبولة فإن ذلك يفتح الباب على البحث في مرشح للرئاسة لا يخضع لنفوذ الحزب كما هي الحال في عهد الرئيس عون، ويتم تجنب استمرارية هذا العهد سياسياً، هذا مع أن عوامل عدة أخرى تدخل في معركة رئاسة الجمهورية تجعلها مختلفة عن تسمية رئيس الحكومة.
تضاؤل الآمال بإمكان الإفادة من تشكيل الحكومة الجديدة من أجل وضع الحلول للأزمة الاقتصادية التي يتخبط أركان الطبقة السياسية في التعاطي معها منذ ما يقارب الثلاث سنوات، يحوّل الاستحقاق الدستوري الحكومي إلى بروفة حول مدى قدرة الفرقاء الذين تشكلت منهم الأكثرية المفترضة في البرلمان، على إحداث فارقٍ في تشكيل السلطة السياسية التي يمكنها أن تضع البلد على سكة الحلول، والانطباع بأن “حزب الله” فقد الأكثرية التي كان يتحكم بها في البرلمان السابق، بعدما فرض التغيير في المزاج الشعبي العام سقوط رموز موالية له في الانتخابات، وأوصل نواباً من المعارضين للتركيبة التي يرعاها “الحزب” وكتلة من الشباب التغييريين الرافضين لرموز الطبقة السياسية المتهمة بإيصال البلد إلى الدرك الذي بلغه، تبدد في انتخابات تشكيل قيادة البرلمان، في 31 مايو الماضي، وتبين أن الحزب ما زال قادراً على التحكم بالأكثرية أكثر من معارضيه.
السياديون والتغييريون نحو تسمية غير ميقاتي
وهذا ما دفع ركنين أساسيين من الفريق المعارض لـ “حزب الله” إلى الاعتراف بغياب التنسيق بين القوى النيابية المتقاربة، كما فعل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، ورئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي اعتبر نجاح نائب رئيس البرلمان الياس بو صعب من “التيار الوطني الحر” مقابل مرشح السياديين النائب غسان سكاف، “هزيمة”، داعياً إلى استدراك الأمر في الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وهذا ما أطلق مشاورات بين كتل “الجمهورية القوية” (19 نائباً) و”اللقاء الديموقراطي” (ثمانية نواب) والكتائب” (أربعة نواب) والنواب التغييريين (13 نائباً) وبعض المستقلين للاتفاق على تسمية شخصية غير تقليدية، مقابل تفضيل “الثنائي الشيعي” أي نواب “حزب الله” وحركة “أمل” (30 نائباً) والنواب الشماليين (ستة نواب)، وبعض حلفاء الحزب مثل كتلة نواب الأرمن (ثلاثة نواب) والتكتل الوطني الحليف لسليمان فرنجية (ثلاثة نواب) وجمعية المشاريع (نائبان)، وتستثنى كتلة “التيار الوطني الحر”، أي “لبنان القوي” (17 نائباً) من الكتل الراغبة في عودة ميقاتي إلى كرسي الرئاسة الثالثة، بعدما أعلن رئيسه النائب جبران باسيل رفض تسمية الأخير، فلباسيل شروط ومطالب من ميقاتي يصرّ على انتزاع التزامات بها منه، تتعلق بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتعيين بديل منه وإجراء سلسلة تعيينات إدارية وتشكيلات دبلوماسية والاحتفاظ بحقائب وزارية تمكّن من الإفادة منها لبناء نفوذ وتقديم خدمات انتخابية واكتساب منافع كثيرة، إلا أن ميقاتي عارض على طريقته، تنفيذ تلك المطالب والشروط، وثمة من يؤكد أن الفريق الرئاسي طرح إقالة قائد الجيش العماد جوزيف عون لأنه غير مطواع بالنسبة إلى باسيل ورئيس الجمهورية، على الرغم من نفي نواب “التيار الحر” طلبهم ذلك.
وبعيداً من شروط المحاصصة التي تجري ممارستها عادة في توزيع المقاعد الوزارية والحقائب الدسمة، فإن الكتل النيابية المعارضة للحزب وللسلطة الحاكمة، باتت أمام اختبار التفاهم على ترشيح شخصية في الاستشارات النيابية الملزمة التي سيجريها الرئيس عون، الخميس في 23 يونيو (حزيران)، وحول ما إذا كان التغيير الذي تجلى في نتائج الانتخابات سينعكس في اختيار رئيس الحكومة العتيدة، خصوصاً أن الخلاف بين معسكر السياديين ومعسكر “الحزب” وحلفائه قائم على شكل الحكومة وتركيبتها. الفريق الأول يغلب لديه خيار حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين، والمستقلين كي يتمكنوا من إنجاز الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي، والحزب وحلفاؤه يصرون على حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها القوى السياسية قاطبة، ولا سيما “الثنائي الشيعي” لممارسة النفوذ المباشر على القرارات كافة، على شاكلة الحكومات التي تشكلت خلال العهود السابقة وخصوصاً عهد الرئيس عون الذي أعلن صراحة أنه يريد حكومة سياسية، فهذا الخيار يسمح بالتسويات بين القوى التقليدية، لكنه يحدّ من تأثير الإصلاحيين الجديين ويخفّض من قابلية المجتمع الدولي والدول المانحة ولا سيما الخليجية، لتقديم المساعدات للبلد.
افتراق “اللقاء الديمقراطي” عن بري
ومع أن رئيس البرلمان نبيه بري كان يعوّل على انضمام كتلة “اللقاء الديمقراطي” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” إلى تسمية ميقاتي، فإنه فوجئ بإبلاغه، قبل أيام، أن الكتلة لن تؤيد عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى ترؤس الحكومة الجديدة. حجة رئيس “الاشتراكي” أن ميقاتي لم ينجز ما وعد به في شأن تسريع تلزيم إنشاء معملين للكهرباء، وفي وضع خطة التعافي الاقتصادي لإنفاذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو ينتقد التلزيمات في مرفأ بيروت، كما أن نجله تيمور جنبلاط يعتبر أنه يجب مراعاة رفض الرأي العام الذي ظهر جلياً خلال الانتخابات، عودة رموز الطبقة السياسية التقليدية إلى تبوء المسؤولية، ويميل تيمور إلى التخلي عن سياسات التسويات السابقة التي مارسها حزبه مع القوى السياسية التقليدية، وأنه يكفي مراعاته لرغبة والده إعادة انتخاب الرئيس بري لرئاسة البرلمان نظراً إلى الصداقة التي تجمعهما وإلى الرغبة في إبقاء صلة الحوار مع “الثنائي الشيعي” عبر بري.
عودة اسم نواف سلام إلى الصدارة
واستبق حزب “تقدُّم” الذي يتمثل بنائبين من التغييريين المشاورات بين الكتل السيادية بإعلانه دعم تسمية القاضي في محكمة العدل الدولية والسفير اللبناني السابق في الأمم المتحدة نواف سلام، وأدى الخليط الذي يتشكل منه البرلمان من أكثر من 10 كتل كبيرة وصغيرة ومن حوالى 20 نائباً من المستقلين المتأرجحين، إلى غموض وارتباك في احتساب كيفية توزع أصوات هؤلاء في حال انحصر السباق على التسمية بين ميقاتي ونواف سلام، وأشارت العملية الحسابية الأولية إلى إمكان حصول سلام على عدد من الأصوات يتراوح بين 51 و55 صوتاً، إذا اتفق السياديون والتغييريون على تزكيته، وميقاتي على حوالى 52 صوتاً، إذا امتنع نواب “التيار الوطني الحر” عن تسمية أي منهما، وفي ظل غموض حول موقف بعض النواب السنة القريبين من تيار “المستقبل”، فـ “حزب الله” الذي أخفقت جهوده لإقناع حليفه باسيل بالتصويت لميقاتي، طلب إليه الامتناع عن تسمية غيره، حتى لا ترجح كفة مرشح مثل سلام، يتمتع بقدر من الاستقلالية تحول دون قبوله بتنازلات مع “الحزب”. ومن هنا، إصرار الأخير على أن يكتفي باسيل بعدم تسمية شخصية أخرى إذا كان يعارض ميقاتي، بعدما لوّح بتأييد سلام وطرح أسماء أخرى لاستبعاد ميقاتي أو للضغط عليه كي يقبل بمطالبه.
النواب السنة بين التشتت وتوحيد الموقف
إلا أن المجموعة النيابية المرجحة في تسمية رئيس الحكومة العتيد هي التي تضم النواب السنة الموزعين بين الولاء لزعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري (ستة نواب)، وبين الذين ينسقون مواقفهم مع رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، وبين المستقلين والسياديين. فالحريري وميقاتي بقيا على تواصل شبه يومي خلال الأشهر الماضية، وسط معطيات عن أن الحريري يميل إلى بقاء ميقاتي في سدة المسؤولية. وتجري محاولات لتوحيد موقف أكثرية النواب السنة بصرف النظر عن اسم رئيس الحكومة المقبل، وتردد أنه الهدف الرئيس للقاءات السفير السعودي في بيروت وليد بخاري، وليس التدخل في ترجيح كفة هذا على ذاك من المرشحين كما روّج بعض الإعلام القريب من “حزب الله”. وبات التشتت الذي أصاب الساحة السنية سياسياً ونيابياً، على إثر عزوف الحريري عن الترشح وتياره في الانتخابات، وخلافه مع السنيورة على خوضها بدعم بعض المرشحين في سائر المناطق، سمة من سمات البرلمان الجديد الذي تبدو فيه الأكثرية متحركة وقائمة على الظروف وفق كل موضوع يتوجب البت به.
ويُصنف النداء الذي أطلقه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان للنواب أن يوحدوا كلمتهم في سياق هذه الجهود في ظل تأكيد أوساط دار الفتوى أنها لا تتدخل بتسمية أي مرشح، وخلفية الدعوة إلى توحيد موقف النواب السنة هي تفادي اختيار رئيس الحكومة من قبل ممثلي الطوائف الأخرى وخصوصاً الكتلة النيابية الشيعية، في ظل استمرار التشرذم السني الذي يقزّم دور نواب الطائفة في التأثير في اختيار الموقع السني الأول في السلطة السياسية.
المصدر: اندبندنت عربية