ائتلافُ الظلِ شقٌّ للصفوف أم خطوة في الاتجاه الصحيح؟

د. أحمد سامر العش

  تواجهُ المجتمعاتُ الديمقراطية صعوبةً متزايدةً في التعامل مع الطفرات الفاشية، أو «الفاشية الجديدة»؛ لأنَّ هذه تتغذّى من التصادم بين الحقِّ في حرية التعبير، والحقِّ المشروع أيضًا في أنْ يحميَ المجتمعُ نفسَه من الحركات المتعصبّة والعنيفة، التي تهدف في نهاية المطاف، إلى تقويض النظام الديمقراطي لتسود على أنقاضه.

وفعلًا تشهد بلدانٌ أوروبيةٌ كثيرةٌ منذ سنوات «صحوة» لهذه الحركات والتيارات التي تستغلّ الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تنشأ عن الأزمات، مثل الانهيار المالي في العام 2008، وجائحة «كوفيد 19»، والتسويق المبالغ فيه للمثلية الجنسية، وغالبًا ما تنخرط في المظاهرات الاحتجاجية متماهية مع مطالبها.

 العالم اليوم يختلف عمَّا كان عليه في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي الذي شهد قيامَ الحركاتِ الفاشية وازدهارها من «إيطاليا موسوليني» إلى «ألمانيا هتلر» و«إسبانيا فرنكو» و«برتغال سالازار». لكنَّ كثيرين لا ينسون أنَّ تلك الحركاتِ إنَّما تولّدتْ من رحم الظروف الاقتصادية والاجتماعية، التي تشبه إلى حد كبيرٍ الظروفَ الراهنةَ التي نشأت عن أزمات متلاحقة توّجتها جائحة «كوفيد 19»، قبل أنْ تنشبَ الحربُ في أوكرانيا، وتصل معدلات التضخم إلى مستويات قياسية. وكانت هذه الظروفُ الأرضَ الخصبةَ التي نمت فيها الحركاتُ اليمينيةُ المتطرفةُ، لتصل إلى الحكم، وتبدأ بتنفيذ برامجها وخططها العنصرية بتأييد شعبي واسع، ويُضاف إلى ذلك أنَّ أزمةَ الهجرة التي تتعاقب على أوروبا منذ سنوات ساهمت بنسبةٍ كبيرةٍ في صعود شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت هامشيةً جدًّا قبلها، وأوصلت بعضها إلى السلطة في حكومات ائتلافية.

 لكن ما علاقةُ هذا الحديثِ عن ائتلاف الظلِّ السوري خصوصًا، وفكرةِ تأسيسِ معارضات الظلِّ العربي عمومًا؟ القاعدة تقول لا يتعلّمُ الأفرادُ السياسةَ إلَّا في مجتمع سياسيٍّ، تمامًا، كما لا يتعلّمون القانون إلَّا في مجتمع تسوسه القوانين.

هكذا مثلًا زخرتِ المعارضةُ الكوبيّةُ المقيمةُ في ميامي بنشاطات واهتمامات يصعُبُ ربطُها بالسياسة وبالقانون. الشيءُ نفسُه يصحُّ في أغلب الروس الذين تصدّوا لوراثة الاتّحاد السوفياتيّ، وفي الكثيرين ممّن صاروا «سياسيّين» عراقيّين بعد سقوط صدّام، أو في زملاء لهم سوريّين أملوا بوراثة الأسد.

هؤلاء جميعًا أنتجهم واحدٌ من اثنين: إمَّا التعطيلُ السياسيُّ في بلدهم لصالح «سياسة» تُحصَرُ ممارستُها بزعيم واحد وحزب واحد، أو العيش في المنفى. لقد جاؤوا إلى السياسة من صفر سياسيّ.

بهذه الكلماتِ الصادقةِ افتتح حازم صاغية مقالة له بعنوان “لماذا نسي اللبنانيون السياسة”. السياسة تصنع “ثورات بيضاء” كالتي أطاحت، في 1952، برئاسة بشارة الخوري في لبنان، أو انتخابات من نوع انتخابات 1968 التي أفضت إلى تغيير نوعيٍّ في الخيارات السياسيّة الكبرى للدولة اللبنانية. يردف حازم صاغية، وهو محقٌّ في ذلك، وكذلك يمكنُ وصفُ اليمين الفاشي في بداية القرنين العشرين والواحد والعشرين بصراع صحيٍّ طبيعيٍّ في مجتمع يحتاج إلى حلول لمشكلات يواجهها! وهنا لا نتحدث عن أخلاقيات اليمين الفاشي، بل عن أسباب ظهوره.

  هذا كلُّه يقود إلى فكرتين جوهريتين، أولهما: مطالبةُ المعارضات بالتوحُّد (لرص الصفوف ومواجهة الديكتاتوريات المدعومة أساسًا من المسوقين لفكرة التوحد)، وهذا بالتأكيد فكرةٌ غيرُ واقعيةٍ تؤدي إلى أمرين، أولهما: السيطرةُ على قرار المعارضة من خلال محاولةِ دفعِ العملاءِ الى رأس مؤسسات المعارضة، وثانيهما: العزوفُ والاعتكاف عن السياسة من قبل الذين لا يخضعون للمتحكمين بخيوط اللعبة، بحيث يغدو العزوفُ والاعتكافُ الطريقةَ الوحيدةَ المتاحةَ لمن يخالف فكرةَ براغماتيةِ الخيارات على طريقة سعد الحريري، ومقتدى الصدر، وبعض المعارضين الثوريين الصادقين (مع الفروقات الشاسعة بين هذه الأمثلة) .

الفكرة الجوهرية الثانية: محاولةُ تصنيعِ البديل الذي يسهُل التحكُّم به، وعندها تصبح الرؤوسُ المتعدّدة محصورةً برأس أو رأسين على الأكثر، وهو ما جرى مع وصول السيسي في مصر وقيس سعيد في تونس.

إذن لعبةُ الجي فور في الائتلاف السوري ستتحول مع الوقت إلى جي تو أو جي ون، عندها ينضج البديلُ الذي هو شكلٌ جديدٌ للقيادات المصنَّعَةِ في أقبية الاستخبارات الدولية، التي تأتي ضمن صفقات لن يكون الشعبُ السوري ومصالحُه بالتأكيد جزءًا منها.

انتقالُ المجتمعات من مجتمعات تنتشر بها مقولة “إيَّاك والحديثَ بالسياسة”، إلى مجتمعات تملك الوعي السياسي، يحتاج إلى أمرين لا غنى لأحدهما عن الآخر، وهما: الوعي، والممارسة؛ لذلك لا يشكل الاعتزال عن السياسة سلاحًا فعَّالًا؛ لأنَّ الممارسةَ جزءٌ لا يتجزأ من عملية صناعة التغيير.

في معادلة الوعي والممارسة يصبح نضجُ المجتمعاتِ سياسيًّا عاملًا زمنيًّا بشرطِ وجودِهما معًا، أمَّا في حال فَقْدِ أحدهما، فيصبح أيٌّ منهما عاملَ تصحرٍ للآخر، كما هو وضعنا منذ الاستقلال إلى يومنا هذا (حيث قضتِ الحركاتُ الاشتراكيةُ العسكريةُ وحكمُ القبيلة، على الوعي السياسي الذي صنعته حركاتُ الاستقلالِ والتحرر من الاستعمار القديم، لتصبح فيما بعد لاعبًا رئيسًا في الاستعمار الجديد الأكثر توحشًا).

  صنعُ التغيير فقط من خلال التعليم والوعي، دون محاولةِ خلقِ حياةٍ سياسية، وممارستها بأيِّ شكل من الأشكال حتى البدائي منها هو تكرار لأخطاء الماضي؛ لأنَّ النظام السياسي لا ينضج إلَّا من خلال الصراعات سواء العنيفة منها أو السلمية، وهو لا يسقط من السماء، ولا يجب أنْ يخرج من أقبية الاستخبارات، كما هو الحال اليوم. نعم لم يبقَ إلَّا المخبرون والعملاءُ لكنَّ انكفاء المخلصين شكل جزءًا ولو يسيرًا من نجاح الثورة المضادة. ومن هنا تأتي فكرةُ ائتلاف الظل.

الفكرة ليست جديدة، فهي ممارسةٌ في أرقى وأقدم ديمقراطية موجودةٍ حاليًّا “بريطانيا”، حكومة الظلِّ بالشكل المتعارَف عليه، تتألف من مجموعة كبيرة من المتحدثين الرسميين المعارضين، الذين يُشكِّلون تحت قيادة زعيم المعارضة، حكومةً بديلةً عن الحكومة التنفيذية، بمعنى هناك وزيرٌ مقابلُ أيِّ وزيرٍ، ولجنةٌ مقابلُ أيِّ لجنةٍ، ويظل أعضاؤها يعكسون مواقفهم تجاه كلِّ تصرف وقرار وعضو في مجلس الوزراء أو اللجان التخطيطية والتنفيذية.

لكن هناك هوسٌ دائمٌ لدى المنظرين القدامى والحاليين بأنَّ مثلَ هذه الأفعالِ تحتاج إلى بيئاتٍ سياسيةٍ ناضجةٍ ووعيٍ جمعيٍّ لدى المجتمعات، وهو بالتأكيد أمرٌ نفقده منذ زمن بعيد؛ لكن تبدو هذه المبرراتُ حقائقُ يُرادُ بها باطلٌ، وسأدفع بالقصة التالية لإثبات أن طريقَ الألف ميل يبدأ بخطوة، وإنْ كان لأهداف وغايات مختلفة. يعدُّ الكثيرُ من المختصين أن “إعلان الاستقلال” الأمريكي (1776)، و”وثيقة الحقوق” البريطانية(1689) و”إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الفرنسي(1789) ولدت جميعُها من رحم ورقة ماغنا كارتا Magna Carta ومعناها باللاتينية الميثاق العظيم.

في كثير من الأحيان، كان ملوك إنجلترا يحاولون تجاهل ماغنا كارتا، ولكن الوثيقة كانت الخطوة الأولى باتجاه تقليص صلاحياتهم وسلطاتهم، فبينما تآكلت تلك الصلاحياتُ تدريجيًّا، وعبرفترة زمنية طويلة، تعاظم نفوذُ النبلاء أولًا ثم البرلمان لاحًقا، حتى لم يعدْ للملك أو الملكة أيُّ دورٍ سياسيٍّ على الإطلاق.

أسس “الميثاق العظيم-الماغنا كارتا” للفكرة الحقوقية الحديثة التي تنصُّ على أنَّه لا يمكن سلبُ الحقوقِ الأساسية للأفراد، أو التدخلُ فيها إلَّا من خلال إجراءات قانونية سليمة.

أسس ماغنا كارتا كذلك لمبدأ الحكم بالتراضي الذي تحوَّل إلى الحق في انتخابات حرة ونزيهة، وشمل بنودًا تحظر الرشوة والفساد الحكومي.

نصتِ الوثيقة أيضًا على حق الكنيسة في التحرر من نفوذ الحكومة، وحق جميع المواطنين الأحرار في امتلاك وتوريث الممتلكات، وحمايتهم من الضرائب المبالغ فيها.

كما أنَّها نصَّتْ على حق النساءِ الأرامل اللاتي لديهن ممتلكاتٌ أنْ يؤثرن عدم الزواج مرة أخرى، وأسست لمبدأ تساوي الجميع أمام القانون.

لم تحقق وثيقة ماغنا كارتا -التي لم يُطلَق عليها هذا الاسم إلَّا بعد سنوات من صياغتها -نجاحًا كبيرًا وقت صدورها؛ فقد فشلت في منع الحرب الأهلية في ذلك الوقت، ووصفها بابا الكاثوليك آنذاك، البابا إنوسنت الثالث، بأنَّها “غيرُ قانونية وغيرُ عادلة، وتقوض الحقوق الملكية، وبمثابة عار على الشعب الإنجليزي”.

لكنَّ أهميتَها تكمن في رمزيتها كواحدة من أول الوثائق التاريخية في الغرب التي وضعت بذور مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية. وفي القرون الثمانية التالية لصياغتها، صدّرت ماغنا كارتا تلك الأفكارَ والمفاهيمَ لمختلف أنحاء العالم.

كانت ماغنا كارتا أولَ وثيقةٍ مكتوبةٍ تؤسسُ لحكم القانون، وتحَجِّمُ صلاحياتِ الملكِ ونفوذه، وتسمحُ لملاك الأراضي الأثرياء بأنْ يكون لهم رأيٌ في أيِّ ضرائبَ جديدةٍ يرغب الملك في فرضها. ولكن عند صياغتها، كان الهدفُ الرئيسي من ورائها هو أن تكون ببساطة اتفاقيةً مؤقتةً لتحقيق السلام، ومنع نشوب حرب أهلية.

تعني عبارة ماغنا كارتا “الميثاق العظيم” باللغة اللاتينية، وقد صاغها النبلاء البريطانيون في القرن الثالثَ عشرَ الميلادي، بهدف تقليص صلاحيات الملك ونفوذه وقدرته على الانفراد بالحكم.

بينما كان الملك جون يشن حربه الكارثية في فرنسا، اجتمع كبار البارونات الإنجليز سرًّا، واتفقوا على إجباره على احترام حقوقهم وحقوق رعيته، وعندما عاد، قدّموا له سلسلة من المطالب تلك على شكل ماغنا كارتا.

حاول الملك حشدَ التأييد؛ لكي يتفادى الرضوخ لتلك المطالب، لكن يبدو أنَّ غالبية أتباعه انفضوا من حوله، ومع ضعف موقفِه وانخفاضِ شعبيته، لم يتمكن جون من مقاومة البارونات والأساقفة الذين أيدوهم، وقبل في نهاية المطاف الاجتماع بهم، ووضع ختمه على وثيقة المطالب التي عرفت بالماغنا كارتا في 15 يونيو/حزيران عام 1215.

إنَّ تشكيلَ ائتلافِ الظلِّ هو ليس دعوةً لشقِّ الصفوف، بل لإيجاد آليات للحياة في مستنقعات العمل السياسي الذي كان لسنوات يخضع لبراغماتية المصالح الضيقة الفردية، أو يخطط، وينفذ بأدوات خفية في أقبية الاستخبارات، وفي سطور الاتفاقيات السرية، بين من يملكون الأدوات! بين1215 و 1689 أعوام طويلة، لكنَّها أثمرت من خلال الممارسة حقوقًا أفضل، ومكَّنت بريطانيا من السيطرة على العالم منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.

أدعو المخلصين إلى تبني فكرة ائتلاف الظلِّ-الذي هو شكلٌ معدَّلٌ عن حكومة الظل في النظام الأنجلوسكسوني-فهو حقٌّ علينا تجاه المظلومين والمهجرين والمعذبين والشهداء. وهي دعوة لمن يملك حرية قراره ولو بالحد الأدنى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى