أخيراً، حل زمن الصمت الانتخابي في فرنسا واضعاً حداً للجدل السياسي الذي اجتاز عتبة الانتقاد والتنديد ملامساً حافة الهجاء والإهانات المباشرة بين الطرفين الرئيسيين للانتخابات التشريعية في جولتها الثانية والأخيرة غداً الأحد. وبانتظار أن يظهر تباعاً على شاشات التلفزة أول الأرقام والنسب وصور الفائزين والخاسرين، بدءاً من الساعة الثامنة من ليل الأحد، فإن السؤال المركزي الذي تدور حوله التساؤلات يتناول معرفة ما إذا كان التكتل السياسي للرئيس إيمانويل ماكرون المسمى «معاً» سينجح في الحصول على الأكثرية المطلقة داخل البرلمان أم أن الناخبين، بأغلبية ساحقة، وفق استطلاع للرأي نشر يوم الخميس الماضي، لا يريدون له التمتع بهذه الأكثرية. وبالمقابل، ما زال تجمع الأحزاب اليسارية والبيئويين، بزعامة جان لوك ميلونشون، المرشح الرئاسي السابق، يأمل في تحقيق إنجاز «تاريخي» ليس فقط عن طريق حرمان ماكرون من الأكثرية، بل الفوز بأكبر عدد من المقاعد بحيث يلزم ماكرون بأن يسمي ميلونشون رئيساً للحكومة القادمة.
منذ انطلاقة الجمهورية الخامسة في ستينات القرن الماضي على يدي الجنرال ديغول، نادراً ما واجه رئيس منتخب حديثاً وضعاً كالذي يواجهه ماكرون بمعنى حرمانه من أكثرية مريحة تمكنه من تنفيذ برنامجه السياسي والوفاء بوعوده الانتخابية. ويبين آخر استطلاع للرأي أجراه معهد «إيفوب فيدوسيال» ونشرت نتائجه أول من أمس أن تكتل «معاً» الذي يضم حزب ماكرون «النهضة وسابقاً الجمهورية إلى الأمام» والأحزاب الرديفة من اليمين والوسط يمكن أن يحصل على 265 إلى 300 مقعد في الندوة البرلمانية القادمة. وبسبب الهامش الكبير بين الرقمين بسبب طبيعة الاقتراع القائم على أساس الدائرة الصغرى، فليس من المؤكد أنه سيحصل على الرقم السحري أي الـ289 مقعداً. وفي الساعات الأخيرة، ركز ماكرون ومعه أركان التكتل على المخاطر المتأتية من غياب الأكثرية المطلقة حيث ستدب «الفوضى» وسيتعطل العمل الحكومي… وكان الأخير قد أثار موجة من الاحتجاجات والانتقادات بسب المؤتمر الصحافي الذي عقده على أرض مطار أورلي قبيل توجهه إلى رومانيا في زيارة رسمية وخلفه الطائرة الرئاسية إذ دعا الناخبين إلى «انتفاضة جمهورية» وإلى مده بـ«أكثرية صلبة من أجل المحافظة عل النظام في الداخل والخارج» وذلك باسم «مصلحة الأمة العليا». ولمزيد من الدرامية، أكد الرئيس الفرنسي أن مواطنيه موضوعون أمام «لحظة الخيار» معتبراً أن «لا شيء سيكون أسوأ من ضم الفوضى في الداخل الفرنسي «في حال لم يحصل على الأكثرية» إلى الفوضى خارج الحدود «في إشارة إلى الحرب الروسية على أوكرانيا».
لم تتأخر الردود على ماكرون وسارع ميلونشون إلى التنديد بما وصفه «إسكتش على طريقة دونالد ترمب»، الرئيس الأميركي السابق فيما اعتبر جوليان بايو، أحد قادة حزب الخضر أن ماكرون «يفقد أعصابه»، بيد أن الأهم في كلام الأخير هو اعتباره تحذيرات ماكرون بالغة الخطورة «لأنه لا يتردد في النظر إلى خسارته (الانتخابات النيابية) على أنها خسارة للجمهورية» بينما هي في الواقع هزيمة له. وبالمقابل، أكد بايو أنه «ستكون بمثابة نبأ سار بالنسبة للبيئة والخدمات العامة والرواتب…». وتجدر الإشارة إلى أن تكتل ماكرون لا ينفك عن مهاجمة برنامج ميلونشون و«الاتحاد الشعبي الجديد الاجتماعي والبيئوي» الذي يقوده، إذ يرى فيه انهيار الاقتصاد الفرنسي والطلاق مع الاتحاد الأوروبي ومع الحلف الأطلسي إضافة إلى الطلاق مع قيم الجمهورية.
يبدو من الصعوبة ترجيح فوز التكتل الأخير بالأكثرية النيابية. ووفق الاستطلاع المشار إليه، فإن تكتل ميلونوشون يمكن أن يحصل على 180 إلى 210 مقاعد وبذلك يكون ما زال بعيداً جداً عن عتبة الـ289 نائباً الضرورية للإمساك بالأكثرية، إلا أن وصول هذا العدد الكبير من النواب إلى الندوة البرلمانية سيغير تركيبة البرلمان ويقلبها رأساً على عقب. ففي السنوات الخمس الأخيرة من عهد ماكرون، كان الأخير يتمتع بأكثرية أكثر من مريحة وكان بوسعه تمرير كافة القوانين التي يريدها. ولكن مع وجود كتلة يسارية معارضة ومتراصة وإلى جانبها كتلة معارضة من اليمين المتطرف سيتراوح عديدها ما بين عشرين إلى أربعين نائباً، فإن المناقشات النيابية حول مشاريع القرارات الحكومية ستكون منهكة، سواء أحصل ماكرون على أكثرية مطلقة أم لم يحصل. وفي الحالة الثانية، سيحتل نواب اليمين الكلاسيكي «حزب الجمهوريين» «ما بين 40 إلى 65 نائباً» موقعاً مميزاً لأن تكتل ماكرون سيكون مضطراً للمساومة معهم لتمرير مشاريع القوانين. ومنذ اليوم، يدور جدل داخل الحزب المذكور حول الطريقة التي يتعين عليه اتباعها لتعاطيه مع حكومة رئيس الجمهورية: هل سيكون التعاون «على القطعة»؟ أم أن الأفضل التفاهم على برنامج حكم كما هي الحال مثلاً في ألمانيا؟ السؤال سيبقى مفتوحاً حتى صدور النتائج النهائية.
يبقى أن الأنظار ستتجه إلى معرفة نسب المشاركة في هذه الجولة التي تنتهي معها الدورة الانتخابية التي شغلت الفرنسيين منذ شهور. فيوم الأحد الماضي، بلغت نسبة المقاطعة 52 في المائة وهي نسبة استثنائية في العقود الثلاثة الأخيرة. والتوقعات المتداولة تؤشر إلى نسبة مشاركة متدنية غداً. لذا، فإن الكتل الثلاث الرئيسية ركزت أنشطتها على دعوة الناخبين إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع. والواضح اليوم أن صورة الخريطة السياسية الفرنسية قد تثبتت دعائمها حول ثلاث مجموعات: اثنتين على طرفيها وهما اليمين المتطرف «حزب التجمع الوطني» واليسار الذي أقرب إلى التشدد «الاتحاد الشعبي الاجتماعي والبيئوي الجديد» وبينهما كتلة وسطية ــ يمينية «معاً» بينما ضمرت الأحزاب التقليدية التي تناوبت على السلطة منذ ستين عاماً. ولأن القانون الانتخابي الفرنسي يخرج من المنافسة أي مرشح لم يحصل على 12.5 في المائة من أصوات الدائرة التي يترشح عنها، فإن هناك العديد من الدوائر التي يتنافس فيها مرشحا اليمين المتطرف ويسار ميلونشون. ولذا، فإن السؤال الذي فرض نفسه على تكتل ماكرون تمكن صياغته بالشكل التالي: لمن سيقترع ناخبوه غداً الأحد؟
حقيقة الأمر أن الارتباك كان سيد الموقف. وماكرون بقي بعيداً عن الدخول في الجدل الذي أظهر وجود تخبط لا مثيل له: من جهة، ثمة من يساوي بين الطرفين. ومن جهة ثانية، رأى فريق آخر أنه لا يمكن الخلط بينهما وحجة هؤلاء أن ماكرون احتاج لأصوات اليسار للتغلب على لوبن التي لولاها لما بقي في قصر الإليزيه. وحتى قبل ساعات من التوجه إلى صناديق الاقتراع، ما زالت ترجيحات الجدل قائمة وبقوة.
المصدر: الشرق الاوسط