إلى أن يصرخ السوريون جميعاً

مالك داغستاني

هل تراهن الدول المشرفة والمتحكمة بالملف السوري على عامل الزمن، كفاعل أساسي لحل ما؟ على الأرجح نعم، فاضطلاعها بكل ما يجري يكاد يكون حقيقة لا جدال فيها، ومن ضمن تلك المجريات، آلية الحل النهائي، المتضَمَّنة في القرار الأممي 2254، المجدول على أربع مراحل: “الحكم، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب”. طبعاً غيرُ خافٍ على أحد، أنه وبرغم مرور سبع سنوات، من تاريخ صدور القرار، وتوافق الدول الفاعلة حوله، لم يتمّ إنجاز أي خطوة منه، باستثناء تشكيل اللجنة الدستورية عام 2019، هذا في حال اعتبار التشكيل بحد ذاته إنجازاً، وهو اعتبارٌ أثبتت ثلاث سنوات سذاجته.

بتاريخ 18 شباط/فبراير 2021، وعبر الموقع الرسمي لمكتب المفوض السامي، التابع للأمم المتحدة، نشرت لجنة تقصي الحقائق في سوريا، تقريراً جاء فيه: “إنّ جميع الأطراف لا تزال غير راغبة، إلى حد كبير، في التحقيق بشفافية، وعرض النتائج بشكل علني. إنه إهمال مؤسف من قبل المجتمع الدولي”. هل هو إهمالٌ فعلاً؟ وما هي التحقيقات التي تشكو اللجنة من لا علنية نتائجها؟ والأهم هل يحرصُ (المهمل) على السرية؟ إذا قاطعنا تقرير لجنة تقصي الحقائق، مع نهج الولايات المتحدة التي آثرت مع حلفائها إدارة الصراع في سوريا، بدلاً من الانخراط الفعلي للعمل على إنهائه، يمكننا ببساطة اعتبار إطالة أمد الصراع واستنقاعه سلوكاً ممنهجاً، من قبل الدول الممسكة بالملف السوري.

تختلف وجهات نظر المحللين السياسيين، بين من يرى أنّ إطالة أمد الصراع، يهدف إلى استمرار تحقيق مصالح الدول العظمى المتحكمة بالملف، وبين من يسفَّهُ نظرية وجود مصالح مجدية، تستحق الكلفة الباهظة لما نتج، وما قد ينتج من أزمات، خلّفها هذا الصراع المديد، على الصعيدين الإقليمي والدوليّ. يرى الفريق الثاني أنّ رهانَ أرباب الحلّ، على استنزاف جميع الأطراف وإنهاكها، هو ما سيرسم الطريق نحو حل يرضخُ لهُ الجميع، وأنّ انعدام البدائل والخيارات الأخرى، ألزم الدول الفاعلة بتبنّي هذا الحلّ المطعون في إنسانيته. فلا دولة ديكتاتورية مقبولة دولياً (ظاهرياً على الأقل)، ومن غير المقبول أكثر، بديل قروسطي عاجز عن مجاراة العصر، تمثله الأطراف المسيطرة على الشمال السوري.

عندما أرادت تلك الدول إنهاء العمليات العسكرية والمعارك (الحقيقية) في سوريا، تمكنت من تحقيق ذلك بإخطار توافقي، مع العلم بأنّ قراراً بمستوى إنهاء العمليات العسكرية، يتطلب تحكّماً كاملاً، بقرارات جميع الأطراف المتقاتلة على الأرض السورية. وحصل ذات الأمر حين أرادت هذه الدول، تشكيل لجنة دستورية يجلس فيها المتحاربون على طاولة واحدة، فحدث الأمر خلال شهر واحد وبتنسيق بسيط، رغم مرور أربع سنواتٍ على صدور القرار الأممي 2254 عام 2015. لتعود بعدها تلك الدول لتجميد قضية السوريين، والاكتفاء بدور المتابع لاجتماعات هذه اللجنة، التي تنتقل من عبث إلى عبث.

بعيداً عن جدليّة النّصر الحتميّ “المكفول” بحرمة دماء مئات آلاف المظلومين، فهو نصرٌ يُنتظَر من السماء، وليس من الفاعلين الأرضيين. يبدو أن ما تسعى إليه تلك الدول هو الطعن بوحدانية “علاج الكيّ” الذي كان يعني بدايات الثورة لدى السوريين، القبول بتقديم الضحايا مقابل سقوط النظام برمّته، والوصول إلى الحريّة وإلى دولة عصرية. اليوم، بعد كل ما جرى، لم يعد لدى أحد من السوريين الوهم بالحصول على الحقوق البديهية، وهي معاقبة عشرات آلاف المجرمين، واسترداد حقوق شعب كامل، منع من الحياة الطبيعية لنصف قرن، ودفع أثماناً باهظة حين أراد استردادها، فما زاده ذلك إلا خسارات أخرى، أدناها الاغتصاب والقتلُ والتهجير وسلب أرزاق ملايين السوريين، وأعلاها جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية طالت معظم السوريين.

طبعاً يجب ألا يفوتنا هنا أنّ الحدود بين بعض الضحايا والجلّاد، فقدت استقامتها عبر السنوات، فحقيقةُ أنّ النظام السوريّ وميلشياته الحليفة، هم أكبرُ المساهمين في هذه الجرائم، لا تعني أن جميعَ الآخرين أبرياء، رغم أن الفارق بين الفريقين هائل، من حيث حجم الإجرام كمّاً وكيفاً. بأقلّ مجهودٍ ومن دون أيّ عناء، يستطيعُ أي متتبّعٍ، لصفحات السوريين عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، رصْدَ عدّة ظواهر جمعيّة، تؤكّدُ أن الحلَّ لن يمرّ عبر بوابة “توافق طوعي” بين الأطراف السورية، وأنّ الانتهاكات والجرائم ستستمرّ، ما لم يتمّ استئصالُ مخالب وأنياب الجميع.

خلال الاجتماع الأخير للجنة الدستورية، قال أحد أعضاء وفد النظام، ربما رداً على مقترح متعلق بالعدالة الانتقالية، قدمه وفد المجتمع المدني: “إن العدالة مطلوبة، ولكن لصالح تعويض سوريا والسوريين، من مغبّات الحرب التي أعلنتها دول خارجية على سوريا حكومةً وشعباً، وإن المحاكمات المطلوبة، يجريها المنتصرون في الحروب ضدّ الخاسرين”.

تقدّمُ لنا مداخلة عضو وفد النظام تلك، دليلاً دامغاً (نعرفه جميعاً)، على عبثية الجولات الثماني، في ظلِّ تمسّك النظام برواية الحرب الكونية عليه، ثم خروجه منتصراً على الكون، وعليه هو أن يحاسب الآخرين. تختصرُ فقرة من بيان المبعوث الأممي “غير بيدرسون” في نهاية الجولة، الفاشلة بشهادة الجميع، كثيراً من الشرح والتحليل: “أنا قلقٌ بشأن استمرار النقاش بهذه الوتيرة، مما قد يتطلّبُ سنواتٍ للنقاش حول المبادئ، قبل أن نصل الى صياغاتٍ نهائية”. إذاً بعد ثلاث سنوات، هناك سنوات تالية للمبادئ، وبعدها ربما سنوات أخرى للصياغة النهائية!

الأطراف الدولية التي تستطيع، حين تشاء مصالحها، فعلَ الكثير، هل حقاً ما زالت عاجزة عن إلزام نظام الأسد بأي شيء، حتى لو بتغيير روايته المتهافتة والوقحة عما جرى؟ الرد البديهي أنها طبعاً غير عاجزة، لكنها على الأغلب، تنتظر لحظة اختمار الحلّ المنشود، الذي سيأتي بفعل الرهان على الزمن. لحظة يصرخ فيها جميع السوريين: “لا غالب ولا مغلوب. تعالوا كي نوقّع لكم على صكّ أبيض تملؤونه كيفما شئتم”.

هل بدوت لكم، كعهدي، متشائماً؟ كما تعلمون، أنا فرد من جيش المحبطين السوريين، لكن سأجرّب هذه المرة أن أخيّبكم. حاولت هنا تقديم قراءة شخصية مبسطة لحالة الاستنقاع، كي أبحث عن حل! ومن أنا لأجد الحل؟ لست أنا، وإنما نحن. أجل نحن الذين نجلس في بيوتنا من دون أي فعل يذكر، وخارج دائرة الحركة، محتفظين لأنفسنا بحق نقد الآخرين وتوبيخهم على أدائهم. الوقائع تدلل أننا محقون بهذا التوبيخ لكل الأجسام السياسية والعسكرية، التي تصدت للشأن السوري، أقلّه بحسب ما آلت إليه الأحوال، وهي تتنازل وتّرتَهن للفاعلين يوماً بعد يوم. ولكن هل النقد والتوبيخ يكفي؟ لا.

قد يبدو ما سأورده هنا نوعاً من حلمٍ، بعد كمِّ الفشل المتراكم، وأنه لن يضيف سوى ركاماً للركام الموجود. لا بأس، لكن يحق للسوريين المحبطين مما آلت إليه الأوضاع السورية، أن يكون لهم جسم ما، تقريباً غير منخرط بالسياسة بمعناها المباشر، يمثل الضمير الوطني السوري، ويعمل بدأب على جمع السوريين، ليصبح في يومٍ ما، هو الفاعل الأساسي القادر على الخروج من هذا السكون الإباديّ.

ثم لنفترض أن تغيراً ما، في ظرفٍ ما، طرأ على الموقف الدولي من المسألة السورية، فهل نقابله بالأجسام الحالية، التي يتعامل معها العالم بازدراء، ونقدمها لهذا العالم كبديل عن نظام الأسد؟ لست بوارد طرح أية آلية، وبالتأكيد لست أهلاً لذلك. لكن على السوريين جميعاً أن يفكروا بهذا البديل غير المرتهن. حيث يمثل أشخاصه بأخلاقياتهم، ما يمكِّننا من تحقيق بعض الإجماع على وطنيته، لنلاقي به أي ظرف مستجد. جسم له صوت وصدى في مجتمعه، حتى يتمكن من الحوار مع الآخرين ومع المجتمع الدولي من موقع الند المحترم، باعتباره ممثلاً للسوريين وليس ذيلاً لأحد. ذواتُ شخوصهِ ليست منتبجة، وليس لديهم أية حسابات للمكاسب الشخصية والأنانية. والأهم أن يكونوا ممن يترفعون عن اللهاث وراء المناصب والمصالح. هل هذا ممكن؟ الجواب لا، بحسب تاريخٍ طويل من تشكيل أجسام جديدة خلال العقد الأخير، لكن الجواب بلا لا يكفي. فيمكن أن تكون تلك “اللا” سهلة لنا، نحن الذين لا نقطن الخيمة منذ عشر سنوات، بمعنى “لا نأكل العصيّ” وفقط نجيد “عدّها” بإتقان، لكن إيجاد وخلق صوت يستعيد شيئاً من ألقِ 2011، حين امتلك السوريون صوتهم. صوتٌ يتمكن من اختراق الأصوات السائدة والمكررة، مختلفٌ ويلامس قلوب وعقول السوريين يستحق المحاولة، وقد ينجح.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى