العملية التركية ومحنة اللاجئين السوريين

عبد الباسط سيدا

موضوع اللاجئين السوريين في تركيا بات موضوعاً انتخابياً، تستخدمه أحزاب المعارضة والحكومة من مواقع مختلفة، وعبر مقاربات متباينة تتقاطع حول ضرورة إعادة اللاجئين إلى بلدهم.

فبينما تحاول أحزاب المعارضة استغلال هذا الموضوع لبيان إخفاق الحكومة في تعاملها مع الملف السوري بصورة عامة؛ تحاول الحكومة من جهتها إثبات قدرتها على حل هذا الموضوع من خلال تهيئة الأرضية في الداخل السوري، الأمر الذي سيدفع، وفق تصريحات مسؤوليها، باللاجئين السوريين نحو العودة الطوعية إلى بلادهم.

الخلاف المعلن بين الحكومة التركية ومعارضتها حول هذا الموضوع يتجسد في طريقة الإعادة. فبينما ترى المعارضة، أو ربما بكلام أدق بعض أحزاب المعارضة، بأن الحل يتمثل في التواصل مع سلطة بشار الأسد، والتفاهم معها من أجل ترتيب موضوع الإعادة، وذلك في سياق جملة من التفاهمات حول قضايا حدودية أمنية، والعلاقات المستقبلية، وموضوع «حزب العمال الكردستانيPKK» ترى الحكومة أن الحل يكمن في المنطقة الآمنة التي طالما بشّر بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وطالب بها. وهي منطقة من المفروض أن تمتد، بناء على ما يُستشف من التصور الحكومي التركي، على طول الحدود التركية – السورية التي تبلغ نحو 9000 كم، وبعمق يصل إلى نحو 30 كم؛ وهذا فحواه أن المنطقة المعنية ستشمل جميع المدن والبلدات الحدودية، خاصة تلك التي يغلب عليها الطابع الكردي، بدءا من عفرين من الغرب ووصولاً إلى ديريك/ المالكية في أقصى الشرق مرورا بكوباني/ عين العرب ورأس العين/ سري كانيي والدرباسية وعامودا والقامشلي وتربة سبيي/ القحطانية ورميلان أو معبدة.

أما الهدف المعلن، إلى جانب الاعتبارات الأمنية، فهو الإعداد لنقل نحو مليون لاجئ سوري، وربما أكثر، من المقيمين في تركيا حالياً، وإسكانهم في تلك المناطق، الأمر الذي ربما يخفف من حدة المناقشات حول موضوع اللاجئين السوريين في تركيا بين الأحزاب التركية، ولكنه سيؤدي إلى إشكاليات ضمن الواقع السوري؛ إذ أن هؤلاء اللاجئين لن يُنقلوا، في حال تم تنفيذ المشروع، إلى مناطقهم الأساسية، وإنما إلى مناطق أخرى يعيش فيها سكانها، وهذا معناه أن المشروع سيؤدي إلى موجة، إن لم نقل موجات هجرة داخلية وحتى خارجية جديدة، وذلك كما حصل حينما دخل الجيش التركي إلى منطقة عفرين ومن ثم تل أبيض ورأس العين.

من ناحية أخرى، يلاحظ أن مساعي الأحزاب التركية في ميدان التركيز على موضوع اللاجئين السوريين، ومحاولات الربط بين هذا الموضوع وبين الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، وهي الأزمة التي تنعكس سلباً على معيشة الناس، قد أدت، وتؤدي، إلى تشكّل تيار عنصري في المجتمع التركي، معاد لوجود اللاجئين السوريين، يتمظهر في الكثير من الأحيان في شكل اعتداءات على السوريين في العديد من المناطق، لا سيما في المناطق الحدودية، وآخر هذه الاعتداءات كانت ضحيته المسنة السورية في غازي عنتاب، وهي الحادثة التي أثارت غضباً واسعاً بين السوريين والأتراك على حد سواء، ودفعت بالمسؤولين الحكوميين إلى طلب الاعتذار من السيدة، والإعلان عن القبض على الجاني، واحالته للقضاء. والجدير بالذكر هنا هو أن عدداً من اللاجئين السوريين الكرد تعرضوا، ويتعرضون، من حين إلى آخر إلى اعتداءات وسوء معاملة من قبل المناصرين لـ «PKK» في جملة من المدن والبلدات الكردية التركية. والتهمة الموجهة تكون عادة أنهم هربوا من واجب الدفاع عن أرضهم، بينما هم في حقيقة الأمر خرجوا نتيجة ممارسات سلطة الأمر الواقع التي يتحكم فيها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الفرع السوري لـ«PKK».

وفي سياق مساعي إنشاء المنطقة أو المناطق الآمنة من جانب الحكومة التركية، اتخذت القرارات على أعلى المستويات، واعتمدت الإجراءات بخصوص عملية عسكرية تركية جديدة كان من المتوقع أن تشمل مناطق تل رفعت ومنبج، وربما عين عيسى وكوباني أيضاً؛ ولكن يبدو أن المواقف الدولية والإقليمية المتحفظة بشأنها، خاصة من الجانبين الأمريكي والروسي، قد أدت إلى إرجائها في الوقت الحالي. هذا رغم عدم وجود تصريحات أو مؤشرات من الجانب التركي تفيد بعدم إلغاء العملية، بل ما زالت المواقف الرسمية التركية المعلنة توحي بأن العملية تلك يمكن أن تنفذ في أي وقت، وذلك في الظرف المناسب، وهناك تأكيدات رسمية مفادها أن تركيا لن تنتظر الإذن بخصوصها من أحد.

ولكن التجارب السابقة بينت أن التدخلات الإقليمية والدولية في الوضع السوري لم تساعد حتى الآن في ميدان التخفيف من معاناة السوريين، على الرغم من توقف المعارك المفتوحة بين مختلف الجبهات. فالمعاناة المعيشية في مختلف المناطق السورية، بصرف النظر عن الجهة المتحكمة بكل منطقة، هي في ذروتها، خاصة في ظروف رداءة المواسم، وارتفاع الأسعار بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا، وتدني مستوى القدرة الشرائية لدى الناس نتيجة عوامل عديدة متحورة حول الحرب.

أما معاناة اللاجئين السوريين في الجوار الإقليمي، والنازحين في الداخل السوري فهي معاناة كارثية بكل المقاييس، خاصة في ظروف عدم وجود أية مؤشرات توحي بامكانية الوصول إلى حل قريب؛ ومثل هذا الحل يستوجب التوافق بين الفاعلين الدوليين والإقليميين الذين يبدون حرصهم في مختلف المناسبات على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، بينما ممارساتهم على أرض الواقع لا توحي بذلك.

السوريون ينتظرون حلاً شاملاً يحترم تضحياتهم وتطلعاتهم ويقوم على معالجة الأسباب الحقيقية لكل ما حصل. أما الحلول الجزئية الميدانية فقد أدت، وستؤدي إلى تكريس ظاهرة مناطق النفوذ التي ليس من المستبعد أن تتحول مع الوقت إلى صيغة من صيغ التقسيم الواقعي، خاصة إذا ما كان هناك اصرار دولي أو إقليمي على تعويم سلطة بشار الأسد، وإعادتها إلى الجامعة العربية. وهذا ما تطالب به دول عربية وإيران وروسيا، ويبدو أن مرسوم العفو المزعوم الذي أصدره بشار الأسد مؤخراً، يدخل ضمن إطار الرتوش التزينية التي تعتمدها تلك الجهات في مساعيها التسويقية؛ حتى أن المبعوث الدولي الخاص بالملف السوري تحدث عن أهمية خطوة إطلاق سراح عدد محدود من السجناء، بينما كانت هذه الخطوة تضليلية في أساسها، استهدفت صرف الأنظار عن تبعات ما نشر حول مجزرة حي التضامن الدمشقي.

لا نذيع سراً إذا ما قلنا إن الموضوع السوري لا يعد في الوقت الراهن أولوية دولية، وذلك في أجواء تفاعلات الحرب الروسية على أوكرانيا. فالولايات المتحدة الأمريكية تركز إلى جانب الدول الأوروبية على الخطوات والإجراءات التي من شأنها إفشال الخطط الروسية، أو الحد من تبعاتها التي تهدد أوروبا على مختلف المستويات. وروسيا في المقابل مضطرة لتجميع قواها، وتركيزها على الجبهة الأوكرانية بغية تحقيق انتصار يستخدمه بوتين لتعزيز نظامه في الداخل، وتوسيع دائرة نفوذه وعلاقاته على المستوى الدولي.

وهذا ما يجعل المناطق السورية الخاضعة لسلطة بشار بفعل الدعم الروسي والإيراني، ساحة مفتوحة أمام التمدد الإيراني، وهو تمدد تتحسّب له تركيا كثيراً على الرغم من التفاهمات القائمة حالياً بينها وبين إيران حول العديد من القضايا الإقليمية. كما أن إسرائيل من جهتها تعلن صراحة رفضها للمحاولات الإيرانية الساعية إلى ملء الفراغ الناجم عن انسحاب جزء من القوات الروسية أو إعادة انتشارها في سوريا.

وما يعمق المأساة السورية أكثر هو عدم وجود قيادة وطنية أولوياتها سوريا في المقام الأول، تمتلك من المصداقية والأهلية بما يمكنها من طمأنة الداخل الوطني السوري بكل مكوناتها وتوجهاته وجهاته، وتستطيع التفاهم مع الجوار الإقليمي، وتفرض احترامها على المستوى الدولي. هذا بينما تحولت المعارضات الرسمية، بمنصاتها ومسمياتها المختلفة، بكل أسف إلى مجرد أدوات تابعة في المشاريع الإقليمية والدولية.

ما يستنتج من المعطيات الحالية، هو أن الوضع السوري سيظل يراوح مكانه في المدى المنظور، طالما لا توجد إرادة دولية لتحريكه، وهو وضع يتأثر ويؤثر بما يجري في لبنان والعراق. فهذه البلدان قد أصبحت ساحة عمليات للحرس الثوري الإيراني وأذرعه المحلية والإقليمية، وتدخل في عداد الحسابات التي تجريها إيران لتتحول إلى قوة إقليمية قادرة على التحكم وفرض الشروط، خاصة في ظل التشتت العربي، وإنشغال كل دولة بقضاياها الداخلية.

وبالنسبة إلى تركيا فمن المتوقع أن يزداد دورها أهمية في سياق المعادلات الدولية والإقليمية الجديدة؛ ولكن في جميع الأحوال تكمن مصلحة تركيا في استقرار المنطقة، ومدخل هذا الاستقرار هو احترام تضحيات وتطلعات الشعوب، وفي المقدمة منها الشعب السوري وذلك لأسباب تاريخية واقتصادية وسكانية وجيوسياسية لا تخفى على أحد.

*كاتب وأكاديمي سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى