مع تفشي وباء كورونا، ترتفع حواجز جديدة في العالم بسرعة خاطفة. لن يسرّع الوباء زوال العولمة وإنما سيسرع إيقاع تحولها فحسب.
أنتج تفشي وباء “كوفيد 19” الكثير من الحواجز الجديدة بسرعة مذهلة. ودفعت الحدود المغلقة، وحظر السفر، وسلاسل التوريد المشلولة، وقيود التصدير الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت العولمة نفسها قد تقع ضحية لفيروس كورونا. وفي واقع الأمر، كانت العولمة في حالة تراجع مسبقاً قبل فترة طويلة من تفشي المرض، ووصلت ذروتها قبل الأزمة المالية العالمية في العام 2008 ولم تتعاف أبداً منذ ذلك الحين. وسوف يسلط هذا الوباء الضوء بالتأكيد على المخاطر الكامنة في الاعتماد المفرط على سلاسل التوريد العالمية، ويحث الحكومات على إعادة توطين الإنتاج، ويشدد على مفهوم الاعتماد الدولي المتبادل. والنتيجة الأكثر ترجيحاً هي حدوث تسارع في التغييرات التي كانت جارية منذ فترة طويلة، نحو شكل جديد مختلف وأكثر محدودية من العولمة.
أدى الترابط العالمي والاعتمادية المتبادلة في السلع والخدمات ورأس المال والأشخاص والبيانات والأفكار، إلى تحقيق فوائد لا يمكن إنكارها. لكن مخاطر هذه الاعتمادية دخلت حيز الوعي العام بشكل كامل خلال هذا الوباء. بالنسبة للمستهلكين في الولايات المتحدة، جاءت أول علامة مرئية عندما أدى إغلاق المصانع في الصين إلى تأخير في قيام شركة “أبل” بتسليم الهواتف المحمولة “آيفون”، واستمر ذلك بينما أبلغت شركات أخرى عن حدوث انقطاعات في إنتاجها. وعندما انتشر الوباء في الولايات المتحدة، علم الأميركيون أن 72 في المائة من المرافق التي تنتج المكونات الصيدلانية للاستهلاك الأميركي تقع في الخارج -معظمها في دول الاتحاد الأوروبي والهند والصين. ويقال إن الحصة تصل إلى ارتفاع يقترب من 97 في المائة في صناعة المضادات الحيوية. وبعد ذلك، لم تتوقف الدول الليبرالية المنخرطة عالمياً، مثل فرنسا وألمانيا، عند إغلاق حدودها أمام المسافرين فحسب، بل ومنعت تصدير أقنعة الوجه، حتى إلى الدول الصديقة. (رفعت الحظر منذ ذلك الحين، لكن الصدمة ما تزال موجودة). وعندما تحارب كل دولة فجأة من أجل نفسها، تبدو فكرة الاعتماد الدولي المتبادل جديرة بإعادة التفكير، على أقل تقدير.
وسوف تخضع للمراجعة فعلياً. فحتى في أيامه الأولى، أظهر الوباء هشاشة سلاسل التوريد، وحفز الاستجابات الوطنية أكثر مما استنهض الاستجابات الدولية التعاونية، وعزز الحجج القومية الداعية إلى استعادة التصنيع من الخارج إلى الوطن والمزيد من تقييد الهجرة. كما أوضح أن الحكومات الوطنية تظل الفاعلين الأساسيين -المستجيبين كملاذ أخير للوباء وعواقبه الاقتصادية.
لكنّ هذه لن تكون نهاية العولمة. بدلاً من ذلك، من المرجح أن يرى العالم نسخة مختلفة وأكثر محدودية من التكامل العالمي من تلك التي عرفناها على مدى العقود الثلاثة الماضية. وما تزال ملامحها بالكاد ملحوظة، لكنها تظل مرئية مع ذلك.
كانت الاتجاهات التي سوف تتسارع الآن ماضية مسبقاً على قدم وساق. وقد مر وقت طويل منذ أن كان النقاش العام يدور حول عالم يكون مسطحاً، وتدفقات لرأس المال تكون متحررة من الاحتكاك، وتجارة تكون حرة. بدلاً من ذلك، كانت المناقشات السياسية الأخيرة تدور حول الجدران الحدودية، وفك الارتباط مع الصين، والحروب التجارية، وخروج بريطانيا من الاتحاد، والقومية الشعبوية، وتأكيد السيادة الوطنية ضد شركات التكنولوجيا الأميركية والصينية فائقة المعرفة.
تحمل المؤشرات الرئيسية ملامح التغيير. قبل الوباء، كانت تجارة السلع العالمية ما تزال في ارتفاع، لكن حصة التجارة، نسبة إلى الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي، كانت أخيراً أقل مما كانت عليه قبل الأزمة المالية. وبلغت التدفقات المالية عبر الحدود ذروتها في العام 2007، وكان التقدم على مسار المزيد من تحرير التجارة العالمية قد توقف قبل ذلك بوقت طويل. ولم يعد إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من عقد من الزمان. وتضع الولايات المتحدة والحكومات الأخرى المزيد من الضوابط على تصدير التقنيات الحيوية، كما أصبح الإنترنت منقسماً بشكل متزايد على أساس خطوط وطنية.
لكن العولمة مسألة معقدة، ولا تشير المؤشرات كافة في الاتجاه نفسه. فقد انخفضت كثافة التجارة في السلع، لكنها ارتفعت في الخدمات. وارتفع تدفق البيانات عبر الحدود بشكل كبير، حتى مع سعي دول مثل الصين وإيران إلى تقييدها. وكان السفر والدراسة الدوليان في الخارج في أعلى مستوياتهما على الإطلاق قبل تفشي وباء فيروس كورونا، وكانت الهجرة هائلة لدرجة أن كثيرين وصفوها بأنها أزمة. بشكل عام، كان صافي الانخفاض من ذروة العولمة أكثر تواضعاً، ولكنه كان حقيقياً، مع ذلك.
كان هذا واضحاً في التفضيلات السياسية التي عبر عنها العديد من السكان في جميع أنحاء العالم. حتى السياسيين الأكثر اعتناقاً للتوجهات العالمية أصبحوا يتجنبون اليوم الترويج لفوائد الحدود المفتوحة، وتدفقات التجارة والمال، والمشاركة الدولية. وقد كُسبت الكثير من الانتخابات الأخيرة بالتأكيد على أضرار ما أصبح موضوعاً للازدراء بوصفه “عولمة”، والوعد بفرض الحمايات من آثار الانكشاف. بالنسبة لأصحاب الاتجاهات العالمية، تتضمن تلك الحمايات إعادة التدريب على المهن، وتحويل المدفوعات وتحسين شبكات الأمان. ويفضل القوميون حدوداً وتعريفات أقوى وقيوداً أكثر صرامة على الهجرة. وحيث هيمنت وعود العولمة على الخطاب السياسي ذات مرة، أصبحت التهديدات تظهر الآن في المقدمة والمركز.
وليس من الصعب معرفة السبب. غالباً ما تُلام العولمة على الأزمات المالية -ليس الأزمة العالمية للعام 2008 فحسب، وإنما الأزمة الآسيوية للعام 1997 وغيرها من الأزمات في روسيا وتركيا والإكوادور وقبرص وغيرها أيضاً. ويعتقد الكثيرون أن العولمة آذنت باندلاع المنافسة القاتلة على مستوى العالم، وأفضت إلى توسيع اللامساواة بين الدول وداخلها. كما تؤدي سلاسل التوريد المجزأة التي تتطلب نقل البضائع عبر الحدود عدة مرات إلى استهلاك المزيد من الطاقة وتنتج انبعاثات أعلى من الغازات المتسببة بالاحتباس الحراري. وحتى خطر انتشار الأمراض بسرعة عبر القارات ليس جديداً؛ فمنذ العام 2003، شهد العالم تفشيات متتالية من الـ”سارس” وانفلونزا الخنازير، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، والإيبولا، وفيروس زيكا.
لعل التهمة الأكثر تفجيراً ضد العولمة هي أنها تعزز مصالح النخبة العالمية على حساب غالبية السكان. وعلى المستوى العالمي، ليس هذا حتى قريبًا من الصحة -فقد أدى الترابط الاقتصادي الدولي إلى زيادة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي، وخفض الفقر، ورفع مستويات المعيشة، وتحسين الصحة، وجعل المعلومات متاحة أكثر بكثير مما كانت سابقاً. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الفوائد موزعة وتُؤخذ على أنها مسلمات، في حين أن التكاليف -فقدان وظائف التصنيع على سبيل المثال- ما تزال مركزة. وقد أصبح لدى أولئك الذين على الطرف الخاسر من العولمة الآن صوت سياسي جديد: الأحزاب الشعبوية التي تعِد بالسيادة والقومية والحلول المحلية، فضلاً عن إضعاف المؤسسات الدولية التي تقودها النخبة، والتي تبدو غير موثوقة.
في الواقع، اتخذت الحكومات حتى الآن قرارات وحدها ومن تلقاء نفسها إلى حد كبير، ومع القليل من التشاور. وعقدت مجموعة العشرين قمة طارئة للقادة العالميين (عن طريق المؤتمر عن بعد، بطبيعة الحال) والتي أصدرت بياناً هزيلاً من التعهدات المجردة، وإنما الخالية من أي التزامات محددة. ومن جهتها، عمدت الحكومة الصينية إلى شراء إنتاج البلد من أقنعة الوجه بدلاً من رؤيتها تباع، وحظرت الحكومات الأوروبية الرئيسية تصديرها مؤقتًا، ونُشرت تقارير عن محاولات الولايات المتحدة شراء مصنع ألماني لتصنيع اللقاحات للاستخدام الحصري لتقنيته. وقد تكون أزمة فيروس كورونا عالمية، لكن الردود عليها كانت حتى الآن وطنية.
بالنسبة للمثاليين من بيننا، يبدو أن الوباء العالمي هو بالضبط نوع التهديد المشترك الذي يمكن أن يؤدي إلى عهد جديد من التعاون الدولي.
يرى الكثير “كوفيد 19” لا كقضية ينبغي لحكومات العالم أن تلتف حولها، وإنما باعتباره المثال الأكثر درامية على نظام معولم تحطم مسبقاً. وقال بيتر نافارو، المستشار الاقتصادي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، لصحيفة فاينانشيال تايمز: “في حالة طوارئ صحية عالمية، تقف الولايات المتحدة وحدها”. وهذا “بالضبط هو السبب الذي يجعل من المهم لإدارة ترامب إعادة قدراتنا التصنيعية وسلاسل التوريد للأدوية الأساسية إلى الوطن، وبالتالي تقليل الاعتمادية الأجنبية لأميركا في الوقت نفسه”.
بالنظر إلى المشاعر المنتشرة من هذا النوع، من السهل تخيل الحكومات حول العالم وهي تعيد التفكير على نطاق واسع في السفر الدولي، والهجرة، ومخاطر سلسلة التوريد، وضوابط التصدير، ومشاركة المعلومات، وأكثر من ذلك -باختصار، كل المكونات الرئيسية للعولمة نفسها. ويغلب أن تكون كلمة السر الجديدة تقليل المخاطر بدلاً من تقليل التكلفة.
العديد من المحركات الرئيسية للعولمة -الشحن، والبيانات، وتدفقات رأس المال، وفهمنا للميزة النسبية ووفورات الحجم- لن تختفي. لكن العولمة -مدفوعة بمزيج من التغييرات في العواطف الشعبية، وسياسة الحكومات، وممارسات الشركات- سوف تتغير. لن يؤذن وباء فيروس كورونا بنهاية حقبة، وإنما بتحولها.
أولاً، قد تصبح الاقتصادات أقل اعتمادًا على نقاط الفشل المنفردة -وأقل اعتماداً على الصين. وليست سلاسل التوريد الهشة اتهامًا للعولمة في حد ذاتها، وإنما للطريقة التي أصبحت بها الشركات تعتمد على مصادر وحيدة للتوريد. ومن السهل تخيل الشركات وهي تعمد، من تلقاء نفسها وبطلب من حكوماتها، إلى تنويع إمدادات مدخلاتها الرئيسية والانتقال إلى الإنتاج المحلي أو الإقليمي. ومن شأن التقدم في الأتمتة وغيرها من تقنيات التصنيع الموفرة للعمالة أن تجعل ذلك أسهل؛ في حين أن استمرار الحرب التجارية مع الصين سيعقده.
ثانياً، سوف يظل التكامل الاقتصادي قائماً، ولكنه سيستمر في التحول من المستوى العالمي إلى المستوى الإقليمي والثنائي. لم تسفر المحادثات التجارية العالمية متعددة الأطراف عن أي شيء منذ جولة أوروغواي في العام 1993. بدلاً من ذلك، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقيات تجارية منفصلة مع كوريا الجنوبية واليابان، وتتحدث البلدان الأفريقية عن منطقة تجارية على مستوى القارة، وثمة اتفاقية مماثلة لاتفاقية الشراكة المخطط لها عبر المحيط الهادي والتي دخلت حيز التنفيذ بعد انسحاب واشنطن. وحتى مبادرة الحزام والطريق الصينية تصنع بدورها روابط إقليمية وثنائية، وليست عالمية.
ثالثاً، من المرجح أن تظل المناقشات السياسية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية الأخرى مركزة على الخاسرين من العولمة وسبل حماية العمال من الأضرار الاقتصادية. لكن المشكلة هي أن العلاج المفضل -الحمائية- يجعل العديد من الأمور السيئة أسوأ، وليس أفضل. ما تزال مسألة كيفية حماية العمال من دون تقويض الفوائد الاقتصادية للعولمة، بما في ذلك مستوى المعيشة الأعلى، مسألة لم يتم حلها بعد.
ربما تؤشر جائحة فيروس كورونا على نقطة النهاية لحقبة ما بعد الحرب الباردة. لقد ذهب الافتتان بالمزيد من التكامل الدولي المتواصل. ومع ذلك، سيكون من الحماقة أن نستبدل العولمة بنفس النوع من الانعزالية والحمائية اللذين كانا يفقران الأمم من قبل. وستكون طبيعة المرحلة التالية للعولمة -الخطوط الكونتورية الدقيقة لنمط أكثر انتقائية من المشاركة والترابط عبر الحدود بعد الوباء- هي السؤال الأكبر الذي ستدور على خلفيته العديد من أهم المناقشات السياسية في الأعوام المقبلة.
*الرئيس التنفيذي لمركز الأمن الأميركي الجديد. عمل في هيئة موظفي مجلس الأمن القومي وفي وزارة الخارجية أثناء إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش.
المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية