بعد مرور ثلاثة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، تبدو موسكو بعيدة عن تحقيق أغلب أهدافها الاستراتيجية المعلنة مثل “نزع النازية” وتحييد سلاح أوكرانيا.
في المقابل، فقد نجحت بإحراز تقدّم لافت في مناطق جنوب شرق أوكرانيا بعد السيطرة الكاملة على مدينتي خيرسون وماريوبول الساحليتين وعدد من المدن الصغيرة والبلدات في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، وسط توقعات بتحوّل النزاع الروسي الأوكراني إلى حرب استنزاف طويلة الأجل بلا نهاية في الأفق.
نتائج متواضعة في أوكرانيا
تمكنت روسيا بحلول نهاية الشهر الثالث من أعمال القتال، من إخماد البؤرة الرئيسية لمقاومة العسكريين الأوكرانيين وكتيبة “آزوف” القومية المتشددة في مصنع “أزوفستال” في مدينة ماريوبول المطلة على بحر آزوف.
هذا الأمر يتيح لموسكو تحقيق أحد أهدافها الاستراتيجية المتمثل في إقامة ممر بري من “جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين” المعلنتين من طرف واحد في منطقة دونباس، إلى شبه جزيرة القرم.
في المقابل، اضطرت القوات الروسية للانسحاب من مدينة تشيرنيهيف ومحيط العاصمة الأوكرانية كييف ومدينة بوتشا الواقعة في ضواحيها، في نهاية مارس/ آذار الماضي، وسط انتشار صور لجثث ملقاة في شوارعها، متسببة في فضيحة دولية لروسيا وتعليق عضويتها في مجلس حقوق الإنسان.
على الصعيد السياسي، دخلت المفاوضات الروسية الأوكرانية مأزقاً حقيقياً في ظل عدم انعقاد أي جولة حضورية جديدة منذ محادثات إسطنبول في نهاية مارس الماضي، وسط عجز الطرفين عن الاتفاق على جدول أعمال محدد لأي لقاء مرتقب.
لكن مساعد الرئيس الروسي، رئيس وفد المفاوضات مع أوكرانيا فلاديمير ميدينسكي، أكد أن موسكو مستعدة لمواصلة المفاوضات مع كييف، مضيفاً في حديث مع قناة بيلاروسية، أمس الإثنين، أن “الكرة من أجل مواصلة محادثات السلام هي لدى الجانب الأوكراني”.
إلا أن المستشار الرئاسي الأوكراني ميخايلو بودولياك كان قد قال لوكالة “رويترز” في وقت سابق إن بلاده ترفض تقديم تنازلات لأن ذلك لن يوقف الحرب، مضيفاً “على القوات (الروسية) مغادرة البلاد وبعد ذلك سيكون من الممكن استئناف عملية السلام”.
اقتصادياً، تبدو المنظومة المالية الروسية صامدة في وجه العقوبات الغربية غير المسبوقة في ظل استمرار تدفق عوائد تصدير النفط والغاز إلى الخزانة الروسية وتراجع سعر صرف الدولار إلى ما دون 60 روبلاً لأول مرة منذ ربيع عام 2018.
لكن تساؤلات تبرز حول قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في حال إجماع الاتحاد الأوروبي على فرض حظر نفطي على روسيا والحد التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي.
ضم مناطق شرق أوكرانيا
في الوقت الذي لا يزال فيه الغموض سيد الموقف حول خطط موسكو المستقبلية في أوكرانيا، توقع مصدر في قيادة إحدى الجمهوريتين المعلنتين من طرف واحد في دونباس، واللتين اعترفت روسيا باستقلالهما عشية بدء العملية العسكرية، أن تستمر المرحلة النشطة من أعمال القتال لثلاثة أشهر أخرى، على أن يبدأ بعدها ضم مناطق جنوب شرق أوكرانيا إلى السيادة الروسية وفق نموذج ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وقال المصدر لـ”العربي الجديد”، إن “أعمال القتال ستستمر لثلاثة أشهر أخرى”، مضيفاً “بحلول الخريف المقبل سيتم تحرير شرق أوكرانيا بالكامل، وإجراء استفتاءات تقرير مصير في دونباس أولاً، ستسفر عن تصويت أكثر من 90 في المائة من السكان لصالح الانضمام لروسيا، ثم في مقاطعتي خيرسون، وزابوريجيا” التي تحتضن أكبر محطة نووية في أوروبا.
ومن المؤشرات التي تدعم هذه التوقعات، مباشرة كبار المسؤولين السياسيين الروس بزيارات إلى مناطق شرق أوكرانيا، بمن فيهم النائب الأول لمدير ديوان الرئاسة الروسية، مسؤول السياسة الداخلية في الكرملين سيرغي كيريينكو، وأمين المجلس العام لحزب “روسيا الموحدة” الحاكم أندريه تورتشاك. وأعلن الأخير من خيرسون في وقت سابق من مايو/ أيار الحالي، أن “روسيا هنا إلى الأبد”، واعتماد الروبل الروسي عملة للتعاملات في هذه المدينة.
وقام رئيس كتلة الحزب الليبرالي الديمقراطي بمجلس الدوما (النواب) الروسي، ليونيد سلوتسكي، هو الآخر بزيارة إلى شرق أوكرانيا في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، ليعرب من مدينة دونيتسك عن ثقته في أن “سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين سيعبّرون قريباً عن موقفهم، مثلما حدث يوماً في القرم وسيفاستوبول”.
ضعف الجيش الروسي
في موسكو، اعتبر المحلل السياسي والصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني ألكسندر تشالينكو أن النتيجة الرئيسية التي حققتها روسيا حتى الآن هي السيطرة على مناطق شاسعة في جنوب شرق أوكرانيا.
لكنه أقر في الوقت نفسه بأن العملية العسكرية كشفت ضعف مستوى تدريب أفراد الجيش الروسي، متوقعاً تحوّلاً للنزاع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
وقال تشالينكو في حديث مع “العربي الجديد”، إن “النتيجة الرئيسية لثلاثة أشهر من القتال هي تحرير مناطق جنوب “جمهورية دونيتسك الشعبية” وماريوبول، وإلحاق هزيمة باللواء الـ36 للجيش الأوكراني ذي القدرة القتالية العالية، وأسر نحو 7 آلاف عنصر، وتحرير 95 في المائة من أراضي “جمهورية لوغانسك الشعبية” باستثناء مدينتي ليسيتشانسك وسيفيرودونيتسك.
وأضاف: “أما خيرسون، فاستسلمت على عكس المناطق الأخرى من دون قتال في بداية العملية العسكرية”. وحتى في ماريوبول، ليس السكان المحليون من أبدوا المقاومة، وإنما وحدات الجيش الأوكراني وكتيبة “آزوف” التي أوفدتها كييف إلى هناك.
ومع ذلك، أقر بأن العملية العسكرية في أوكرانيا كشفت ضعف مستوى تدريب أفراد الجيش الروسي، مضيفاً: “لم تستعد القيادة الروسية للحرب كما ينبغي، وذلك على عكس أوكرانيا التي أظهر جيشها قدرة قتالية عالية جداً ومستوى تدريب أعلى من أفراد الجيش الروسي الذين كانوا يستسلمون أو يستقيلون من الخدمة”.
وتابع: “رأى العالم أجمع أن الجيش الروسي ضعيف للغاية وغير قادر على القتال، واضطر للانسحاب من محيط كييف وتشيرنيهيف، ووقعت حادثة محرجة في مدينة بوتشا”، وأشار إلى أن “الانتصارات التي حققها تعود إلى استخدام القوات الجوية والقوة النارية والاعتماد على قوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك والوحدات الشيشانية”.
ومع توقعه تحوّل المواجهة الروسية الأوكرانية إلى حرب الاستنزاف، قال تشالينكو: “بالنسبة إلى روسيا، هذه حرب وجودية، وهي ستواجه خطر التفكك في حال خسرت فيها، وأي انسحاب من أوكرانيا سيتم اعتباره هزيمة، ما يعني أن موسكو ستخوض حرباً طويلة الأجل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية”.
في المقابل، اعتبر تشالينكو أنه “لن تكون لدى أوكرانيا فرصة للانتصار بعد الاستنفاد التدريجي للدعم الغربي وخسارة أقوى وحدات جيشها وتراجع حماسة السكان المحليين للمقاومة في مرحلة لاحقة”.
احتلال مقاطعات الشرق الأوكراني
في كييف، أكد مدير المركز الأوكراني للتحليل وإدارة السياسات رسلان بورتنيك أن موسكو لم تعدل عن أهدافها الاستراتيجية، معتبراً في الوقت نفسه أن قوة المقاومة الأوكرانية أثبتت تكوّن أوكرانيا كأمة ودولة.
وقال بورتنيك، في حديث مع “العربي الجديد”: “بعد ثلاثة أشهر من الحرب، يمكن القول إن روسيا لم تعدل عن أهدافها الاستراتيجية، ولكنها غيّرت خططها بعد الهزيمة على أطراف كييف، متخلية بشكل مؤقت عن مشروع (مالوروسيا) القاضي باحتلال كامل أراضي أوكرانيا وإقامة نظام سياسي موالٍ لها فيها”.
وأضاف: “تسعى روسيا في الوقت الحالي لتحقيق مشروع (نوفوروسيا) عن طريق احتلال مقاطعات جنوب شرق أوكرانيا وقطعها عن كييف وإثارة أخطر أزمة اقتصادية في البلاد”.
و”مالوروسيا” و”نوفوروسيا” تسميتان تاريخيتان، تُستخدم الأولى للإشارة إلى عدد من الأراضي التاريخية الروسية التي يتركز أغلبها ضمن الحدود الحالية لأوكرانيا، والثانية للمنطقة ذات الأغلبية المتحدثة بالروسية في مناطق جنوب شرق أوكرانيا.
وحول رؤيته للتكتيك الروسي الحالي في الحرب على أوكرانيا، لفت بورتنيك إلى أن “روسيا تحوّلت إلى تكتيك حرب الاستنزاف العسكري عن طريق الاعتماد على الضربات الجوية والصاروخية والمدفعية للحد من الخسائر في صفوف قواتها، وكذلك الاستنزاف الاقتصادي عن طريق تدمير الاقتصاد والبنية التحتية الأوكرانية وحرمان أوكرانيا من مصادر الدخل وإمكانيات تصدير المنتجات الزراعية”.
ومع ذلك، اعتبر أن أوكرانيا اجتازت خلال الأشهر الثلاثة الماضية اختبار الصمود، قائلاً: “حظيت الدولة الأوكرانية بدعمين مجتمعي وغربي واسعي النطاق، وتمكنت بفضلهما من الإثبات أن الأمة الأوكرانية قد تكوّنت وأن الرهان على انهيارها فاشل”.
ومن اللافت أن إبداء أوكرانيا مقاومة غير متوقعة للغزو الروسي، دفع موسكو إلى تغيير لهجتها. فبعدما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدعو في بداية الاجتياح العسكريين الأوكرانيين للاستسلام أو الانقلاب على القيادة السياسية للبلاد، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مطلع مايو الحالي، إن روسيا لا تطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالاستسلام، وأضاف أن موسكو لا تهدف إلى تغيير النظام في كييف، في مؤشر لخفض روسيا سقف أهدافها في أوكرانيا، ولو مؤقتاً.
المصدر: العربي الجديد