عقب نهاية حرب 5 حزيران/يونيو 1967 ، وإثر الدور الأميركى الواضح فى الحرب تخطيطاً وتنفيذاً قررت مصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية ، وإثر هذا القرار المصرى قطعت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بالولايات المتحدة الأمريكية ، وتم خروج 62 ألف أمريكى من العالم العربى فى مشهد مهين لهيبة وكرامة الولايات المتحدة الأمريكية ، هاج وماج الرئيس الأمريكى جونسون معتبرا ما حدث صفعة لمكانة الولايات المتحدة وتحريض شرير من الرئيس عبد الناصر.
بعد القرار لم يعد للولايات المتحدة الأمريكية سفير بالقاهرة بل قائم على شئون المصالح الأمريكية فى مصر ، ويعمل تحت غطاء سفارة إسبانيا بالقاهرة.
فى شهر ديسمبر عام 1967 ، أبلغت أجهزة الأمن المصرية الرئيس جمال عبد الناصر بقدرتها على إختراق مسكن دونالد بيرجس القائم على شئون المصالح الأمريكية فى مصر ، وطلبت من الرئيس منحها الإذن لبدء زرع أجهزة التنصت داخل السفارة ، وافق عبد الناصر على العملية التى تم تسميتها بالأسم الكودي ( عصفور ).
فى الجزء الثالث من مذكرات وزير الخارجية وأمين عام جامعة الدول العربية الراحل محمود رياض والذى صدر بعنوان ( أمريكا و العرب ) عن دار المستقبل العربى – الطبعة الأولى عام 1986 ، وفى صفحتى 118 – 119 من الكتاب ، كتب محمود رياض:
“وقد اطلعت مؤخرا على التحقيقات التى تمت مع السيد شعراوى جمعة وزير الداخلية الأسبق بواسطة النيابة العامة فى يونيو 1971 ، وقد ورد فيها أن شعراوى جمعة أثناء اجتماعه مع أعضاء التنظيم الطليعى للاتحاد الاشتراكى ذكر ما يلى : أننى نقلت إلى الموجودين بعض ما علمته مما دار بين بيرجس (القائم على شئون المصالح الأمريكية فى مصر) وجوزيف سيسكو (مساعد وزير الخارجية الأمريكى) وما دار فيه من حديث يتصل بأمور كثيرة منها ما يمس سلامة البلاد أرجو إعفائى من ذكرها .
ثم يضيف محمود رياض أن شعراوى جمعة قرر أن يطلعه فى عام 1986 بعد خمسة عشر كاملة من أحداث مايو 1971 على تفاصيل الحديث الذى دار بين سيسكو و بيرجس مساء يوم 9 مايو 1971 ، وهو الحديث الذى رفض الإفصاح عنه أثناء تحقيقات النيابة العامة معه فى قضية مايو 1971 .
قال شعراوي جمعة لمحمود رياض ،ان مباحث وزارة الداخلية استطاعت أن تضع أجهزة تصنت فى منزل بيرجس القائم على رعاية المصالح الأمريكية فى مصر ، وأمكن تسجيل الحديث الذى أدلى به سيسكو لبيرجس حول ما سمعه من السادات أثناء مقابلته له بعد ظهر ذلك اليوم – 9 مايو 1971 – فقد أبلغ السادات سيسكو أنه سيقوم بتغيير وزير الخارجية محمود رياض ووزير الدفاع محمد فوزى لأنهما يضغطان عليه من أجل بدء معركة التحرير هذا علاوة على إصرار وزير الخارجية على الحل الشامل ، كما ذكر السادات لسيسكو أيضا أنه قرر فصل حوالى مائة وخمسين عضوا من الاتحاد الاشتراكى وهم الذين عارضوه فى اللجنة المركزية عندما طرح مشروع الاتحاد بين مصر وسوريا وليبيا..
إن معنى كلام شعراوى جمعة أن الكبار فى مجموعة مايو ( شعراوى جمعة – سامى شرف – الفريق أول محمد فوزى ) ، كانوا على علم بخطة الرئيس السادات للتخلص منهم والانقلاب على الثورة منذ يوم 9 مايو 1971 ، أى قبل الانقلاب بأربعة أيام كاملة ، لأن الانقلاب تم يوم 13 مايو 1971 بعد استقالة أقطاب مجموعة مايو من مناصبهم عقب إقالة الرئيس السادات لشعراوى جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم الطليعي من مناصبه، وفى يوم 14 مايو طرد السادات رئيس مجلس الأمة ووكيليه و15 عضو من المجلس ، ويوم 15 مايو 1971 لم يحدث فيه شئ إطلاقا ،ولكن الرئيس السادات أختاره يوما للاحتفال بانقلابه ، ويبدو سر اختياره لهذا اليوم بالذات غير مفهوم لأنه يوم حزين بالنسبة لكل عربى إذ يوافق ذكرى قيام دولة إسرائيل ويوم عيدها القومى .
يبدو لى أن هذه هى أول مرة فى التاريخ يعلم فيها مسئولون سياسيون بما يدبر لهم من مؤامرة قبل وقوعها بأربعة أيام كاملة ، إن علمهم بما هو قادم ليس تخمينا أو توقعا بل عبر حديث مسموع عما يحاك لهم ولمصر ، ويبدو تفسير تصرفات هؤلاء المسئولين بناء على علمهم غير مفهوم على الإطلاق
الرئيس السادات يعلن لجوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية الأمريكى عن نيته فى تحويل مسار السياسة المصرية والتخلص من سياسات الرئيس عبد الناصر ، وينقل له ضيقه من وزيرى الخارجية و الحربية لإصرارهما على المعركة والوصول إلى حل شامل ، وليس ذلك فقط بل ينقل له عزمه التخلص من كل المسئولين الذين يعارضون سياساته الجديدة ، وقبل ذلك بأسبوع يوم 2 مايو 1971 كان قد أقال نائبه على صبرى من منصبه .
هكذا كان هؤلاء الرجال المؤتمنون على ميراث الرئيس عبد الناصر وخطه السياسي واعين بنوايا السادات و أهدافه.
ولنرى الآن كيف تصرفوا ؟
الفريق أول / محمد فوزى وزير الحربية يجتمع بكبار الضباط فى الجيش ويصارحهم أن السادات بيبيع البلد للأمريكان وبيهدم كل مبادئ الثورة ثم ترك مقر القيادة العامة للقوات المسلحة وذهب لمنزله.
عندما طلب سعد زايد محافظ القاهرة وأحد الضباط الأحرار من الفريق أول محمد فوزى أن يعطيه دبابة وخمس عساكر لاعتقال السادات ثم اعلان استقالته فى وسائل الإعلام، وإجهاض المؤامرة على الثورة ، رفض محمد فوزى وقال له : ان مهمة الجيش هى تحرير الأراضى المحتلة فقط وليس الانقلاب على الشرعية ، وينسى الفريق أول محمد فوزى أن طلب سعد زايد ليس الانقلاب على الشرعية ولكن وأد الانقلاب على الثورة الذى يتم فعلا .
وللأسف تناسى أيضا ًمبادرة السادات للحل السلمي الجزئي التى أعلنها فى فبراير 1971 والتى تبين نوايا السادات الحقيقية تجاه الصراع مع إسرائيل.
لم يعد الأمر فقط هو انقلاب السادات على خط عبد الناصر السياسي والردة على الثورة ، فحديث السادات مع سيسكو يكشف نواياه بالنسبة لأقطاب مجموعة مايو أنفسهم ، ليست الثورة فقط هى التى تواجه التهديد بل هم أيضا يواجهون خطر فقدان رؤوسهم ومناصبهم ، ورغم علمهم المسبق بنوايا السادات، فإنهم عقب قراره بإقالة شعراوى جمعة ، يقررون الاستقالة من مناصبهم وترك الملعب للسادات ،الذى يقبل استقالاتهم منتشيا ثم يقرر القبض عليهم وتلفيق قضية انقلاب على الشرعية لهم ، ويخلو له الميدان لينفذ انقلابه كاملا ويطبق خط الردة على الثورة كما خطط مع المبعوث الأمريكي جوزيف سيسكو .
المرحوم علي صبري نائب الرئيس السادات، وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى (الحزب السياسي الحكم وقتها) ، هو الوحيد من كبار رجال من اصطلح على تسميتهم برجال مجموعة مايو ،الذي يمكن تبرئته من وزر الفشل فى التصدي لانقلاب السادات على الثورة ، فقد كان معزولاً عن أدوات السلطة الحقيقية التى كانت تتركز فى أيادي سامي شرف المسئول عن الحرس الجمهوري ، وشعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم الطليعي ، والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.
في يوم 2 أبريل 1971 قال على صبري لشعراوي جمعه خلال محادثة تليفونية بينهما عن الرئيس السادات : بكره يسلم البلد للأمريكان.
فى يوم 2 مايو 1971 قرر الرئيس السادات إقالة على صبري من مناصبه.
وفى تسجيل لمحادثة تليفونية بين على صبرى ووزير الإعلام محمد فائق عقب إطاحة السادات بعلي صبري.
قال على صبرى : السادات بيبيع البلد للأمريكان وبيهد كل اللى بناه عبد الناصر فى 20 سنة ، لن أتحمل المسئولية أمام التاريخ وأمام أولادى وأمام الشعب إذا تم حكم الفرد فى مصر وليس أى فرد بل أنور السادات ، سوف يقوم بتصفية كل العناصر الكويسة فى البلد .
وأضاف : حايضربكوا بالجزم ، وأنا ما أقبلش أنى أضرب بالجزمة.
سعد زايد أيضاً بريء من الفشل فى التصدى للانقلاب على الثورة ،وقد سبق ذكر طلبه من وزير الحربية محمد فوزى للقضاء على انقلاب السادات على الثورة ، الذي رفضه الوزير.
من الغرائب فيما يخص عملية عصفور شهادة الأستاذ محمد حسنين هيكل عنها فى حلقات برنامجه ” مع هيكل ” تحت عنوان ( الطريق إلى أكتوبر ).
قال الأستاذ هيكل ان عملية عصفور تعد من أنجح وأخطر عمليات التجسس فى تاريخ المخابرات فى العالم ، ولا تعادلها فى النجاح إلا العملية ( ألترا ) عندما نجحت مخابرات الحلفاء فى حل الشفرة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية مما جعل البريطانيين والأمريكيين على علم كامل بكافة التحركات و الخطط العسكرية و الإستخباراتية الألمانية قبل حدوثها .
وأضاف هيكل : كان يعلم بسر العملية ( عصفور ) حوالي عشرة أشخاص في مصر كلها ، وكان هيكل واحداً منهم .
وان أنور السادات لم يعلم بسر العملية ( عصفور ) بأوامر من الرئيس عبد الناصر ذاته .
وقال هيكل ، أن (علي صبري ، وشعراوي جمعة ، والفريق أول محمد فوزي ، وسامي شرف) رفضوا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر أن يعرف الرئيس الجديد أنور السادات بسر العملية ” عصفور ” ، لعدم ثقتهم فيه ، ولأن بعض ما وصلهم عبر تلك العملية به ما يدين الرئيس السادات، ويستوجب محاكمته أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى .
و يضيف الأستاذ هيكل أن معرفة الرئيس السادات بسر العملية ( عصفور ) حدثت من خلاله فقد كان هو الذي أطلع الرئيس أنور السادات على السر.
وقال الأستاذ هيكل أن عملية ( عصفور ) ظلت تسير بنجاح وظل تدفق المعلومات جارياً منذ ديسمبر 1967 حتى يوليو 1971 عندما أفشى الرئيس أنور السادات سر العملية ( عصفور ) لصديقه كمال أدهم مدير المخابرات السعودية و صاحب العلاقات الوثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية!!! والذى نقل المعلومة فور علمه بها للأمريكيين مما أنهى العملية الناجحة وأغلق باب كنز المعلومات للأبد.
المثير للضحك حتى البكاء هو أن المرحوم شعراوى جمعة بعد القبض عليه وفى تحقيقات النيابة معه رفض الإفصاح للمحقق عن كيفية علمه بنوايا الرئيس السادات حتى لا يكشف سر العملية ( عصفور ) ، إلى هذا الحد كان هؤلاء الرجال أبرياء ؟!
من نسق مع الأمريكيين لانقلابه على الثورة ، ومن يبحث عن حل فردى للصراع مع إسرائيل سيهتم بعملية ( عصفور) التى تتجسس على الأمريكيين ؟!!
ان منطق شعراوى جمعة فى ذلك يماثل منطق وزير الحربية محمد فوزى عندما صارح كبار ضباط الجيش قبل الانقلاب، أن الرئيس السادات بيبع البلد للأمريكيين ثم استقال بعدما أخلى ذمته .
ماذا لو علم شعراوي جمعة أن الرئيس السادات فى شهر يوليو 1971 ، أى بعد انقلاب مايو بشهرين ،وعقب إطلاع الأستاذ هيكل له على سر العملية ( عصفور ) ، سيقوم بإفشاء السر لصديقه كمال أدهم مدير المخابرات السعودية ، الذى نقل السر فور علمه به للمخابرات المركزية الأمريكية لتصمت ميكروفونات (عصفور) إلى الأبد.
للأسف الشديد كان الصراع أكبر من رجال الرئيس عبد الناصر ، ورغم قربهم الشديد من عبد الناصر لمدة طويلة لم يتعلموا منه كيفية حسم الأمور .
تعرض عبد الناصر فى عام 1954 لصراع على السلطة ، كان خصومه فيه أقوى من السادات بما لا يُقارن ولكنه خرج منتصراً ، وبعد هزيمة 1967 تعرض لانقلاب دبره صديقه المشير عبد الحكيم عامر ومجموعة من أقوى رجال نظام يوليو ، ولكن عبد الناصر انتصر عليهم وأزاحهم من السلطة.
رحل عبد الناصر وترك لرجال مجموعة مايو كل مقاليد السلطة ، وكان السادات لا يملك شيئا منها غير منصبه كنائب للرئيس فقط ، فمنحوه الشرعية الدستورية وجعلوه رئيسا ورغم كشفهم لنواياه منذ البداية ، فشلوا فى التصدى له ، وسلموا له مصر كلها ليفعل بها ما يشاء .
عندما رفض حسين الشافعي أحد كبار قادة ثورة يوليو ونائب الرئيس عبد الناصر خلافة السادات لعبد الناصر ، كان رجال مجموعة مايو هم من تصدوا له وسارعوا لإجراء الاستفتاء على رئاسة السادات حتى يقطعوا الطريق على حسين الشافعي للوصول لمقعد الرئيس.
يلوم البعض الرئيس عبد الناصر على اختياره للسادات كنائب له ، وينسى هؤلاء أن الرئيس عبد الناصر لم يترك السادات وحده فى قمة السلطة ، بل ترك أقرب الناس لفكره وسياسته فى أخطر وأقوى مؤسسات الدولة ، وهؤلاء هم الذين فشلوا فى التصدى لانقلاب السادات على مباديء جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو.
هناك أخطاء تاريخية لا تغتفر لأنها تؤثر على مصائر الشعوب ، كان خطأ رجال الرئيس عبد الناصر فى أحداث مايو 1971 أحد تلك الأخطاء التاريخية الفادحة،وقد دفعوا ثمن هذا الخطأ السياسي الفادح بعد أن سجنهم السادات وقاد حملة تشهير ضدهم ، ثم دفعت مصر أثمان مضاعفة لخطأهم الكارثي.
المصدر: مجلة الوعي العربي