الباص

عبد الحفيظ الحافظ

 انطلق الباص الداخلي متأرجحاً باتجاه ضاحية المدينة، فعلا الضجيج فيه مع أغنيةٍ تبثها مسجلة السائق :” ما دام للدنيا بداية ونهاية حاسب نفسك يا هالإنسان “. فحدثت نفسي: – إذا امتطى الباص خمسةٌ وعشرون راكباً في الذهاب ومثلها في الإياب، وقبض السائق ليرةً عن بيع كل تذكرةٍ، فحصيلة دخله في كل رحلةٍ خمسون ليرةً. قطعَ حبلَ ما أجريه من عمليةٍ حسابية حديثُ سيدةٍ، تجلس في المقعد الذي أمامي إلى سيدة بجوارها: – زوجي يحب ” المحشي “، لكنه يلحًّ عليَّ أن أشتري السلق والملفوف من سوق الخضرة، فبائعو بقاليات الحارة غشاشون، ويقول: – يكفي لطنجرة المحشي أوقية لحمة وبعض العظام، فقاطعتها جارتها مع صوت الأغنية: ” طلع الصبح ولك علوش سبقونا هالحصادي “. – تشتري جارتي أم محمود زوجة مراقب البلدية اللحمة بالفخذة. عدت إلى ما انقطع من تدقيقٍ لدخل السائق، فقدرت أنه يقوم بثمان أشواطٍ ذهاباً وإياباً أثناء وارديته، وكانت عيناي تقرأان وجوه من في الباص، فوجدت من يجلس بجانبي شاباً يحمل كتباً ودفاتراً جامعية، ويضع سماعتين في أذنيه، وفوق كتبه يستريح هاتفه النقال بعدسته المصورة. ضحكت السيدتان بغنجٍ أنثوي مثير، وسألت إحداهما الأخرى: – بطنجرة محشي على أوقية لحمة وبملعقة سمنة نباتي، يريد زوجك المحترم أن يحتفل، ويسهر، ويداعبك ، ويمتلكك، ويعصرك بين فخذيه؟. ربما لا تعرف هذه السيدة أن الأسئلةَ هي الوحيدة المبصرة، في حين تبقى الإجابة هي العمياء. وقع نظري على فتاة تبتعد عن فتى يلاحقها ويلتصق بها محتضناً مؤخرتها، فتساءلت: – كيف أدخلتها في بنطالها الجينز؟. ” هات المنجل والمنكوش والحقني بالزوادي “. في صقيع هذا الضجيج والصراخ والازدحام داهمتني صورٌ شاهدتُها ليلاً على شاشة التلفزيون، فيها طائراتٌ مروحية تقصف ” قطاع غزة ” على ارتفاع منخفض، وطائرات ” إف ستة عشر” ترسل حممها من مسافات بعيدةٍ، وملأ الشاشة دخانٌ وحرائقٌ وأبنيةٌ تنهار فوق رؤوس قاطنيها، وكانت عصافيرٌ وأسرابٌ من الحمام تبحث مذعورةً عن مكان تلجأ إليه. – براد جارتي أم حسين يستغيث مما يحشر فيه، وأحياناً ترجوني لأضع لها كيساً من اللحمة أو الفاكهة في برادنا، نحن– والله يشهد عليَّ– لا نعرف طعم الكمأة إلا إذا صبت لنا صحنا منها. – ماذا يعمل زوجها؟.- مخلص جمركي، في هذه اللحظة ناشد المغني راكبي الباص: ” قم عجل الله يخليك صار لي ساعة بفيق فيك “. نعم، ثمان رحلاتٍ في الذهاب وفي الإياب على الأقل، ,إذا كان ريع كل رحلةٍ خمسين ليرةٍ، ‘عدا ما يتقاضاه من راتب..صرختُ : – يا إلهي أربعة مائة ليرة يجنيها من بيع التذاكر، فالتفتت السيدتان نحوي وتهامستا. – عندما تمكنت الفتاة من الخلاص من براثن الفتى، احتضنها كهلٌ من أمامها، وحاولت أن تتحاشاه فلم تفلح بذلك، فتراجعت قليلاً للخلف، فالتصق بها الفتى من جديد. ” قم عجل الله يخليك صار لي ساعة بفيق فيك “. سألت الطالب الجامعي، فلم يلتفت، وضعت يدي على كتفه فأخرج إحدى سماعتي هاتفه من أذنه: – هل توقف القصف على غزة يا ولدي؟. أعاد السماعة بشوقٍ إلى إذنه. اقترب من مقعدي رجلٌ بلحيةٍ وعمامةٍ بيضاء وسبحة دائمة الحركة بين أصابعه، وكان يحرك شفتيه، فحاولت قراءة ما تنطقان به، فأمسك بي متلبساً، وقطب جبينه بشامة سجوده، فأشحتُ بوجهي عنه. ” صارلو قبل صياح الديك بيك ينطر بالوادي “. بالرغم من حصار غزة، لبى أبٌ رغبة أطفاله، فذهب إلى فضاء البحر ورحاب الشاطئ، فاحتضن أطفاله بحنانٍ، وبنى لهم قصراً من الرمال بدل داره خلف الجدار، ثم رفع فوقه علم فلسطين، وقدمت له زوجتهة كأساً من الشاي، وقبل أن يرشف منه رشفةً محاذراً حرارتها، دوت الانفجارات، ولم يبقَ من هذه العائلة إلا طفلةٌ، تبحث باكيةً بين الرمال عن أشلاء أخوتها، وعن أمها، وعن أبيها ، وعن قصرهم الرملي، وعن لعبتها. ” أمك طعمت هالجاجات وراحت لتشوف الغنمات “. رأيت الفتى سعيداً باحتضان مؤخرة الفتاة المذعنة لقدرها، وكان الطالب الجامعي منتشياً بما يسمع من موسيقا، ويتابعها بنقر كتابه بأصابعٍ مدببة الأظافر أما السيدتان فما زالتا تضحكان بملئ قلبيهما، بعد أن أسرت الأولى للثانية:- إن زوجي يضاجعني في كل ليلةٍ، فسألتها الثانية:- كم طنجرة محشي تطبخين له في الأسبوع؟.- طنجرة واحدة في كل شهر. احتضن الرجل صاحب اللحية والعمامة والسبحة نافذة الباص محركاً رأسه إلى الأمام وإلى الخلف، ولم أستطع متابعة حساب دخل السائق من ريع بيع التذاكر، لكنني أدركت أنه أضعاف راتبي التقاعدي كمدرس لمدة ثلاثين عاماً. وصل المغني إلى مقطعٍ تماهى به وحلق كصوفي في حلقة ذكر: ” اختك تسقي السكوبات هي وعمك بو شادي “. توقف الباص فجأةً، فدبت حركةٌ سريعةٌ فيه إلى قاطعة التذاكر، وأخرى للنزول من البابين، وانطلق بعض الركاب كالزرازير، لكن مفتشي شركة النقل كانوا لهم بالمرصاد فدققوا البطاقات، وأخرجوا دفاتر المخالفات، وحيُّوا من همس في آذانهم،…، وما زال المغني يرجِّع أغنيته بلذةٍ: ” من ساعة بالحاكورة جدي ينقي البندورة راح لستك دنورة صبح على خيتك سعادة . يا إلهي : – لو كان في المدينة مفتشون، سيجدون رجالاً بلا تذاكر، وأناساً يجيدون الهمس في الآذان، وشباباً يضعون السماعات في آذانهم، وآخرين يدمدمون بكلماتٍ غير مفهومة، وذكوراً يغتصبون وهم يحتضنون نسائهم، ونساء مشغولاتٍ بطبخ طناجر المحشي – ماذا يعمل زوجك؟. – مدرس فلسفة.. بعض المدرسين سعَّروا ساعة دروسهم الخصوصية بمئات الليرات.. – لماذا لا يعطي دروساً خصوصية؟. يقول :- إن الفلسفة لا تُدرس في البيوت، وعقيدته لا تسمح له بذلك.- أ هي العقيدة التي نعملها بالسكر لنتف الشعر؟.- لا يا جاهلة، العقيدة فكرة قعدت في رأس زوجي.- ماذا يعمل في البيت بعد الدوام المدرسي؟.- يا ستي زوجي عاشق.- أيحب طالبة يدرسها؟. لا.- أيعشق إحدى جاراتك؟. لا .- من يعشق ابن الحرام؟. المعلم ابن رشد.- من يكون هذا ابن رشد؟. يقول : – إن الغرب تعلم وتدرب على يديه، إنه يبكي عندما يتذكر أن العرب المسلمين حرقوا كتبه. – مسكين زوجك، وبحاجة إلى عصفورية. الآن تجتاح إسرائيل مكاتب حكومة حماس في غزة بعد تدميرها، كما اجتاحت حماس مكاتب حكومة فتح، وبالأمس عرضت الشاشات أشلاء أطفالٍ وصفوفاً من الجثث متشحةً بالدماء، وبلغت الحصيلة حتى الآن مئات الشهداء وبضعة آلاف من الجرحى.. تساءلت: – كيف ينام الضمير العالمي عندما تبدأ إسرائيل مجازرها في فلسطين؟. – لماذا حدد الحكام العرب موعد قمتهم بعد أسبوع من بدء الحرب؟. تذكرت ما قرأته في اللوحةٍ التي تتصدر قاعة الاستقبال العراقية على الحدود السورية قبل العدوان والاحتلال: ” اللهم افتح على قلوبنا وبصائرنا نافذةً لضيائك البهي، لتنير لنا ما يدلنا على مافي قول الآخرين من صدقٍ أو كذب، وما في قلوبهم من محبةٍ أو بغض.. اللهم آمين “. توقف الباص ، فنزلت منه برفقة تلك الفتاة ، وما كاد الباص يبتعد حتى رشقتنا سيارة تكسي سوداء بوابلٍ من الطين ومياه الأمطار، فبصقت الفتاة خلف السيارة : – يا أبناء الكلاب وقراد الخيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى