يبدو أن الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا ألقى بظلاله على كل شيء داخل أوروبا وخارجها ومن بينها انتخابات الرئاسة الفرنسية، فقبل شهرين كانت العواصم الأوروبية تترقب واحدة من أكثر السباقات الانتخابية زخماً في فرنسا، إذ يسعى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى فترة رئاسية ثانية، وتنافسه للمرة الثانية على التوالي مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن المتهمة بالتحريض على العنصرية، وهناك مرشح أكثر تطرفاً يأتي في المركز الثالث وهو إيريك زيمور، بينما مرشحو اليسار الذي طالما هيمن على المشهد السياسي الفرنسي يتذيلون استطلاعات الرأي.
وسرعان ما تغير المشهد بشكل دراماتيكي مع اشتعال الشرارة الأولى للحرب في أوكرانيا في الـ 24 من فبراير (شباط) الماضي، إذ تركز الانتباه في أوروبا نحو التهديد الذي باتت تشكله روسيا عليهم، واضطر خصوم ماكرون في أقصى اليمين، الذين كانوا يتصدرون تيار التشكك في أوروبا وتجديد القومية في النقاش العام، إلى تغيير مواقفهم السابقة المؤيدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعلى سبيل المثال قالت لوبن في لقاء تليفزيوني الشهر الماضي، إن “الصراع في أوكرانيا غير رأيها جزئياً في الرئيس الروسي”، وذلك بعد القول قبل عام إنها معجبة ببوتين وأعربت عن تأييدها له في شأن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
الحرب تدعم ماكرون
وأظهرت استطلاعات الرأي خلال الأسابيع الأولى للحرب أن الرئيس الفرنسي يكتسب الدعم نتيجة للأزمة، ففي مطلع مارس (آذار) قالت مجموعة استطلاعات الرأي الفرنسية “بي في آي” إن “ماكرون حصل على نقاط إضافية كبيرة منذ اندلاع الحرب، مدعوماً بجهوده الدبلوماسية المحمومة لإثناء روسيا عن الغزو”. وتوقع الاستطلاع “أن يتصدر الرئيس الفرنسي الجولة الأولى من سباق الانتخابات الرئاسية بنسبة 29 في المئة، ثم ينتصر في جولة الإعادة المقررة في الـ 24 من أبريل (نيسان)، بغض النظر عن خصمه، إذ ينظر إلى لوبن على أنها أقرب منافسيه”.
وقالت المجموعة في بيان إن “إيمانويل ماكرون يستفيد من وضعه الثلاثي كرئيس للدولة وحامي الشعب وقيمه وقائد الجيش والدبلوماسية الوطنية”، كما منحه استطلاع أجرته شبكة “هاريس إنتر أكشن” 27 في المئة من الأصوات، وأعطاه استطلاع المعهد الفرنسي للرأي العام نسبة 28 في المئة، متقدماً بحوالى 10 نقاط مئوية على لوبن التي احتلت المركز الثاني في انتخابات 2017.
ومع ذلك حذر آخرون من المبالغة في تقدير تأثير الشؤون العالمية على خيارات الناخبين، وهو ما بدا على حق وفقاً لما أظهرته استطلاعات الرأي في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات.
منافسة محمومة
وعاد المشهد للتقلب مجدداً مع بقاء ساعات على الجولة الأولى للانتخابات، وتشير الاستطلاعات إلى منافسة محمومة بشكل غير عادي، فبات ماكرون يتصدر نتائج الاستطلاعات بهامش ضيق عن لوبن التي استطاعت استغلال أزمة ارتفاع كلف المعيشة الناجمة عن الحرب في الترويج لحملتها، وخلال الأسابيع القليلة الماضية سعت لوبن إلى إظهار حزبها بصورة أكثر اعتدالاً مع شنها حملة مشددة ركزتها على القدرة الشرائية التي يضعها المواطنون في أعلى سلم أولياتهم في حين يرتفع التضخم جراء الحرب الأوكرانية.
ولم تنتخب فرنسا رئيساً لولاية ثانية منذ جاك شيراك قبل 20 عاماً، ويقول مراقبون إن ماكرون المصرفي السابق وخريج بعض أكثر المدارس النخبوية في البلاد، أثار الغضب عندما فرض ضريبة الديزل في وقت مبكر من رئاسته، مما أدى إلى انطلاق حركة السترات الصفراء، وهي واحدة من أطول وأعنف الاحتجاجات التي شهدتها باريس منذ عقود.
وقال المعلق السياسي الفرنسي جان ميشيل ألفاتي لقناة “سي إن إن” الأميركية “إن مستوى الكراهية تجاه ماكرون كبير”، مشيرا إلى الغضب الشعبي حيال السياسات الداخلية. وعلى الصعيد الدولي فإن هناك أموراً ينظر إليها في الداخل كإخفاقات مثل تخلي أستراليا عن صفقة غواصات فرنسية بقيمة 37 مليار دولار لشراء غواصات نووية أميركية في إطار تحالف “أوكوس” الدفاعي مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك الجهود الدبلوماسية الفاشلة لتجنب الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك فإن دعم ماكرون الكامل لاتحاد أوروبي طموح ومستقل أكسبه الاحترام في الخارج وأرسى مؤهلاته الجيو-سياسية في الداخل.
الخلفية الرئاسية نعمة ونقمة
ورفض ماكرون المشاركة في مناظرات تليفزيونية مباشرة مع منافسيه ولم يقم بحملة انتخابية واسعة، مكتفياً بالمشاركة في بعض البرامج على القنوات التلفزيونية، مما دفع المعارضين ووسائل الإعلام إلى اتهامه بالتهرب من المنافسة الديمقراطية.
وقال ماكرون خلال مؤتمر صحافي الشهر الماضي لتقديم برنامجه الانتخابي، “لا يخبرنا دستورنا ولا أعرافنا أن النقاش بين المرشحين قبل الجولة الأولى سيكون هو القاعدة أو الطريقة الصحيحة لطرح الأفكار الديمقراطية”.
وبالنظر إلى تصدره السباق، يعتقد الخبراء وفقاً لـ “سي إن إن” أن استراتيجية الرئيس الفرنسي كانت تستهدف تجنب التشويش السياسي لأطول فترة ممكنة من أجل التلويح بصورته باعتباره صاحب الخبرة الرئاسية بين جميع المرشحين، لكن قبل أيام من الجولة الأولى حث ماكرون أنصاره على الحذر من التراخي، وقال لهم إن “كل شيء ممكن”، محذراً من احتمال حدوث اضطراب على غرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الانتخابات.
وتقول مجلة “بوليتكو” الأميركية في نسختها الأوروبية، إن الخلفية الرئاسية لماكرون تعد في حد ذاتها مشكلة له. ويرى المراقبون أن الرئيس الفرنسي في مأزق لأنه اتبع استراتيجية أبعدته من الانخراط بشكل مباشر مع الناخبين، وبدا مديراً للأزمات العالمية ويحاول التوسط في الحرب الأوكرانية بدلاً من الانخراط في حملة انتخابية تقليدية، في وقت يرغب فيه الناخبون الفرنسيون الاستماع مباشرة إلى المرشحين.
وقال المتخصص في الاتصالات السياسية ومؤلف كتاب “العلامة التجارية ماكرون” رافائيل لوركا، إنه “بطريقة ما كانت الحرب مناسبة له تماماً في البداية مع رئيس كان عليه أن يظهر نفسه كمشرف على كل شيء وكأب مفرط في الحماية، لكن الخطأ الكبير هو اعتبار أن هذا الزخم سيستمر حتى أبريل”.
لوبن النشطة
وعلى النقيض من ذلك يقول العديد من المراقبين في فرنسا إن لوبن تظهر كمتحدثة ماهرة ونظمت حملات بلا هوادة في قلب فرنسا وركزت على القضايا اليومية، وقبل كل شيء ارتفاع كلف المعيشة.
وأشار مدير الأبحاث في شركة “إبسوس” للاستطلاعات ماتيو غالارد إلى أن لوبن نظمت حملة عن قرب وزارت كثيراً من البلدات والقرى الصغيرة، ولم تتم تغطية رحلاتها بشكل لافت من قبل الصحافة الوطنية، ولكن كان لها صدى كبير في وسائل الإعلام المحلية”.
وأضاف، “لقد أعطت انطباعاً بالقرب وهو أمر مهم جداً للناخبين الفرنسيين”.
وتقول بوليتكو إن انتصار لوبن سيكون بمثابة زلزال سياسي لفرنسا وأوروبا، إذ سيكون لها تأثير حاسم على الاتحاد الأوروبي وليس المشهد السياسي في فرنسا فقط، فعلى الرغم من أنها حاولت تخفيف صورتها وجعلها أكثر اعتدالاً خلال السنوات الأخيرة، إلا أن للزعيمة اليمينية وحزبها تاريخ طويل في كره الأجانب والسياسات الصديقة لبوتين والتشكيك في أوروبا.
وتشير وسائل الإعلام الغربية إلى أن كلفة المعيشة من بين أهم القضايا بالنسبة إلى الناخبين الفرنسيين هذا العام، ففي مواجهة التداعيات الاقتصادية لـ “كوفيد-19” وارتفاع أسعار الطاقة والحرب في أوكرانيا، يشعر الناخبون بالضيق على الرغم من الدعم الحكومي السخي، لكن في حين يظل القتال في أوكرانيا بعيداً جداً من الحانات والمقاهي في فرنسا، فإن الصراع يدور بالتأكيد في أذهان الناخبين، فوفقاً للمعهد الفرنسي للرأي العام فإن 90 في المئة من الفرنسيين كانوا قلقين في شأن الحرب خلال الأسبوع الأخير من شهر مارس.
تزايد حظوظ اليمين
وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن ماكرون ولوبن الأكثر احتمالاً للوصول إلى الجولة الثانية في الـ 24 من أبريل (نيسان) الحالي، في حين يكتسب جان لوك ميلينشون اليساري المتشدد مزيداً من الدعم أيضاً، فوفقاً لصحيفة الـ “غارديان” البريطانية يظهر أحدث استطلاع رأي أن ماكرون حصل على 26 في المئة في الجولة الأولى، بينما ارتفع مستوى لوبن إلى 22 في المئة، وارتفع ميلينشون إلى 17 في المئة.
وأظهر استطلاع قناة “بي أف أم تي في” الفرنسية الجمعة الثامن من أبريل، أنه إذا واجه ماكرون لوبن في الجولة الثانية فسيفوز بنسبة 51 في المئة مقارنة بـ 49 في المئة للوبن، وهي أعلى نسبة اقتراع لها على الإطلاق، وهذا التقدم ضئيل للغاية لدرجة أنه يقع على هامش الخطأ، إذ قال منظمو استطلاعات الرأي إن هناك الآن احتمال حساب لفوز لوبن في الانتخابات الرئاسية، وسيعتمد كل شيء على نتيجة الجولة الأولى والإقبال وما إذا كان أنصار الأحزاب الأخرى سيواصلون التصويت تكتيكياً لوقف اليمين المتطرف كما فعلوا في الماضي، ففي العام 2017 تغلب ماكرون على لوبن بنسبة 66 في المئة بعد أن تحرك ناخبون من اليسار وتيار اليمين الرئيس لعرقلة مرشحة التجمع الوطني.
المصدر: اندبندنت عربية