الأضرار التي ألحقتها اللجنة الدستورية بأخذها القضية السورية بعيداً عما تضمنته القرارات الأممية وخاصة القرار (2254) كانت بالغة وشديدة الخطورة، لكن مع ذلك تصر المعارضة على المضي قدماً في مسارها تحت مبررات مختلفة.
صحيح أن الهدف المعلن هو كتابة دستور جديد لسوريا، إلا أن ما يجري ضمن مسار ما يسمى اللجنة الدستورية أمر مختلف كثيراً. وإذا كانت حاجة السوريين إلى دستور جديد حاجة واقعية وضرورية، إلا أن سياق ما يجري يجعل من مقولة “ضرورة كتابة دستور” هو كلام حق يراد به باطل، ذلك أن كتابة الدستور كما ورد في القرار الأممي (2254) تأتي في مرحلة لاحقة لعملية إنشاء هيئة حكم انتقالي (وهي جوهر العملية السياسية)، وهذا ما أكد عليه بيان جنيف-1 والقرار 2118 اللذان ينصان عل أن العملية السياسية تبدأ بإنشاء هيئة حكم انتقالي.
من البديهي أن أي تفاوض بين طرفين لا يكون مقروناً بموازين قوى متكافئة سيتحول إلى عملية يملي فيها القوي على الضعيف، فكان التدخل الروسي في نهاية أيلول 2015، الذي لم يكن الهدف منه فقط تمكين النظام وحسب، بل الالتفاف على القرارات الأممية وإفراغها من محتواها الحقيقي هو ثاني أولويات هذا التدخل.
ولعل العودة إلى سيرورة الأحداث منذ أواخر العام 2016 حين اجتاحت قوات النظام حلب الشرقية وهجرت سكانها بعد أن دمرها الطيران الروسي، كما يفعل الآن في مدينة ماريوبول ومدن أوكرانية أخرى، أسس لتأسيس روسيا مسار أستانة، الذي يفترض أنه يعنى بقضايا وقف إطلاق النار والمسائل الإنسانية كفك الحصار وإيصال المساعدات، على حد زعم المحتل الروسي، مستبعداً آنذاك أي شعار سياسي، لكنه تحول الى مسارٍ موازٍ لمسار جنيف، بل يمكن القول إنه استطاع تحييد هذا المسار فيما بعد، وصولاً الى مؤتمر سوتشي أواخر العام 2019، إيذاناً برجم كل القرارات الأممية.
بعد مرور سنوات على انخراط المعارضة الرسمية في عملية تقطيع القرار 2254 ووضع جثته في سلال ديمستورا الأربع، لم يعد السؤال عن جدوى المسار الدستوري هو السؤال الملح، وإنما تقدم عليه سؤال أهم عما تبقى من القضية السورية نتيجة أضرار هذا المسار؟
بداية هذه الأضرار كانت من مؤتمر سوتشي الذي وإن ارتبط شكلياً بالقرارات الأممية، إلا أنه من حيث الجوهر ابتعد عنها كل البعد، ورغم رفض هيئة التفاوض والائتلاف السوري آنذاك المشاركة في هذا المؤتمر، إلا أنهما التزما بجميع مقرراته، التي كان أهمها اختصار العملية السياسية بلجنة دستورية، ما يعني تجاوز المعارضة لجوهر العملية السياسية والذهاب إلى الدستور، متجاهلين حقوق السوريين وتضحياتهم على مدى عقد من الزمن.
لم تكن قضية السوريين في أي وقت من الأوقات مبعثها أزمة دستور، بل هي أزمة نظام ديكتاتوري لا يردعه دستور ولا أي وازع انساني أو قيمي، إلى درجة جعلت الكثيرين يتساءلون أنه فيما لو وضعت أفضل دساتير العالم وأرقاها بين يدي بشار الأسد، فهل سيكون ذلك رادعاً لتوحشه وإجرامه؟
ليس ذلك فقط، بل أتاح هذا المسار أفقاً واسعاً للنظام كي يمارس الترجمة الحقيقية لمقولة وزير خارجيته الراحل وليد المعلم: “سنغرقهم بالتفاصيل”.
من الأضرار التي تسببت بها اللجنة الدستورية بل وأخطرها هو تفتيت المعارضة وإشعال الخلافات بين مكوناتها، حيث كانت البداية من الاجتماع الأول أواخر عام 2019، عندما تم فصل عضو منصة موسكو مهند دليقان من عضوية اللجنة ومن عضوية هيئة التفاوض، لمطالبته بنقل اجتماعاتها الى دمشق، ما تسبب بخلاف كبير وشرخ عميق بين مكونات هيئة التفاوض، أدى إلى تجميدها وتوقف أعمالها، ولعل هذا أتاح الفرصة لرئيس اللجنة عن وفد المعارضة الاستفراد بقراراتها دون أي مرجعية.
تلاه صراع كبير على شرعية أعضاء مكون المستقلين الذي تعدى مكونات هيئة التفاوض، وتسبب أيضاً باستقالة عضو الكتلة بسمة قضماني من الهيئة، وتجميد ممثل منصة القاهرة جمال سليمان لعضويته في الهيئة واللجنة الدستورية على إثر فصل زميله في المنصة قاسم الخطيب، لتصل الخلافات وتتعمق داخل الائتلاف، وبين الائتلاف وبعض حلفائه من المستقلين وممثلي الفصائل المطالبين بوقف هذا المسار العبثي.
لم تثمر هذه اللجنة العبثية التي استغرق تشكيلها ما يقارب العامين، وامتدت أعمالها على مدار عامين ونصف عبر سبع جولات، أي نتيجة، بل يمكن التأكيد أن نظام الأسد هو المستثمر الوحيد لهذا المسار، اذ استطاع، رغم إيمانه بعدم جدواها، إيهام المجتمع الدولي أنه يتفاعل مع العملية السياسية، وأنه متعاون مع الشرعية الدولية ويساهم في الحل عبر المشاركة الشكلية في اجتماعاتها.
استمرار هذه المسرحية بلا أي إطار زمني يجعلها فضاء مفتوحاً لرغبة النظام بالمماطلة والتسويف، ولعل ما يبعث على الاستغراب أن مجمل الجلسات السابقة كان لممثليه الدور الأكبر في تحديد أوقاتها والتحكم بجدول أعمالها، وهكذا بقيت المعارضة السورية منذ نهاية عام 2019 وحتى الان تنتظر موافقة النظام أو رفضه لانعقاد جولاتها، وكذلك على اجنداتها.
من أكبر الاضرار التي الحقتها هذه اللجنة بالقضية السورية أيضاً أنها قزمتها من قضية شعب ثائر ضد حاكم مستبد إلى قضية دستور يكتب بالمشاركة مع القاتل! ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بكل بساطة: هل يمكن أن يوافق النظام على اعتماد دستور يقوض أركانه ويطيح بنهجه الاستبدادي؟
ربما لم يكن بوارد وفد المعارضة التفكير بالجواب على هذا السؤال، لأنهم نسوا أو تناسوا أنهم لا يفاوضون خصماً سياسياً، وإنما يواجهون طغمة أوغلت في الإجرام إلى درجة التوحش، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن الوعي العام لدى المواطن السوري بات أكثر مصداقية واستبصاراً بحقيقة النظام من معارضيه الرسميين.
التضحيات التي قدمها السوريون على كافة المستويات لا يمكن أن يوازيها مسار دستوري لا يعبّر عن الحد الأدنى من تطلعاتهم، بل يمكن القول إنه أصبح يمضي في اتجاه مصادم لهم، ناكئاً لجراحهم وآلامهم، معمقاً الفجوة الموجودة أصلا بين شارع الثورة والمعارضة الرسمية، وتجلى ذلك في رفع لافتات تعبر عن السخط من أداء المعارضة ورفض هذا المسار، والاعتراض على دخول أعضاء اللجنة للمناطق المحررة، ورميهم بالبيض والبندورة (رغم غلاء أسعارها).
من كوارث هذا المسار أيضاً، اهمال وتجاهل قضية المعتقلين والمغيبين، التي باتت مبعث وجع وقلق كل سوري، وأصبحت إحدى ضحاياه، رغم أنها قضية فوق تفاوضية مشار إليها في البند (12، 13، 14) من القرار 2254 وهي ملزمة التنفيذ قبل أي خطوة تفاوضية، إلا أن هذا الحق تجاوزته المعارضة ولم يحظَ بأي اهتمام على امتداد جولات اللجنة السبع.
خلق مسار الدستورية مبرراً لتنصل الأطراف الدولية الفاعلة من مسؤولياتها الأخلاقية أمام برلماناتها وشعوبها وعدم البحث عن حلول أخرى عبر التبرير بأن هناك عملية سياسية وتفاوض ودستور يتم العمل عليه، وأن الأطراف السورية تقبل بذلك.
ما هو جدير بالاهتمام ومثير للاستغراب في الآن ذاته أن يفاوض وفد المعارضة وفد النظام حول بنود لم تتفق عليها مكونات هيئة التفاوض بالأصل، مثل بند (هوية الدولة السورية)، إذ أن هذه المسألة ما تزال موضع خلاف ضمن وفد المعارضة ذاته، ولعل الحاح النظام على طرح هذه الفكرة للنقاش من خلال بعض أعضاء وفد المجتمع المدني المحسوبين عليه، دافعه إدراك النظام أن إثارة هذا الموضوع سيجعل المعارضة المشكلة من منصات مختلفة التوجهات الأيديولوجية والأثنية والسياسية والمرجعية، وبينها فجوات كبيرة، فضلاً عن وجود فجوات مماثلة ضمن الكيان الواحد، أضحوكة أمام العالم، وليؤكد للمجتمع الدولي أنه الأكثر تماسكاً وانسجاماً، بل الأكثر أحقية للاستمرار في حكم سوريا.
لعل السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة للشارع السوري هو: هل بات مسار اللجنة الدستورية قدراً مقدوراً عليه، وهل فعلاً تم اختزال قضيته بهذا المسار، الذي بات ينظر إليه كفصل تأمري على قضيتهم؟
هذا السؤال ربما يفضي إلى مواجهة أكثر حدة بين جمهور الثورة والمؤسسات الرسمية للمعارضة، اذ لا يمكن تجاهل أصوات كثيرة في المشهد السياسي السوري ترى أنه يمكن التنصل من هذا المسارات والعودة الى ثوابت الثورة، وخاصة أن هذا الصوت الثوري بات جاذباً لعدد من أعضاء اللجنة الدستورية أنفسهم، إذ تفاعل أكثر من عضو فيها مع هذه الأصوات، وكان آخرهم الدكتور يحيى العريضي، مما يوحي بأن صوت الشارع السوري الثائر مازال حياً، وربما ظروف حيويته باتت أكبر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أعاد من جديد طرح القضية السورية على واجهة الاعلام ولو من باب المقارنة بين ما فعله بوتين في البلدين من قتل وتدمير وتهجير.
بوتين الذي حال دون سقوط الأسد واستمر في قتل السورين طيلة سبع سنوات، ها هو اليوم يصبح عدواً للعالم بل مجرماً وقاتلاً بنظر المجتمع الدولي، مما يتيح الفرصة لضمير الثورة السورية أن يتجلى من جديد رافضاً كل المسارات التي حاولت تقويض قضيته العادلة وتحويلها إلى مسألة كتابة دستور بالتشارك مع نظام الاجرام ذاته!
المصدر: المدن