رغم اصطفافها الحذر مع أوكرانيا على حساب روسيا، وتنسيقها المباشر مع حلفائها من الشمال الأطلسي (الناتو)؛ تصر تركيا منذ بداية اجتياح أوكرانيا على محاولات مسك العصا من المنتصف. لأسباب عديدة أبرزها مشكلات الثقة بالحليف الغربي بعد سنوات من “الخذلان”، والطمع بلعب دور الوساطة في حال ظهرت مؤشرات التسوية، والعلاقات الاقتصادية التي لا يستهان بها مع روسيا.
بالإضافة لما ذُكر من مبررات استراتيجية أعلاه، يبرز تيار سياسي تركي مقرب من روسيا ومعادٍ لـ “القوى الإمبريالية الغربية”، وذو حضور وتأثير ملحوظ في السياسة والبيروقراطية التركية؛ كَعامل إضافي يفسر جزءا من موقف الدولة التركية من الحرب على أوكرانيا.
وسط تعاطف غالبية شرائح الرأي العام التركي مع أوكرانيا في دفاعها أمام الهجوم الروسي، تظهر أصوات “الأوراسيين” من سياسيين وأكاديميين وبيروقراطيين متقاعدين، لتجدد نقدها لسياسات الغرب “الإمبريالية والاستفزازية”، وتشيد بتحركات روسيا العسكرية التي “تؤسس للسلام في المنطقة”، أو على الأقل تحاول جاهدة أن تسوغ ما تمكن من مبررات.
لا تنحصر الأصوات المتسامحة مع الروس في البيروقراطية والسياسة التركية بـ “الأوراسيين”، إذ هناك من يرفض تهديد حلف الناتو لعمق روسيا الاستراتيجي -من دون دوافع أيديولوجية، خصوصاً بوجود تهديد مدعوم أمريكياً في العمق الاستراتيجي الجنوبي للدولة التركية (قوات سوريا الديمقراطية). لكن تبقى تطورات الساحة الدولية الحالية فرصة لتسليط الضوء على تيار سياسي ذي أثر واضح على مقاربات تركيا الخارجية.
تطور المصطلح بين روسيا وتركيا
تعود جذور “الأوراسية” لروسيا إلى عشرينيات القرن المنصرم، إذ ظهرت كحركة سياسية تعتبر الأمة الروسية بموقعها الجيوسياسي الفريد قوة تتجاوز الانتماء لأي من قارتي “أوروبا” أو “آسيا”. أيدت الحركة الثورة البلشفية واعتبرت الاتحاد السوفييتي فرصة لتعزيز الهوية “الأوراسية” في العالم، قبل أن يخفت نجمها تحت ظل الشمولية السوفييتية. وتشير “أوراسيا” للمنطقة الجغرافية التي تضم مجموع قارتي آسيا وأوروبا، ولا يخلو المصطلح من الدلالات التي تتنقص من المركزية الأوروبية.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، برزت الحركة من جديد مستغلةً الفراغ الأيديولوجي، مع اختلافات طفيفة أبرزها المغالاة في معاداة القوى الغربية، وضمها لحركات قومية غير روسية من الأمم المجاورة، ليطلق عليه البعض مسمى “الأوراسية الجديدة”. وبرز اسم “ألكسندر دوغين” كأهم منظريها.
أما في نسخته التركية الأولى خلال التسعينيات، ظهر مصطلح “الأوراسية” من منظور جيوسياسي بحت. مبنياً على الرغبة في جعل البلاد لاعباً أساسياً في آسيا الوسطى والقوقاز. ويجدر الإشارة لخلوه بدايةً من معاداة الغرب وتأييد روسيا، بل على العكس اُعتبرت روسيا منافس تركيا الرئيسي ضمن صراع النفوذ.
ووصل هذا التيار لذروة التأثير في منظومة الدولة التركية خلال عهد وزير الخارجية السابق “إسماعيل جم” (1997-2002)، الذي اعتبر أن عهد ما بعد الحرب الباردة يضع أمام تركيا فرصة لتكون دولة مفتاحية في الساحة “الأوراسية”.
في مطلع الألفية الجديد، وتزامناً مع ارتفاع التبادل التجاري بين روسيا وتركيا، وبعد انحدار تيار “الأوراسية” الجيوسياسي نهاية عهد “جم”؛ ظهرت النسخة “الأوراسية” التركية المؤدلجة والمقربة من نظيرتها الروسية. واستغلت انكسار الثقة بالحليف الغربي وصعود القوى الشرقية لتحقق انتشارها في الساحة السياسية والبيروقراطية التركية.
الأوراسية الفقهية
برزت الأوراسية كواحدة من حلقتي الاستقطاب الفقهي -من منظور الدولة- الأكبر في تركيا. مقابل “الأطلسية” ذات التوجه الغربي والتي تدعم التحالف مع حلف الشمال الأطلسي كمقاربة استراتيجية للدولة. وجاء صعودها كرد على وصول نفوذ “الأطلسية” لمستويات غير مسبوقة في كل من المجال السياسي والبيروقراطي والاقتصادي في تركيا منذ الثمانينيات.
والحقيقة أن هذا الاستقطاب يتجاوز التيارات الأيديولوجية التقليدية، مثل العلمانية والإسلامية والكمالية والقومية، إذ ينقسم حتى كل من هذه التيارات بين “أوراسي” و”أطلسي” كفقه استراتيجي للدولة يرسم موقعها من العالم ويحدد تحالفاتها الدولية ومقاربتها الاقتصادية.
تجد المقاربة الأوراسية صدى لها على المستوى الشعبي، فالذاكرة الجمعية التركية ما زالت محافظة على ذكرى مطامع الاستعمار الغربي بعيد الحرب العالمية الأولى. لكن موضع قدمها الرئيسي، وبسبب طبيعتها النخبوية، يتركز في البيروقراطية التركية بقطاعاتها العسكرية والدبلوماسية والأمنية، بالإضافة للأحزاب السياسية النخبوية، وهي أحزاب تعتمد على كوادر منظمة ونافذة بدلاً عن الدعم الشعبي الواسع.
وتعتبر الأوراسية أن تركيا أصبحت أداة بيد قوى الغرب “الإمبريالية”، وأن سبيل الاستقلال الحقيقي هو التحالف مع قوى الشرق الصاعدة مثل الصين وروسيا، وتبني سياسات اجتماعية واقتصادية أقرب للحلفاء الجدد على حساب السياسات الليبرالية الغربية.
في السياسة والبيروقراطية التركية
بعلاقاته المقربة مع روسيا، وصلاته الوثيقة مع منظر الأوراسية العالمي “ألكسندر دوغين”، يعتبر اسم “دوغو بيرنشك” رئيس “حزب الوطن”؛ الأهم في التيار الأوراسي التركي.
لعب “برينشك” أدواراً عديدة مهمة في الساحة السياسية التركية منذ الستينيات وما زال. وتستند قوته على علاقاته المتشابكة مع شخصيات محورية في البيروقراطية التركية متعاطفة مع منظوره السياسي.
رجحت كفة الخصوم “الأطلسيين” في الدولة والسياسة التركية منذ نهايات القرن المنصرم، وتعزز الواقع الذي “يقصي” الأوراسييين بصعود حزب العدالة والتنمية بسياساته الليبرالية المتجهة للاتحاد الأوروبي مطلع الألفية، وبازدياد نفوذ اتباع “فتح الله غولن” المحسوبين على الغرب ضمن البيروقراطية التركية.
خلال العقد الأول بعد الألفين، عانى “برينشك” ورجالاته في البيروقراطية التركية من الإخراج الممنهج من مناصبهم وأدخلوا السجن نتيجة إجراءات ومحاكم قضائية، قيل لاحقاً إن جماعة “فتح الله غولن” كانت ترعاها. قبل أن تبدأ علاقة الحكومة التركية مع الغرب بالانحدار اعتباراً من عام 2013، ولتعزز فرص عودة التيار “الأوراسي” بقيادة “برينشك” لمفاصل الدولة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي شكلت الضربة الأبرز لـ “الأطلسيين”.
استغلت الحكومة التركية علاقات التيار الأوراسي المتينة مع روسيا والصين خلال تقاربها مع القوى الشرقية خلال السنوات الماضية، ووجدت في الكادر الأوراسي ضالتها لتواجه إقصاء الغرب لها في ساحات النفوذ مثل البحر الأبيض المتوسط. لكن في المقابل يمكن تفسير عدم انجرار الحكومة لمعاداة الغرب في المستوى التي تتبناه هذه الكوادر، على أن دعمها لهم يبقى مناورة لموازنة تأثير القوى الخارجية في السياسة والبيروقراطية التركية.
لا يمكن إنكار تأثير أي من التيارين، وخصوصاً الأوراسي الذي عاد بقوة مؤخراً لمفاصل النفوذ في الدولة التركية، على سياسات البلاد الخارجية. لكن يحسب لحزب العدالة والتنمية تحجيمه لتأثير البيروقراطية التركية عموماً في صناعة القرار. ففي نهاية اليوم وعند القرارات المصيرية لا يسعهم إلا أن يسيروا خلف ما ارتآه رئيس البلاد رجب طيب أردوغان.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا