تعود الروابط التاريخية للمدينة مع روسيا إلى حقبة الإمبراطورة كاترين العظيمة، وعلى الرغم من علاقات راسخة منذ قرون، يستعد سكان المرفأ الأوكراني لمواجهة قوات بوتين بمقاومة شرسة
قبيل إطلاق فلاديمير بوتين عملية الغزو ضد أوكرانيا، سرت إشاعات في مدينة أوديسا مفادها بأن عمدتها طلب مليون وردة حمراء من الإكوادور لتكريم القوات الروسية لدى وصولها المرتقب إلى المدينة.
تعود الروابط التي تربط أوديسا وروسيا إلى قرون خلت، إذ تجد جذورها في التاريخ والثقافة والروابط العائلية.
في أواخر حقبة التسعينيات من القرن الـ 18، ساعدت الإمبراطورة الروسية كاترين العظيمة في بناء الأسس الحديثة للمدينة التي بقيت حتى يومنا هذا، روسية الطابع واللغة والشكل الهندسي.
وعلى الرغم من هذه الروابط العميقة المترسخة، ما من نيات لاستقبال قوات بوتين بأذرع مفتوحة، وتلك الورود التي طُلبت ما هي إلا للاحتفاء بـ “يوم المرأة العالمي”، وهو عطلة رسمية في أوكرانيا، كذلك ما من رغبة إطلاقاً في أوديسا للخروج من عباءة المقاومة الأوكرانية.
“نحن جاهزون للهجوم”، بحسب إيرنا غريغورييفا، وهي إحدى عديدين من سكان المدينة الذين لم يفروا بعد. “تجمع عديد من جيشنا للدفاع عنا. لا نريد أي احتلال روسي. أريد أن أكون حرة في أفكاري ومشاعري وكلماتي”.
وعلى الرغم من أن أسوأ المعارك لم تصل بعد إلى أوديسا الواقعة على البحر الأسود في جنوب غربي أوكرانيا، يسود شعور بأنها مسألة وقت وحسب.
وفي هذا السياق ترى سولوميا بوبروفسكا وهي نائب حالي وحاكم سابق لأوديسا، “نحن على يقين تام بأنهم سيحاولون السيطرة على المدينة”.
وشوهد مخربون روس في المنطقة حاولوا نشر إمدادات عسكرية في المدينة وتنفيذ استطلاعات، فيما ذكر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن القوات الروسية تستعد لقصف مدينة أوديسا.
لا شك في أن تنفيذ ذلك سيلحق دماراً هائلاً بمرافئ المدينة وموانئها التي بثت الحياة في اقتصاد البلاد منذ أيام الإمبراطورة كاترين العظيمة، واليوم تشكل المرافئ الثلاثة الرئيسة في منطقة أوديسا 70 في المئة من إجمالي الصادرات الأوكرانية المؤلفة بغالبيتها من الحبوب والخضراوات.
ولكن مع وقف العمل في مرافئ المدينة لا يعاني الاقتصاد الأوكراني وحده، وفي هذا الإطار تحذر هانا شيليست، وهي خبيرة أمنية في شؤون البحر الأسود وعملت مستشارة للحكومة المحلية، بأن البلدان في آسيا والشرق الأوسط التي تعتمد على أوديسا للحصول على طعامها تواجه خطر توقف هذه الإمدادات، وقد تضطر لدفع أثمان باهظة مقابل الحصول على مصادر بديلة.
وتعتبر شيليست بأن ذلك “أحد الأسباب الرئيسة” لسعي بوتين إلى الاستيلاء على المدينة بهدف شل أوكرانيا خلال الغزو الحالي، ثم استغلال ثرواتها لتحقيق مكاسب لروسيا.
وتضيف بأن أوديسا مقر للبحرية الأوكرانية منذ ضم جزيرة القرم في العام 2014 (التي شكلت موقع المقر القديم لتلك البحرية)، وبالتالي فإنها تشكل عنصر جذب عسكري واستراتيجي، ومن خلال الاستيلاء على مرافئ المدينة ستتمكن روسيا أيضاً من تعزيز وجودها في البحر الأسود.
وتتابع شيليست، “تتمتع البحرية بتصميم وتحفيز عاليين للقتال بعد واقعة القرم، وتدرك قواتها ما عليهم توقعه. وفي الوقت نفسه سيستهدف الروس مدينة أوديسا بكثافة لمعاقبة البحرية الأوكرانية”.
لاستباق إراقة الدماء المتوقعة اختار بعض السكان الهرب ومغادرة المدينة، وانتقلت أناستازيا التي تعمل كمعلمة في مدرسة أوديسا الناطقة باللغة الروسية إلى بوخارست بعيد بدء سقوط القذائف على شرق أوكرانيا.
لدى أناستازيا واجب تجاه طلابها الذين يستمرون بالحصول على تعليمهم في مبنى قدمته حكومة رومانيا، لكنها تتواصل بشكل دائم مع زوجها الذي بقي في أوديسا.
وبحسب أناستازيا، “الرجال الذين يمتلكون خبرة عسكرية هم الوحيدون الذين يحصلون على الأسلحة، لكن هنالك أيضاً أولئك الذين يساعدون في إعداد المدينة لمواجهة الغزو على غرار زوجي. يجلبون الرمال من الشاطىء ويقيمون متاريس في الشوارع، ويضعون شرائط لاصقة على النوافذ للحماية من الانفجارات. إذا تجولت في شوارع أوديسا تجد أنها ليست خالية. الحياة تستمر ولكنها حياة من نوع آخر”.
وعلى الرغم من كون أناستازيا مولودة في روسيا وتقضي معظم أوقاتها في أوديسا تتكلم باللغة الروسية، كحال غالبية السكان، تحولت اليوم إلى التحدث باللغة الأوكرانية. إنها التفاتة صغيرة لكنها فعل تحد أيضاً اعتمده عمدة المدينة جينادي تروخانوف المعروف بمواقفه الموالية لروسيا.
وتضيف أناستازيا، “بدأنا نتحدث باللغة الأوكرانية مع بعضنا لأننا لا نريد أي شيء يربطنا بجيراننا. كنا محايدين في السابق وكانت الروسية لغتنا وكانت تلك ثقافتنا، إذ كنا نقرأ كتباً روسية وإلى ما هنالك، ولكنهم الآن يقتلون بلدنا. روسيا ليست موضع ترحيب في أوديسا بأي شكل من الأشكال”.
إنه ذلك النوع من البيانات التي لا يمكن الإدلاء بها إلا في وقت الحرب، ففي الواقع صرح 68 في المئة من سكان أوديسا في استفتاء أجري في سبتمبر (أيلول) الماضي بأنهم يوافقون على مفهوم أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد”.
أما الأسئلة التي تطرح الآن فتتعلق بكيفية محاولة قوات بوتين إطلاق هجومها على المدينة، وتوقع بعضهم بأن الكرملين متردد في إخضاع أوديسا لوتيرة القصف نفسها التي شهدتها مدن أخرى بسبب الروابط الروسية التي تحظى بها المدينة.
وتقول شيليست التي تقطن المدينة، “تحتل أوديسا مكانة عاطفية بالنسبة إلى كثير من الروس، ويمكن أن يكون البدء بقصفنا بالحدة نفسها التي شهدتها خاركيف كارثياً على العلاقات العامة، فأي تدمير لوسط مدينة أوديسا المعروف بشكل كبير لدى عدد من الشعب الروسي سيكون بمثابة استهداف لأرضهم”.
وأبعد من مسألة العواطف، يبرز الواقع المتمثل في أنه لم يسبق لقوات بوتين أن بلغت أقصى الجنوب الغربي لأوكرانيا، فيما هي عاجزة عن التقدم وعالقة في قتال عنيف على أطراف عدد من المدن الشرقية.
لا مجال للمقارنة بين البحرية الروسية وتلك الأوكرانية من حيث الحجم، وقد بدأت السفن الحربية التابعة للكرملين بتعزيز وجودها في البحر الأسود من خلال مهاجمة المواقع العسكرية وإغراق السفن التجارية، بيد أن أي هجوم انطلاقاً من البحر على أوديسا سيحتاج “إلى دعم جدي من البر” من أجل الحصول على أي أمل بأن تحط القوات على شواطىء المدينة التي أصبحت اليوم محصنة، بحسب شيليست.
وأضافت، “ستكون محاولة الهجوم ضرباً من الجنون واللامنطق”.
كذلك يبرز احتمال تحول روسيا إلى “ترانسنيستريا”، وهي منطقة انفصالية موالية لروسيا في مولدافيا، للمساعدة في إطلاق ما تعتبره النائب بوبروفسكا “جبهة ثانية محتملة”، وتخضع المنطقة الانفصالية غير المعترف بها والواقعة على الحدود مع مولدوفيا وأوكرانيا لسيطرة موسكو الكاملة، ويتمركز فيها حوالى 1400 عسكري روسي يمكن استخدامهم لبدء أي هجوم على أوديسا.
بحسب شيليست، لا يبدو واضحاً إذا كانت هذه القوات مستعدة للانخراط في الحرب فيما تدمر الجسور بين ترانسنيستريا ومنطقة أوديسا، بيد أن التهديد والخوف لا يزالان سيدا الموقف.
في غضون ذلك، ما من خيار أمام المدينة سوى الانتظار والترقب فيما تحترق بقية البلاد وتنزف، وفي حال وجهت قوات بوتين نظرها باتجاه الغرب، ومتى فعلت ذلك، فلن تسلم أوديسا من القتال بغض النظر عن جذورها الروسية، وفي هذا الصدد تورد بوبروفسكا، “بصفة أوديسا مدينة ساحلية فلدى سكانها عقليتهم الخاصة بهم، وما من أحد يستطيع التحكم بهم أو فرض إملاءات عليهم”.
ولكن خلف روح المقاومة والصمود تلك تظهر بعض المرارة حول إمكان عودة الحياة التي كانت تعيشها أوديسا وأوكرانيا في السابق. “أود أن أشعر بالشعور نفسه قبل بدء كل هذا”. وفق بوبروفسكا ووفق كلمات ختامية، “كانت لدي أحلام وخطط وأهداف. كان لدي مستقبل”.
المصدر: اندبندنت عربية