قليل من الشخصيات السياسة، لم يرشقها الناس بأحجارهم الموجعة، وهذا أمر طبيعي، فالسياسة مصالح، والمصالح تتناقض وتتصادم، ناهيكم بالذاتية المتمكنة من نفوس بعضهم، وبخاصة عند الشعوب التي لا تزال تعيش العلاقات الاجتماعية الإقطاعية أو شبهها.
عمر قشاش واحد من تلك الشخصيات التي غمرها كلُّ من عرفها، أو سمع باسمها بمحبة واحترام.. وهي الشخصية الشيوعية الواضحة مثل شمس، المتواضعة في علاقاتها مثل نبي.. إنه أبو عبدو، عمر عبد الغني قشاش المولود في حي شعبي من حلب القديمة عام 1926 وفي مجتمع متدين محافظ.. مجتمع كانت الدعاية المضادة عن الشيوعيين “الكفرة” قد وصلته، قبل أن يتعرف على أيّ منهم..! ولأن الناس، في العادة، لا يؤخذون بالأقوال فحسب، بل بما يقوم به الرجال من أفعال، فقد غدا عمر قشاش، بطلاً أسطورياً في الذهنية الشعبية السورية لمصداقية سلوكه العملي في الدرجة الأولى، ولحجم المآسي والأحزان التي عاشها وأسرته.. ثم، وهذا، مهم جداً، لشدة كره الشعب للنظام المستبد الذي لم يهادنه عمر أبداً..
ذات يوم، ونحن نسلِّم عليه، بعد الإفراج عنه من آخر سجن طويل له (خمسة عشر عاماً متواصلة) قال له أحد أصدقائنا، على نحو عفوي مفعم بالصدق:
“أنت رجل في زمن عزَّ فيه الرجال”.
وواضح أن العبارة جاءت في غاية الاختزال والتعبير الدقيق. إذ امتدحت الرجل مستبطنة نضاله ضد الاستبداد المفروض على الناس بالقوة وبطش العسكر.. وقد جاءت لائقة بالرجل وأفعاله.. فالتسعون عاماً، التي أمضى خمسها في سجون الحكم العسكري ومعتقلاته، وثلاثة أرباعها مناضلاً سياسياً ونقابياً في صفوف الحزب الشيوعي وقيادته الذي أخذ فرعه، بل أحد فروعه، فيما بعد، اسم حزب الشعب الديمقراطي لدى الانقسام العمودي الكبير في الحزب عام 1970 أي مع مجيء حافظ الأسد إلى السلطة.
ما أريد قوله، إن الأعوام الطويلة تلك، لم تلن للرجل عزيمة، ولم تفتر له همة على طريق وعر اختطه لنفسه، إنه طريق الكفاح الوطني بشقيه السياسي والاجتماعي منذ بداية خمسينيات القرن الماضي (انتسب للحزب عام 1951) وإلى أن تجرأ الموت عليه في غفلة منه، في العاشر من آذار 2016، وبعد أن أوهن الزمن جسده المتين.. جسده الذي استعصى على الجلادين خلال سنين طويلة، فلم يستطيعوا تجاوز بنيانه القوي إلى الروح الكامنة فيه، والتمكن من التماهي بمحبة سورية وشعبها الفقير..
عمر قشاش تعرفك سورية مدينة، مدينة.. وشارعاً، شارعاً، وكل أهلها أهل لك، ومحبون لروحك التي تنبض بهمومهم وآمالهم، إنهم السوريون البسطاء الذين وضعتهم في إطار الدائرة التي تعمل بها وعليها نهوضاً وارتقاء.. أبو عبدو، يا من غابت بسمتك عنا، أذكر جيداً، وأنت في الثمانين وربما أكثر، كنتَ تجوبُ الشوارع والحدائق والمعامل والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة، تلتقي بالناس العاديين، تستمع إلى همومهم، تستحثهم على البوح بشكواهم، ترشدهم إلى طريق ما يحصّلون من خلاله حقوقهم المهدورة، وكثيراً ما كان ينتهي بك التطواف عندي، في مكتب دار النشر بالمنشية القديمة.. فأُسَرَّ بما تتكرم به عليَّ من حديث وذكريات.. سواء عن حلم بلادنا الديمقراطي، وأهمية مناهضة الاستبداد الشامل، وأوله السياسي، أو عن قصصك مع مدير التأمينات الاجتماعية، ومطالبتك إياه بالعمل على تحسين أوضاع العمال، وحل أهم مشكلة لديهم وهي: تهرب أرباب العمل من تسجيلهم في المؤسسة التي يديرها تأميناً لحقوقهم، ومناقشته بكيفية تحصيل أموالهم الخاصة التي تطاولت عليها الدولة من صندوق المؤسسة، وقد بلغت في ذلك الحين مليارات الليرات السورية، (أعوام السبعينيات). ولا أنسى أبداً يوم حدثتني عن آخر توقيف لك في الأمن العسكري بسبب إعطائك بياناً لأحد عناصرهم المبثوثين حتى في الحدائق حيث راحة الناس والتفريج عن الأنفسِ.. كان ذلك في العام 2011 وربما كان البيان عن الأول من أيار الذي كنت تكتبه بنفسك في السنوات الأخيرة بعد أن صار للحزب الذي تنتمي إليه رؤية أكثر واقعية من مسألة الصراع الطبقي في سوريا، وكنت لدى توقيفك قد تجاوزت الثالثة والثمانين من عمرك، ولعلهم، حين أفرجوا عنك بعد خمسة عشر يوماً، خجلوا من أنفسهم، وهم الذين لا يعرفون هذه الصفة مطلقاً، ولكن المظاهرات الشعبية السلمية التي كانت تجوب المدن السورية كلها، جعلتهم يضربون أخماساً في أسداس، رغم أنك صرخت بوجههم ألا تعرفونني أنا عمر قشاش.. أنا معارض للاستبداد..
ما الذي يمكن أن يكتبه المرء عنك، وأنت السِّفْرُ الطويل الغني بما يستوجب الكتابة؟! أأكتب عن لقائك بـ ”هوشي مينة” الذي هزم الأمريكان، وقاد شعبه نحو استقلال وطنه، وأنت العامل في الجبل تقطع الحجر الأصم، ثم عامل المطابع الفقير الذي استكمل تعليمه في الحزب وأحسن التعامل اللين مع الحرف إلى أن تمكَّنَ من كتابة المقالات السياسية والاجتماعية؟! تلك المقالات التي وجدت طريقاً لها لتظهر على صفحات جريدة النور السورية تحت اسمين مستعارين الأول “سالم الحلو” والثاني: “معن حداد” بعد أنْ كان مقصُّ الرقيب ينال منها أحياناً، فيشطب ما يستفز فردية الحاكم، وروحه الاستبدادية المتربصة عبر أعوانه، ويداري على نفسه إلى أن أخذ يتهرب من نشرها..
أأكتب عن سجنك وانشغالك بالقراءة وتعلمك اللغة الفرنسية داخله؟! أم أكتب عما يتناقله رفاق السجن عن روحك المرحة، وتحكيمك في أمور سياسية واجتماعية كثيرة.. أم أكتب عن حضورك معظم أنشطة المركز الثقافي بحلب ومطالبك بالديمقراطية السياسية كلما سنحت الفرصة! أم أكتب عن حياتك التنظيمية ومن أمثلتها تأسيس منظمة الطبقة وقيادتها ببراعة واقتدار حيث بناء سد الفرات، وحيث الحضور السوري بأطيافه كلها: عمالاً ومهندسين وإداريين.. واتجاهات سياسية مختلفة.. يقول صريح البني عن تلك المرحلة: “بيد أن الرفيق الذي قاد فترة تأسيس المنظمة، مباشرةً، هو: عمر قشاش. وأشهد أنني، قليلاً، ما تعرّفت على إنسانٍ آخر بمثل دأبه وصبره وتواضعه”. و”رغم ذلك فقد أُسْقِطَ عمر في خضم الصراعات الحزبية، ومن خلال انتخابات صورية رتبت له في فرقة حزبية ريفية، لا يعرف أعضاؤها من هو عمر قشاش؟! إذ كانت بمثابة فخ لإيقاعه، وهو الرجل الذي لا تخطر بباله مثل هذه الخيانات الرفاقية”.
ما الذي أكتبه يا عمر؟! هل أكتب، وهذا الأهم، عن مواقف حزبية مفصلية، كان لك رأي فيها، ومنها موقف الحزب من قضية الوحدة السورية المصرية، التي أيَّدَها الحزب الشيوعي السوري.. إلا أنَّ سَفَرَ الأمين العام إلى خارج البلاد، وغيابه المتعمد عن جلسة البرلمان الذي كان سيناقش الموضوع، أفسد كلَّ شيء. حدث ذلك، بعد اتصاله بأكرم الحوراني رئيس المجلس خوفاً من اعتقال ما لدواعي رفض حلِّ الحزب.. وتطمين الحوراني له. فأنت، يا عمر، من أعاد طباعة بيان اللجنة المركزية بآلاف النسخ الذي أتى بصورة عنه أحمد محفل من دمشق، ولتقوم اللجنة المنطقية بحلب بتوزيعه على نطاق شعبي واسع..
كثيرة هي المناقب المشرفة، التي يمكن الخوض فيها، وكثيرة معاناتك بسببها، لكن الوقت الذي تثأر فيه لنفسك قريب، بل لعله صار قريباً جداً.. إنه اليوم الذي يتكلل فيه نضال الشعب السوري بالانتصار على أشكال الاستبداد كافة.. فلتهنأ بما فعلت، فأنت حي أبداً في عيون شعبك الذي بادلك حباً بحب، وها هو ذا يأخذ على عاتقه تحقيق الحلم الذي من أجله ناضلت، وقد رأيت ذلك بعينيك، بل لم يفتك شرف المشاركة بتحقق حلم الحرية!
المصدر: صفحة محمود الوهب