الحريرية… خفوت الاستثناء والعودة إلى الأصل!

محمد قواص

ليس هناك حريرية سياسة بالمعنى العقائدي الذي يوحي به الاسم المتعارف عليه منذ عقود. هناك رفيق الحريري الذي جاء ثم رحل، وما زال الناس في دعمهم أو تصويتهم لورثته إنما يصوتون للراحل وذكراه.

والحريرية السياسية تعني أن هناك نظرية أو منهجاً يتراكم بالتجربة وينتج أدبيات فكرية تصنع مدرسة سياسية. غير أن الأمر ليس كذلك. رفيق الحريري هو السبب والمسبب وحوله دارت وما زالت تدور الأسباب. والرجل، بما كان يتّسم به من طباع وكفاءة وعلاقات خارجية ومواهب قيادية، جاء في ظرف تاريخي وجيواستراتيجي محمولاً على تفاهمات إقليمية ورعاية دولية وفّرت لرجل الأعمال أن يباشر السياسة ويصعد في سلم الزعامة إلى مصاف لم تصل اليه أية شخصية أخرى في طائفته.

فرق شاسع بين العائلة وبين المدرسة السياسية. وفيما عدا شقيقته “بهية” لم يعرف في عهد رفيق الحريري أي نشاط سياسي لأي فرد من عائلته ولم يتقلد الأبناء أي مناصب. لم يتحدث رفيق الحريري عن حريرية سياسية. لم يُقم حزباً سياسياً بل حراكاً رسمه وحده استعان له بمن وجده مناسباً لرؤاه، ثم ضمّ إليه الأنصار والمحبين والداعمين وشكّل من هذه الورش المرتجلة تياراً لم يرقَ ولم يرده أن يرقى إلى مستوى الحزب السياسي بالمعنى الهيكلي التقليدي.

والحريرية السياسية عملياً هي تجمع كل من كان نصيراً وداعماً ومحباً لرجل وجدوا به ما يطمحون له لوطنهم أو لخلاصهم السياسي وبعضهم انتهز به مصلحة ومنفعة وطموحاً شخصياً. من داخل هذه الظاهرة من وجد نفسه لاحقاً في “تيار المستقبل” عندما أصبح حزباً في عهد سعد الحريري وعهدته، فيما آخرون ظلوا أصدقاء وأنصاراً بعيدين من هذا الهيكل القانوني المختلف عن التشكّل العفوي العاطفي، وربما الغرائزي، الذي ارتبط بسيرة الزعيم الذي رحل وحكايته.

ولئن اختلفت خلال الأعوام الأخيرة شخصيات كانت قريبة من الحريري الأب مع حزب “تيار المستقبل” وزعيمه الابن، وتذهب شخصيات أخرى هذه الأيام إلى الاستقاله (على منوال ما فعله نائب رئيس التيار مصطفى علوش)، أو النأي بنفسها عن خيارات رئيسه (كالمنحى الذي اتخذه رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي تولى المنصب بين عامي 2005 و2009)، فتلك أزمة حزب وليست أزمة “الحريرية” التي إذا ما وجدت مستقلة  عن حزب الابن، فإنها باتت تنهل ديمومتها من ذكرى المؤسس الراحل.

بكلمة أخرى فإن حال التيار-الحزب في صعوده وانحداره يرتبط بقيادة سعد الحريري وخياراته وقراراته وهو واقع يستند الى وقائع. في المقابل فإن حال الحريرية مختلف، فهي ترتبط بذكرى رفيق الحريري التي ما زالت حاضرة في الوجدان العام فلا تنهل من واقع اليوم بل تستدعي وقائع الأمس ورواياته واجتهاداته.

وتجاوزاً للحالة الحريرية، وجب التذكير بأنها حالة استثنائية في تاريخ السنّة في لبنان بما يؤكد القاعدة وأصولها واحتمالات العودة إلى تقاليدها.

والأصل أن السنّة المنتشرين في عاصمة البلد ومدنه وقراه وأطرافه لم يكونوا يوماً موالين للزعيم الأوحد، بل لمروحة من الشخصيات المحلية، حتى داخل المنطقة الواحدة، التي تتناكف وتتنافس في ما بينها ولا تقبل وحدة وقلما جمعتها مصلحة مشتركة. ولئن أضعفت ظروف الحرب الأهلية (1975-1990) ومصادرة التيارات القومية واليسارية نفوذ القوى التقليدية والبيوتات السياسية السنّية، فإن رفيق الحريري جاء استثناء للملمة الشتات واستنهاض الهمم المتلاشية المشتتة وصناعة زعامة واحدة تكاد تكون شمولية.

والحاصل هذه الأيام أن سعد الحريري لم يعد يجد في ظروف البلد الداخلية وفي تصدّع الحاضنات الخارجية ما كان وجده رفيق الحريري في التسعينات. بمعنى آخر فإن الرجل يتأمل اندثار الاستثناء فيأخذ علماً بنتائجه ويقرر الانكفاء ربما بانتظار استثناء مأمول. ولئن تتضارب الأنباء بين ما هو اعتكاف سياسي أو انتخابي، فإن الأمر يعبّر عن وجع بنيوي داخل “التيار” مجهول المآلات غامض الأفق.

قد تقصر أو تطول أزمة “تيار المستقبل”. وقد يفاقم عزوف سعد الحريري وحزبه عن خوض الانتخابات من تراجع موقع التيار ومستقبله، خصوصاً أن الغياب عن الصف السياسي الذي ستفرزه تلك الانتخابات، سلطة ومعارضة، من شأنه تقزيم مكانته وقد يؤدي إلى ضمور موقعه داخل المشهد السياسي العام، لا سيما لدى سنّة البلد. غير أن الأمر ليس حتمية قدرية في علم السياسة، خصوصاً أن سعد الحريري ما زال يحظى بالمكانة الوازنة وبحاضنة شعبية مريحة داخل طائفته.

ومع ذلك فإن الحدث هو أزمة حزب وليس أزمة طائفة. والأرجح أن “التيار” لن يستمر “حزب السنّة” وسيستعيد السنّة بدار الافتاء ومؤسساتهم الدينية والسياسية، وبوجهائهم وواجهاتهم في السياسة والفكر والسياسة والأعمال رشاقة التعدد التي غابت منذ رفيق الحريري. والأرجح أن الحريرية التي لم يرد رفيق الحريري لها أن تكون حزباً قد تتحرر من الحزب والعائلة وتعود لتلعب دوراً، وليس “الدور”، داخل ديناميات جديدة ما زلنا نراقب تشكّلها يوماً بعد آخر.

والأرجح أن حراك السنيورة-علوش الذي يظهر عكس التيار اليوم قد يكون المنقذ لـ “التيار” غداً.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى