بعض ما تحمله الذاكرة من صور يستقر ولا يرحل أو يغيب بمرور السنين. ومن وحي ما عشته في الريف الشمالي الحموي في المدة مابين (٢٠١٣/ ٢٠١٥) سأسرد ذكريات شخصية لبعض ما مر بي في تلك الفترة: الخوف وعدم الأمان من القصف الدائم كل ذلك كان خبزنا اليومي نقتاته ونتعامل معه أثناء عملنا الثوري والسياسي بلا مبالاة في كثير من الأحيان و بالسخرية منه أحيانا أخرى، لكن حقيقةً كان أكثر ما يرعبنا هو البراميل الليلية على المنازل المدنية في كفرزيتا وأهلها الصامدين الصابرين وفي ظل غياب المضادات الجوية الفعالة والتي كانت ممنوعة ومحظورة على فصائل الجيش الحر فلم يكن أمامنا إلا اللجوء للباري عزّ وجل بالدعاء حيث لم يكن البيت الذي نسكن فيه مؤمناً إذ لم يكن فوقه أي طوابق تحميه ولم يكن تحته قبو أو مغارة كالتي حفرها البعض تحت منازلهم كملاجئ بدائية فكنا نقرأ الفاتحة على أرواحنا ونحن ننتظر هبوط براميل الأسد … هدير الطائرات “الحوامات” في السماء … والمراصد تصدح طيران “هلوكبتر” من مطار كذا … تحمل براميل انتبهوا إخوتي الكل يطفىء الانوار التزموا الأقبية نادوا جيرانكم وحذروهم … الطائرة دخلت سماء الضيعة انتبهوا أهل قريتي الله يحميكم يارب … يقترب هدير الطائرة وهي مرتفعة في السماء دون رؤيتها في هذا الليل البهيم الشديد الظلمة… يصرخ مرصد آخر عبر القبضات دبّت ..رمت ..زتت … يهوي البرميل وهو يصفر كأنه الريح الشديد يزداد صفيره يقترب أكثر من الأرض والحجر والبشر … وهنا لا يمكن أن أصف مشاعر الخوف التي تعتري الناس وتعترينا حيث الظلام يلف المكان وصوت البرميل يقترب دون أن يشاهده أحد أو يعرف أين سينزل حيرة وخوف وترقب مجهول آت وأسئلة وجودية تتقافز في أجزاء من أجزاء من الثانية هل سنموت؟ كيف سيكون الموت؟ ماذا سيحصل بعده؟ هل سنصاب؟ هل ستكون الإصابة عميقة تسبب شللا أو عجزا مدى الحياة؟ كم سنتألم؟ هل سنرى من نحب مرة أخرى؟ أسئلة شتى يقطع تهافتها دوي انفجار البرميل وضغطه الذي يطيّر الأبواب والنوافذ وتكسير الزجاج و يملأ الغبارُ المكان فلا نعرف هل ما زلنا في هذا العالم أم انتقلنا إلى عالم آخر؟ نتحسس أجسادنا نبحث في العتمة عن خيالات بعضنا البعض نتبادل الأسئلة (هل حدث لك شيء) نطمئن حين نسمع أصوات بعضنا (أنا مافيي شي) نطمئن لبرهة ثم نعاود القلق على من نزل فوقهم البرميل وهل هناك ضحايا ونهمُّ بالخروج للاطمئنان على الجيران ثم ما نلبث أن نسمع صوت الشيخ عبود ينادي مجددا (انتبهوا برميل ثاني يدبه ابن الحرام) يجمد البشر وتتوقف القلوب عن النبض يهوي البرميل الثاني ويتبعه الثالث يصرخ المرصد الموحد ثلاث براميل دفعة واحدة يشتد الهلع ويملأ الغبار والشظايا سماء كفرزيتا ومع كل برميل نعيش مجددا كل ما ذكرته من هلع وخوف وأسئلة … حتى تنتهي مهمة القتل المكلف بها قائد المروحية ويقفل راجعا إلى حضن الأسد مترقبا أخبار نجاح مهمته ومتفاخرا بعدد ضحاياه أمام زملائه المجرمين الآخرين، وبعد ذلك يأتي الصوت عبر المراصد: (نادوا على الإسعاف والمنقذين للتوجه إلى أماكن الانفجارات أفسحوا الطريق للإسعاف أو للجرافة “لرفع سقف منهار أو فتح الطريق المسدود بالردم” إخوتي أطفئوا الأنوار في الشوارع) تهرول الناس وتسرع إلى أماكن الانفجارات للمساهمة في إنقاذ الناجين أو المصابين وانتشال الجثث من تحت الردم … هذا حي وهذا جريح وذاك شهيد وتتردد أصواتٌ شتى: (أين أبي؟ أين أمي؟ أين أخي؟ أين أختي؟) تتصارع الإجابة عند الجميع و لا أحد يعرف الجواب الصحيح ….. هنا يد وهناك قدم وهنا رأس بلا جسد وهنا.. وهنا…….. يعود الشيخ عبود عبر قبضته اللاسلكية (إخوتي التوجه إلى المشفى الغربي والشرقي للتبرع بالدم نحتاج لدم من زمرة A إبجابي) يتوجه الشباب من كل الزمر الدموية ليكونوا جاهزين للتبرع حسب الطلب … هذا ما كان يحدث في مدينتيّ كفرزيتا واللطامنة وكل المناطق المحررة بشكل شبه يومي وما زال إصرار المجرم الطاغية على قتلنا وإبادتنا بالراميل والصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية والقنابل المحمولة بالمظلات والأسلحة الكيماوية التي استهدفت وما تزال تستهدف سورية المحررة وحاضنها الشعبي …. ولا يزال شعبنا صامد حتى الآن ويضحي وثورتنا مستمرة رغم كل ماجرى لها ويجري وسيجري.