لا تخذلوهم “المعتقلون مرة أخرى”

محمد برو

ما نزال بين الفينة والأخرى، نسمع صرخةً هنا وأخرى هناك، وحملة مناصرةٍ وحملةً للتذكير بقضية المعتقلين في سجون النظام السوري. بلا أدنى شك أنَّ هذه الصرخات وهذه الفعاليات لها أثرٌ كبير على أصحابها أولاً، وربما يكون هذا هو دورها الوحيد، الدور الذي يبقي شطراً من السوريين متمسكين بقضيتنا الوحيدة، وهي الصراع مع هذا النظام الذي يدير معركته الصفرية مع شعبه، “إما أن تطيعوني أو أقتلكم”، تلك المعركة التي لا تقبل أدنى مساومة، أو تراجع عن كل مكتسباته، التي حصل عليها بقوة السلاح، كما حافظ عليها بسلاح الرعب الذي يزرعه دائماً عبر الجريمة المستمرة، كونه مدركا ومنذ سنوات الأسد الأب، أنَّ أي خطوة للخلف يرتكبها إذعاناً لمطالب الجماهير أو إرضاءً لها، ستكون الخطوة الأولى نحو الهاوية ونحو تفكك منظومة الرعب ومملكة الصمت، التي بناها عبر خمسين سنةً باحترافية عالية، وعبر مئات آلاف الضحايا والمختفين قسرياً.

بقصدٍ أو بدون قصد، يخادعنا بعض المفاوضين أو المؤتمرين هنا أو هناك بالعمل على ملف المعتقلين، وهم يدركون كما يدرك المبصر ضوء الشمس، أنَّ هذا النظام لن يسمح أبداً بالعبث أو الاقتراب من هذا الملف الذي يشكل لديه دعامة أساسية من دعائم الحكم، واستمرار إحكام قبضته على أعناق مواطنيه السوريين، وإن أي حديث يجري في هذا الباب ما هو إلا محض أمانٍ وشعارات، لا تنزل مطراً من السماء، وخلال ما ينوف على خمس سنوات، ومنذ انطلاق محادثات “أستانا” في العاصمة الكازاخية تحت مظلة روسية مهيمنة، لم تتقدم قضية المعتقلين خطوة واحدة، بالرغم من تأكيدهم في اللقاءات الأولى، بأن الحلّ الوحيد سيكون من خلال عملية سياسية مبنية على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بالكامل، والذي ينص في فقرته رقم “12” ((دعوة الأطراف إلى أن تتيح فورا للوكالات الإنسانية إمكانية الوصول السريع والمأمون وغير المعرقل إلى جميع أنحاء سوريا ومن خلال أقصر الطرق، وأن تسمح فورا بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع من هم في حاجة إليها، لا سيما في جميع المناطق المحاصرة والتي يصعب الوصول إليها، والإفراج عن أي محتجزين بشكل تعسفي، لا سيما النساء والأطفال، ويدعو دول الفريق الدولي لدعم سوريا إلى استخدام نفوذها على الفور تحقيقا لهذه الغايات، ويطالب بالتنفيذ الكامل للقرارات 2139 (2014) و2165 (2014) و2191

 (2014) وأي قرارات منطبقة أخرى))، كذلك الحال في الهيئة العليا للمفاوضات، حيث لم تكن قضية المعتقلين بنداً مدرجاً على جدول أعمالهم، خاصة بعد أن حولها المبعوث الأممي “ستيفان ديمستورا” إلى هيئة السلال الأربعة، والتي لم تنجز سلة واحدة إلى يومنا هذا، مع العلم أنَّ قضية المعتقلين ليست قضيةً تفاوضية، ولا يمتلك أيُّ أحد الحق ولا التفويض بالتفاوض عنها، ثم من سيمنع النظام تالياً إن هو أطلق آلاف المعتقلين تفاوضياً، من اعتقال مئات الآلاف مرةً أخرى بذريعة الحرب على الإرهاب وأشياء أخرى لا حصر لها.

ليس هذا تقصيراً أو غفلة، إنما هو ادراك صحيح “أن هذا النظام لن يفاوض على ورقة المعتقلين”، ولن يمتثل إلى ضغط أممي لم يتجاوز حدوده الإعلامية، ولن ينفع العمل على ملف المعتقلين أبداً طالما نظام الأسد باقٍ، وهو نظامٌ تشكل منظومة السجون فيه حجر الأساس، في إدارة واستمرار اغتصابه لحقوق السوريين، فالمعتقلات وأقبية التعذيب وحجرات التحقيق، وما يتبعها من محاصرة لأهالي المعتقلين وتضييق على أعمالهم وأرزاقهم، وصولاً الى خنقهم، كل هذا يشكل الأداة الرئيسية لخلق الرعب الأسود، الذي بفعله وحده يحكم الأسد قبضته على الحكم، ولن يكون هناك بديل إلا مزيدا من القتل والتصفيات، علاوة على كل هذا فإن تحريك ورقة المعتقلين أو المختفين قسرياً، سيميط اللثام عن هول العدد الكارثي من المعتقلين الذين تمت تصفيتهم في مسالخ النظام، تلك الجريمة التي تجري إلى الغد على مشهدٍ من العالم أجمع.

الأمر الآخر الذي يجعل نظام الأسد متمسكاً بورقة المعتقلين، أنَّ هذه الورقة تمثل واحدة من أهم الموارد المالية للنظام وأزلامه، فهم يستمرون دون توقف في استنزاف السوريين، جميع السوريين، من خلال الاعتقال المديد، بشبهةٍ أو بتقريرٍ كيدي، أو لمجرد معرفة أن ذوي هذا المعتقل يمكنهم دفع الإتاوات المالية الكبيرة، مقابل معرفة هل المعتقل حي أم ميت، ثم لمعرفة مكان اعتقاله واحتجازه، وهناك ستجري المساومات الكبرى، حول شرائه من خاطفيه الأمنيين، ودفع ثمن حياته المهددة كل ساعة، ولنا أن نتخيل ما سيبذله الأهلون لافتداء أبنائهم من هذا المسلخ البشري، وهكذا تنشأ طبقة واسعة من أزلام النظام ومواليه وسماسرته، يعملون ليل نهار في ترشيح أفراد للاعتقال أو الاختطاف، وحياكة التهم التبريرية ومن ثمَّ البدء بجولة المساومات الطويلة التي تستنزف كامل ما يملكون، وربما تركتهم تحت وطأة ديون كبيرة.

ولمن سيصل صدى هذه الفعاليات والتظاهرات والعرائض الموقعة، ولمن ترفع هذه المطالب، “أحقية تحريك ملف المعتقلين، المطالبة بتفتيش سجون الأسد، إطلاق سراح المعتقلين، توضيح مصير مئات الآلاف من المختفين قسرياً والذين نعلم بالبداهة أنهم أصبحوا تراباً تحت التراب”، هل العالم ينتظر رسالتنا، وهل للعالم إرادة وقدرة بالضرب على يد نظام الأسد، وإيقاف جرائمه ضد الإنسانية؟ كل هذا محض أمنيات، المجتمع الدولي والدول القوية المتنفذة في الملف السوري، لديها مئات آلاف الصفحات والتقارير والوثائق التي لا تقبل الشك، ومعرفة تامة بعشرات آلاف الجرائم والمجازر التي ارتكبها نظام الأسد، والتي تكفي واحدة منها لإدانته ومحاسبته عن جرائم ضد الإنسانية، وهذا في الحدود الدنيا، وما زلنا حديثي عهدٍ بمجزرة الدجيل التي أدين بها صدام حسين وأعدم على إثرها، والتي ارتكب نظام الأسد عشرات مثلها وما يزال بمنأى عن المحاسبة.

كلُّ هذا لا يعني أبداً التوقف عن المطالبة، أو المناصرة والمبادرة، وتكرارها بشكلٍ يومي، لكن دون أن نتوهم أن هذا الطريق سيقدم حلاً وإن جزئياً لقضية المعتقلين، تلك المأساة التي تعتبر الجرح النازف والمؤلم لجميع السوريين. هذه الفعاليات يمكن أن يكون لها فعلاً بلسم ومواساة في نفوس أهالي المعتقلين وذويهم، فهي رسالة تقول إن قضية المعتقلين ما تزال حاضرةً في وجداننا، وإن تضحياتهم ستبقى موضع تقديرنا، وإن حياتنا لن تعود إلى مسارها الصحيح دون العمل على نجاتهم من قبضة هذا المجرم، وهي تأكيد وترسيخ لموقف جموع المطالبين والمناصرين من هذه الحرب الدائرة.

خلاصة القول: إن الدفع بقضية المعتقلين للأمام، مرتبطٌ بشكلٍ عضويٍ بزوال هذا النظام أو استبداله، أو بتدخل قوات دولية تفرض حلولها بقوة السلاح وحسب، وهذا يفضح حقيقة الأعداد المرعبة لضحايا هذه الأجهزة الأمنية، ومقدار ما قتلت منهم، وإن الحديث عن أي حلٍ عدا ذلك ما هو إلا ضرب من ضروب التوهم والأحلام، وإن استمرار مواجهتنا لهذا النظام المؤسس على الجريمة، والعمل على تغييره بكل السبل المتاحة، هو التفسير العملي الوحيد لصرختنا “لا تخذلوهم”.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى