يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة إنتاج السياسة والعسكريتاريا ضمن أوكرانيا مرة أخرى وفي الدولة المنفلتة من أسوار الاتحاد السوفياتي السابق والمنهار منذ أوائل التسعينيات من القرن الفائت. وهو يقوم بذلك وسط حالة من الانشغال الأميركي والأوروبي في هموم أخرى ومشكلات لا تنتهي اقتصادية وجيوسياسية، وهو يتحرك مسرعًا إلى الدولة الأهم في الخاصرة الغربية للاتحاد الروسي في محاولة جدية لإعادة رسم ملامح اتحاد روسي جديد يقطع كلية مع الشيوعية العالمية الأممية السابقة، لكنه يتقاطع بالضرورة مع منتجات إمبراطورية روسية قابلة للنشوء، ويمكن إنجازها من خلال طموحات (سيد الكرملين) الدكتاتور، وعبر واقع عالمي واضح المعالم، لا يوجد فيه ما يهدد إعادة النشوء هذا، خلا العقوبات الغربية الاقتصادية الخجولة والمتخوفة مما هو أكبر وأعظم.
أمام كل ذلك وحوله أقدم الرئيس الروسي (بوتين) ومن معه على اقتحام حدود بلد يفترض أنه آمن، ومتحفز للدخول في الاتحاد الأوروبي وطامح للولوج ضمن سياقات حلف الناتو الذي تردد كثيرا (هو الآخر) عن قبول الأوكرانيين داخله خشية من تغول البوتينية الجديدية على مصالح غربية وأمنًا عالميًا قد لايحمد عقباه.
ويبقى السؤال لماذا أقدم الرئيس الروسي على التسرع في دخول الجغرافيا الأوكرانية رغم كل المحاذير الممكنة وغير الممكنة؟ وكيف تمكن من بناء قراره هذا ضمن أتون واقع معولم من الممكن أن يؤدي به إلى انهيارات اقتصادية كبرى تتمظهر نتائجها الكارثية على الاقتصاد الروسي في أحوال الروبل الروسي الذي فقد من قيمته ماينوف على 40 بالمئة منذ بدايات الحرب على أوكرانيا وحتى اليوم، وهو معرض لمزيد من الانهيارات تلك.
إن الإقدام البوتيني على الدخول إلى أوكرانيا قد استند إلى عدة أمور ومحددات نذكر منها:
أن بوتين كان يرى بأم عينيه أن واحة من الديمقراطية تحاول الصعود والوجود إلى جانب روسيا، ودولة مهمة وقريبة من الغرب تمسك بناصية العمل الوطني الديمقراطي بما يخالف ويعارض توجهاته المتغولة على كل شيء في الواقع الروسي، والتي تحرج باستمرار (سمعته الشعبية) لدى الروس الذين ما برحوا يتعطشون إلى واقع ديمقراطي ليبرالي حلموا به ومايزالون منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لكنه لم يتحقق مطلقًا مع دولة بوتين المافياوية.
ولعل تصورات بوتين القديمة الجديدة نحو إعادة رسم ملامح قيام الاتحاد الروسي الممتد والكبير والذي يقضم دول الجوار الواحدة تلو الأخرى كبديل للاتحاد السوفياتي السابق، ولكن على أسس جديدة خالية من محددات الدولة العظمى السوفياتية، ووفق معطيات روسية أنموذجها الهيمنة والنهب والفساد والإفساد، هو ما دفعه أيضًا إلى هذا الدخول الخطر نحو دولة أوكرانيا الخارجة من عباءة الروس إلى غير رجعة.
ازدياد إدراك بوتين بهلامية الدور الأميركي مع صعود جو بايدن، المنسحب من غير مكان من العالم، كان آخرها انسحاباته المذلة من أفغانستان، وعجزه مع دول الغرب عمومًا عن إنجاز قوة كبرى تهدد الوجود الروسي الصاعد والتهيؤ نحو إعادة قيام امبراطورية جديدة في شمال غرب آسيا على أسس جديدة.
حاجة الأوروبيين المستمرة إلى الغاز والنفط الروسيين، حيث لابدائل حقيقية وجدية أمام الأوروبيين وهم يستوردون ماينوف عن 40 بالمئة من الغاز المنزلي والذي يشغل المصانع أيضًا من روسيا، وهم الذين تعودوا على الرفاه العام ومن الصعب عليهم أن يقطعوا مع الروس حرصًا على استمرار سيلان الغاز باتجاههم وهو ما كان حتى الآن على الأقل، وهذه مسألة كان يدركها ويتوقعها (بوتين) عندما أخذ قراره الصعب في الإقدام على الدخول إلى أوكرانيا.
التحالف الضمني بين الصين وروسيا اقتصاديًا وسياسيًا والذي قد ينتج محورًا كبيرًا عالميًا فيما لو وصل إلى التكون العسكري الجديد، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يهدد عقر دار البنتاغون، وهو الذي يفسح المجال (فيما لو نحجت تجربة بوتين في أوكرانيا) في الانقضاض الصينيي على (تايوان) ويبدو أن الصين تترقب نتائج الحرب الأوكرانية لتفعل ما تريده نحو (تايوان)، ويمارس (بوتين) مع الصين تحالفًا خفيًا يجري تمتينه باستمرار بين الفينة والأخرى، وكلما دعت الضرورة إلى ذلك.
كما وجد الرئيس الروسي (بوتين) أن الخسارة الاقتصادية التي يمكن أن تنتج عن حربه في أوكرانيا (ومهما كانت كبيرة) لاتعادلها ولا تجاري أرباح روسيا من سيطرتها على أوكرانيا وإعادة رسم السياسة الجديدة في هذه الدولة الكبيرة والغنية بالموارد والتي ستنعكس من خلال هيمنة الروس عليها إيجابًا كبيرًا على الاقتصاد الروسي، عبر إنتاج حكومة (فيشي) المرتقبة فيها، ضمن مفاعيل الحرب وصمت الغرب عن الفعل الجدي ضد روسيا ولجمها عن ذالك. حيث إن أي خسارة في الاقتصاد الروسي نتيجة الحرب يتفوق عليها ما يمكن أن تجنيه روسيا من سيطرتها على أوكرانيا.
لكن ورغم كل ذلك أليس من المنطق الحديث عن أن الأميركان قد تركوا بوتين يغرق في الوحل الأوكراني ضمن سياسة غربية كانت قد اتبعت معه يوم قرر الدخول إلى سوريا أواخر أيلول/ سبتمبر عام 2015، وقد غرق ومازال، ومن الممكن أو الأكثر وضوحًا أن غرقه في الوحل الأوكراني سيكون الأكثر طميًا خانقًا وقد يؤدي إلى مزيد من العزلة الروسية العالمية، ومزيد من الدوران حول الذات ضمن حالة روسية لم تعد في وضع يشبه الاتحاد السوفياتي، حيث لم تعد روسيا دولة عظمى، بل هي دولة نووية كبيرة ليس إلا.
وهل سيتمكن (بوتين) بالفعل وفي سياق الواقع الإقليمي والعالمي أن ينصب حكومة (فيشي) جديدة في كييف؟ وهل بمقدوره فعل ذلك أمام أنظار العالم؟
وهل سينفع بوتين كثيرًا الحال الذي ستؤول إليه أوضاع أوكرانيا، التي استفز فيها شعبيًا حالة الشعور القومي الأوكراني والتي قد لاتترك لبوتين أي مجال لأي قبول شعبي بإقامة حكومة عميلة له أشبه بحكومة (فيشي) إبان الحرب العالمية الثانية في فرنسا، والتي سقطت وراحت إلى مزابل التاريخ، كما حكومة (كرزاي) في أفغانستان التي نصبها الأميركان يومًا ما.
وإذا كان حلم الأوكرانيين كان ومايزال مجتمع الوفرة الأوروبي والغربي، فإن العسف الروسي والمقتلة الروسية التي هدمت وقوضت أركان الدولة الأوكرانية الوليدة سوف تبقى حلمًا حقيقيًا للأوكرانيين جميعًا، ولن يتخلوا عن أحلامهم التي يحطمها الطاغية (بوتين) أمام مرأى العالم أجمع. وضمن احتجاجات شعبية أوروبية وغربية تتصاعد اضطرادًا وقد تؤثر كثيرًا على الحكومات الغربية الأوروبية لتدفعهم إلى مزيد من الفعل، والعقوبات والدعم للشعب الأوكراني وحكومته الشرعية، ليس آخرها تفعيل عقوبة (سويفت البنكية) التي لو حصلت يمكن أن تلجم الكثير من طموحات وأطماع (بوتين) الإمبراطورية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا