عَمق قرار المحكمة الاتحادية بعدم دستورية إدارة إقليم كردستان لملفه النفطي من حالة الانقسام في “البيت الكردي”، مخترقاً قاعدة ثابتة التزمتها القوى الكردية، على الرغم من خلافاتها الداخلية، وهي “المصالح الوطنية العليا لكردستان غير القابلة للمساومة”، وسط مواقف شعبية وسياسية كردية مؤيدة للقرار، جاءت “كرد فعل على سوء إدارة الملف”.
وكانت المحكمة الاتحادية أصدرت الأسبوع الماضي قراراً ينص على “إلزام حكومة الإقليم تسليم إنتاج النفط من حقول الإقليم إلى الحكومة الاتحادية”، مشيرة إلى أن “قانون النفط والغاز” الذي شرعه برلمان كردستان عام 2007 لإنتاج النفط وتصديره، “يخالف بنود الدستور”، ويلزم القرار الحكومة الكردية السماح لوزارة النفط وديوان الرقابة المالية الاتحاديين “بمراجعة العقود التي أبرمها الإقليم”.
وهذه الحالة من الانقسام على المستويين السياسي والشعبي، تظهر للمرة الأولى منذ مشاركة الأكراد في أول انتخابات تشريعية اتحادية عام 2005، على وقع تفاقم الأزمة الاقتصادية العاصفة بالإقليم إثر الهبوط الحاد في أسعار النفط العالمية عام 2014، تزامناً مع سيطرة تنظيم “داعش” على مساحات واسعة من البلاد، ووصوله إلى مشارف بعض المدن الكردية الرئيسة.
“دستورية القرار”
الحكومة الكردية اعتبرت القرار بأنه “غير منصف وغير دستوري”، وأكدت أنها “ستتبع الإجراءات الدستورية والقانونية لحماية العقود المبرمة، ولن تتخلى عن حقوق الإقليم المنصوص عليها دستورياً، وسنبذل الجهود مع الحكومة الاتحادية للتوصل إلى حل جذري”، كما صدر موقف مماثل من الحزبين الرئيسين الحاكمين في الإقليم، “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني ونظيره “الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني.
وفقاً لأستاذ القانون في جامعة السليمانية إسماعيل نامق، فإن “الإقليم يستند في قانونية عقوده إلى المادة 112 من الدستور فقط، من دون اعتبارات للمواد الأخرى المرتبطة بها، التي تبدأ من المادة 110 وتنتهي بالمادة 115، والتي تحدد صلاحيات حكومتي الإقليم وبغداد، بينها صلاحيات حصرية وأخرى مشتركة، وهنا نجد الإشكالية والخلاف، وكل طرف يستند إلى الفقرات التي في صالحه. لكن المحكمة الاتحادية لم تفسر قرارها وفقاً للمادة 12، بل وفق مجموع المواد الواردة”، ويرى نامق أن “القرار من وجهة نظر قانونية هو دستوري، ومن وجهة نظر قومية أو سياسية فإنني قد أختلف. لكن في الواقع لا يوجد في الأنظمة الديمقراطية على مستوى العالم قوانين تمنح الصلاحيات للأقاليم بإبرام عقود نفطية”.
ويرى نامق أن الحل أمام الأكراد “يكمن في إما أن يرهنوا مشاركتهم في الحكومة الاتحادية بإصدار قانون النفط والغاز الاتحادي، بدلاً من الصراع على المناصب، أو الذهاب إلى تعديل الدستور، وهذا الخيار صعب التحقيق بسبب التعقيدات والعراقيل التي ستعترضه”.
دوافع سياسية
وشدد مسؤولون في الحزبين على أن دوافع القرار “سياسية”، ليواكب الانقسام بين القوى العراقية في مساعي تشكيل الحكومة الاتحادية الجديدة، وأن “توقيت القرار يثير تساؤلات” بعد مرور سنوات على شكوتين تعودان إلى عامي 2012 و2019.
وعزا النائب البارز في برلمان الإقليم علي حمه صالح، توقيت صدور القرار إلى “دخول الكرد كطرف في الخلافات داخل البيت الشيعي (في إشارة إلى تحالف حزب بارزاني مع التيار الصدري الشيعي)، إضافة إلى خطوة الإقليم الأخيرة لتصدير الغاز عبر تركيا، وهذا لن تقبله لا بغداد ولا طهران”.
وكان رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني زار تركيا مطلع الشهر الحالي في زيارة غير معلنة، التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أعلن أنه بحث مع نيجرفان “إمكانية استيراد الغاز من الإقليم”.
وصرح الناطق باسم الحكومة جوتيار عادل لاحقاً مطَمئناً شركات النفط على “التزام حكومة الإقليم الاتفاقات والعقود المبرمة، باعتبارها قانونية ودستورية، وأن المباحثات مع بغداد بهذا الصدد ستتواصل”، مشيراً إلى أن “قرار المحكمة جاء ليضع العقبات أمام الحكومة الاتحادية، ذلك أن وفداً من الرقابة المالية جاء إلى الإقليم لإجراء عمليات تدقيق، تمهيداً لتسليمنا 250 ألف برميل يوماً، مع نصف الواردات الأخرى إلى بغداد”.
عقبات قانونية
المحلل السياسي ياسين طه أكد أن “القرار ستكون له تداعيات عدة، وقد وضع رئيس الحكومة الاتحادية مصطفى الكاظمي في موقف محرج، ولن يستطيع تطبيق القرار سريعاً، ويحتاج إلى وقت وقرارات وقوانين وأموال في ما يتعلق بالشركات الأجنبية التي تعمل وفق عقود مبرمة واقعياً مع الإقليم”، ولفت إلى أنه “على المدى المتوسط سيكون القرار عقبة أمام قانون الموازنة، وعلى المدى البعيد سيكون سيفاً مسلطاً على العقود المبرمة بين الشركات والإقليم، وأن عملية بيع النفط بشكل مستقل ستواجه عديداً من العقبات القانونية، كما ستنعكس سلباً على أهم مرتكزات كيان الإقليم ألا وهو الاقتصاد، في ظل تأييد قسم من الشارع الكردي للقرار نتيجة اليأس من عدم إصلاح الملف النفطي”.
ولم يستبعد طه أن تصل الأمور إلى “استخدام الجيش في حال فشل المفاوضات، كما حصل عام 2017 عندما اجتاح الجيش الاتحادي مناطق موضع نزاع عقب خوض الكرد استفتاءً للانفصال”. وزاد “في أفضل الأحوال فإن الحل الأمثل هو إصدار قانون النفط والغاز الاتحادي، ما يسهم في التخفيف من الأصوات المعترضة، ومن عمليات التهريب والتوقف عن بيع النفط بأسعار متدنية، عدى ذلك فلا ضمانة في أن تواصل بغداد دفع مرتبات مئات آلاف مواطني الإقليم الذين تم تعيينهم بأعداد هائلة”.
ورقة سياسية
وتصدرت تداعيات قرار المحكمة الاتحادية حوارات ملتقى مركز “ناليا للسياسات العامة” المنعقد في السليمانية، إذ أكد النائب عن حزب “الاتحاد الإسلامي الكردستاني” في البرلمان الاتحادي مثنى أمين، أنه “ليس من السهولة تقييم دستورية القرار من عدمه، لكنه في الواقع صادر عن جهة دستورية وهي المحكمة الاتحادية، التي هي المرجع الوحيد لتفسير الدستور الذي شارك في كتابه والتصويت عليه الكرد أيضاً، ولم يمنحهم صلاحية مطلقة للتعامل بشكل مستقل مع هذا الملف، بل مشاركة حكومتي المركز والإقليم في إدارة عمليات الاستخراج والتصدير والإيرادات”، مشيراً إلى أن “المشكلة تكمن أيضاً في أن إدارة هذا الملف لم تكن في صالح شعب الإقليم، ونجده اليوم غير مستعد للدفاع عن حكومته، وهناك من يتمنى أن يسحب من سيطرة الشركات الحزبية والشخصية، لذا فإن الملف شائك ومتداخل، ويحتاج إلى قوانين وتشريعات لإعادة تنظيمه”.
وتشير تقديرات إلى أن الإقليم ينتج أكثر من 600 ألف برميل يومياً، ويرى نواب وسياسيون أكراد أن النسبة الأكبر من الإيرادات تذهب للشركات الأجنبية والمحلية العاملة في القطاع، فضلاً عن كلفة نقل النفط عبر الأنابيب إلى مرفأ جيهان التركي.
وفي المقابل، أكد النائب السابق عن الحزب “الديمقراطي” دانا جزا، أن حزبه “مع تحقيق الشفافية في قطاع النفط، وأن يكون البرلمان والمعارضة على دراية بتفاصيله، وعلى الجميع أن لا يتنصلوا من المسؤولية، والمؤكد أن الحزبين الديمقراطي والاتحاد شريكان سواء في السلبيات أو الإيجابيات”. وأوضح “معلوم أن القرار غير قابل للطعن، لكنه ليس نهائياً، وبالإمكان أن يخضع لقراءة مغايرة، فهو ليس مسألة سياسية ودستورية فقط، بل يرتبط أيضاً بسيطرة السلطة في العراق”، وشدد على أن “النفط والغاز ليسا مجرد مصدرين ماليين، بل يستخدمان كورقة سياسية لتحقيق القوة والاستمرار. لذا فإن أي دولة مجاورة أو حتى بغداد، ليست ممتنة لوجود إقليم كردستان”، وتساءل “لماذا لم تتدخل المحكمة عندما قطعت حكومة بغداد رواتب موظفي الإقليم؟”.
فجوة اقتصادية
النائب عن “جماعة العدل” الإسلامية عمر كولبي يرى أن “الفجوة بين السلطة والشعب في الإقليم إلى اتساع، إذ إن مجموعة صغيرة تتنعم بحياة ملكية، بينما الشعب يسأل عما تقدمه له الحكومة، وماذا تقدم لأبناء المسؤولين في السلطة؟”، وأضاف “لنسأل إلى أين أوصلنا نفط الإقليم لكي نسعى اليوم أيضاً إلى تصدير الغاز؟ منذ 14 عاماً لا يُنفذ قانون النفط والغاز في الإقليم، سواء كان سعر برميل النفط 30 أو 80 دولاراً، فإن وزارة الثروات الطبيعية تسلم وزارة المالية سقفاً محدداً من الواردات، وترفض في الوقت نفسه أي نوع من الرقابة والتدقيق، وكذا الحال بالنسبة إلى واردات المعابر الحدودية، لذا بالإمكان أن يكون القرار فرصة لتحقيق التنمية”.
ومن اللافت أن النائبة السابقة عضو قيادة “الاتحاد الوطني” بليسه جبار فرمان، التي يتقاسم حزبها مع “الديمقراطي” إدارة الإقليم منذ عام 1991، أشارت إلى دستورية القرار، وذكرت أنه “يتطابق مع بنود الدستور التي تنص على أن الثروات الطبيعية ملك لكل العراقيين، وأن استخراج النفط من صلاحية الحكومة الاتحادية، ومن اليوم علينا أن نعرف كيف سنتعامل مع القرار، والوقت ما زال متاحاً لنعرف ماذا تريد بغداد، والخشية تكمن في صدور قرارات أخرى ضد الإقليم”، عازية دوافع اتخاذ القرار إلى “زيارة وفد من الإقليم إلى إحدى دول الجوار من أجل الاتفاق على تصدير الغاز أيضاً (في إشارة إلى لقاء نيجرفان مع أردوغان). وكان متوقعاً أن يأتي يوم لتقول لنا بغداد كفى بيع الثروات بهذه الطريقة، لأن العقود المبرمة غير شفافة. لنتذكر عندما أعلن وزير الثروات الطبيعية في الإقليم أنه مهما ارتفع سعر النفط فلن يكون بمقدورنا دفع مرتبات الموظفين، وهذا يدل على أن هناك إشكالية في العقود النفطية”.
سيناريوهات متباينة
واختلف المحللون حول السيناريوهات المتوقعة في إمكان تطبيق القرار من عدمه، إذ يحظى الإقليم بحكم شبه مستقل عن بغداد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع احتمال إخضاع القرار للمساومات السياسية، أو أن يبقى معلقاً كسائر بعض القوانين والمواد الدستورية. ودعا رئيس الدائرة القانونية في الحزب “الديمقراطي” بختيار حيدر في وقت سابق إلى “عدم الإصغاء لقرار المحكمة”، وحذر من أن تنفيذه “قد يمهد لإلغاء قانون الفدرالية والأقاليم”.
على صعيد الرأي العام، كتب الصحافي الكاتب الكردي توانا عثمان عبر صفحته في “فيسبوك” التي يتابعها 123 ألف مشترك، منتقداً مؤيدي القرار، قائلاً إن “الذين يحنّون إلى زمن حكم نظام حزب البعث السابق، بذريعة نقد تجربة الحكم في الإقليم، هم صنفان، الأول هو الجيل الجديد الذي لم يعش التجربة مع البعث ولا يريد أن يقرأ التاريخ، ولم تعمل المؤسسات الحكومية على وضع برامج توعوية بشأن المآسي التي ارتكبت”، وتابع أن “النوع الثاني هو المصاب بمتلازمة ستوكهولم، التي تتعاطف فيها الضحية مع الجلاد”، داعياً “إلى الفصل بين النقد الجدي لتجربة الإقليم والتعاطف مع ذلك النظام، واحترام الضحايا والدماء التي سالت”.
وفي الردود على عثمان، أكد محمد نوروز أن “الحكم الذاتي الكردي مهما كان سيئاً فهو أفضل من أن يحكمنا الغريب”، فيما رد عليه كاروان كردي متسائلاً “ما الفرق بين الظالم الكردي وظالم آخر، نحن تحت حكم حكومة الحزبين الكرديين منذ 30 عاماً، ما الإنجاز الذي تحقق لغاية الآن يصب في صالح المواطن البسيط، سوى أن هناك طبقة حاكمة تتمتع بهذه الخيرات؟”.
مخاطر على الكيان
القيادي البارز في حزب “الاتحاد الوطني” ملا بختيار حذر في مداخلة ضمن منتدى “ناليا”، من أن “كيان الإقليم ومصيره باتا معرضين للخطر من قبل بغداد التي تحاول تحجيمه، وعلينا أن نتحرك قبل أن يفوت الأوان”، وحمّل المسؤولين في الإقليم “تداعيات التقصير في عدم حسم الخلافات المعلقة من خلال إجراء مفاوضات عقيمة”، وأقر بأن “قسماً من الشعب الكردي رحب بالقرار، نتيجة سوء الخدمات والمعيشة”.
في المقابل، اعتبر زعيم حركة “الجيل الجديد” المعارضة أن “قرار المحكمة الاتحادية لا يعني نهاية ملف النفط في الإقليم، وإذا لم يجد الحزبان الحاكمان في الإقليم حلولاً، فإن الأمر سيصبح بلاء عليهم وعلى الشعب الكردي”. وقال “عندما تذهب الإيرادات إلى بعض الأشخاص لا يمكننا الدفاع عنهم”، لافتاً إلى “وجود خيار وحيد أمام الإقليم وهو الاتفاق مع بغداد”. وأضاف “ما المشكلة في إخضاع إنتاج النفط لرقابة بغداد طالما أن الآبار تقع ضمن حدود الإقليم؟”.
المصدر: اندبندنت عربية