قبل عشر سنوات، عندما كانت المظاهرات السلميّة في أوجها، برز اسم حي الخالدية في مدينة حمص كمنارة يَقتبس منها المتظاهرون في سوريا طريقهم ويرددون أهازيجها، وتحديداً في جمعة سمّيت “عذراً حماة سامحينا”، تزامناً مع ذكرى المجزرة التي ارتكبها حافظ الأسد، عام 1982.
كان حي الخالدية هذا على موعد مع مجزرة مروّعة في سبيل إسكات الأصوات الصادحة بالحرّية، ففي مساء الثالث من شهر شباط 2012، ارتكب نظام الأسد أول مجزرة بحقّ أهالي الحي، حين استهدف المنازل السكنية والمسعفين بقذائف هاون، موقعاً ما لا يقل عن 50 قتيلاً وعشرات الجرحى.
جاءت مجزرة حي الخالدية بعد عجز نظام الأسد عن إسكات المتظاهرين الذين كانوا يُنشدون للحرّية بشكل شبه يومي في ساحات الحي، فأراد “النظام” ترهيبهم، لكن الردّ كان في اليوم التالي بمشاركة معظم أبناء حمص بتشييع ضحايا المجزرة عبر موكب مهيب بقيادة عبد الباسط الساروت، الذي قضى خلال معارك ريف حماة الشمالي، منتصف العام 2019.
أحد الذين غطوا مجزرة الخالدية، الصحفي شاكر المصري ويقول لـ موقع تلفزيون سوريا: إنَّ القصف بقذائف هاون من قبل فرع المخابرات الجوية ومواقع “النظام” في أحياء حمص، بدأ عند الساعة العاشرة ليلاً واستمر قرابة الساعتين إلى ثلاث ساعات، وكان القصف مُكثّفاً في البداية ثم أصبح متقطعاً، مشيراً إلى أنَّ القصف سبقه اشتباكات بين المقاتلين وعناصر بعض حواجز النظام المحيطة بالحي، بسبب انشقاق عدد من عناصر حاجز “دوار القاهرة” في حي البياضة القريب من الخالدية.
ويضيف: أنَّ أحرار الحي جدّدوا التظاهر في، مساء يوم الجمعة (3 من شباط 2012)، فردّ النظام بالقصف، وكانت أول قذيفة هاون سقطت قرب الحديقة المعروفة بـ”حديقة العلو” (الساحة المخصصة للمظاهرات)، وأقام فيها المتظاهرون مجسّماً لساعة حمص التي تعدّ رمز الثورة في المدينة لما شهدته من دموية قبل نحو عام من مجزرة الخالدية، وحينها هدّد رئيس فرع المخابرات الجوية في حمص العميد جودت الأحمد، المتظاهرين بإزالة مجسّم الساعة أو اقتحام الحي.
أمّا عن سبب مقتل 53 شخصاً موثّقين بالاسم إضافة إلى إصابة العشرات، يوضح “المصري” أنَّه تجمُّع الناس بعد سقوط القذيفة الأولى لإنقاذ الجرحى، فالنظام كثّف القصف مستهدفاً المسعفين فارتفعت حصيلة الضحايا، مشيراً إلى أنَّ الكهرباء كانت مقطوعة في الحي، والمساجد تصدح بالتكبير وتطلب من الأهالي النزول إلى الطوابق السفلية في الأبنية، إضافة إلى المطالبة بالتبرع بالدم.
علاج الجرحى
حول كيفية علاج المصابين، يفيد “المصري” بأنَّ الثوار اتخذوا من مستوصف قرب مدرسة يوسف العظمة في شارع عمر الخيام بحي الخالدية، مستشفىً ميدانياً لعلاج المصابين برصاص قمع المظاهرات، وهذا المستوصف امتلأ بالمصابين لدرجة أنَّه لا يوجد مكان للمشي داخله، لذلك تم تحويل الضحايا والمصابين إلى مسجد الإيمان في الحي، الذي تحوّل إلى مستشفى ميداني بشكل عاجل.
يصف “المصري” تلك الليلة بأنَّها كانت “مرعبة بكلّ معنى الكلمة”، فالقصف استمر على وسط الحي وأطرافه لمنع خروج الجرحى أو وصول أحد من خارج الحي إليه لتقديم المساعدة، مشيراً إلى أنَّ أعلام النظام بعد نشر صور المجزرة على قنوات الجزيرة والعربية سارع إلى نفي ذلك، مدّعياً بأنَّ حي الخالدية هادئ ولم يحدث أيّ شيء فيه، لذلك صوّر الضحايا مع رفع هوياتهم الشخصية ليدحض مزاعم النظام.
وأكّد “المصري” في تسجيله المصوّر توثيق هؤلاء الضحايا مع تثبيت الهوية ومنهم: “ماهر الحناوي، جهاد عطفة، حسان قنبازو، رابح قنبازو، سالم قنبازو، محمد بحلاق، فرزات الشرابي، محمد الأسعد، ياسين الياسين، كنان الحلبي، عمر زعرور، محمود حصرية، الطفل أنس النكدلي”.
بدوره، أحد الناجين من المجزرة، كرم أبو ناصر منشد حي الخالدية، يُحدثنا عن إصابته في ذلك اليوم وإصراره على الإنشاد في مظاهرة التشييع قائلاً: “في البداية سمعنا خبر اقتحام جيش النظام للحي فقرّرنا حماية مداخله، تفاجأنا بالقصف، وتوجهنا لإسعاف الجرحى وفي أثناء ذلك استهدفتنا قذيفة وأصبتُ بشظايا، وهنا رأيتُ طفلاً قد تمزّق رأسه من الشظايا، وعند إصابتي، إحدى الناشطات نشرت خبر مقتلي”.
ويضيف أبو ناصر لـ موقع تلفزيون سوريا: “ركضتُ باتجاه الساعة التي كانت في حي الخالدية، ورآني أحد الثوار وأسعفني للمستشفى الميداني، ولم يستطيعوا علاجي فيها بسبب ازدحام المصابين وافتقاره لمعظم المواد الإسعافية، لذلك نُقلت عبر حارات ضيقة غير رئيسية إلى مستشفى الأمل التخصصي في حي جورة الشياح القريب من حي الخالدية، وحينها كنّا خائفين من استهداف المستشفى، لذلك لم أبقَ فيها سوى فترة خياطة الجروح وانتقلت إلى أحد المنازل، إضافة إلى خطورة نقل الجرحى لأحياء أخرى لإنقاذهم بسبب استهداف القناصات للمارة”.
ويردف: في اليوم التالي، قال عبد الباسط الساروت للجموع: “لا ننسى المنشد أبا ناصر سأردد أغنيته الشهيرة (طيب إذا منرجع)، وعند سماعي له طلبت من رفاقي حملي على منصة هتافات الثورة وأنشدتها رغم جروحي، إصراراً مني على المضي بالثورة مهما كانت الآلام كبيرة”.
مظاهرة التشييع
لم يستطع نظام الأسد إسكات أحرار حمص بتلك المجزرة، وأكّدوا إصرارهم في طريق الثورة عبر مظاهرة حاشدة، شارك فيها الآلاف من أبناء حمص وخلالها ألقى “الساروت” قسم الحفاظ على الثورة، وذلك بعد يوم من مظاهرات جمعة “عذراً حماة سامحينا”.
أحد الذين شهدوا المجزرة الناشط أبو علاء الحمصي، يشير إلى تشييع 42 قتيلاً في تلك المظاهرة (3 من شباط 2012) وبعدها ارتفع العدد بعد وفاة عدد من الجرحى الذين كانت حالتهم حرجة، موضحاً لـ موقع تلفزيون سوريا، أنَّ سبب ارتفاع الضحايا يعود إلى تجمُّع الناس في مظاهرة مسائية إضافة إلى عدم معرفة الناس بكيفية التصرّف المناسب، فنزل معظم الأهالي إلى الشوارع ومنهم من قضى أو أصيب وهو يُسعف جريحاً.
ويذكر “أبو علاء” أنَّ النظام تفاجأ بردة فعل ثوّار الحي وضخامة مظاهرة التشييع، فحي الخالدية كان يُمثل قلعة الثورة في مدينة حمص من خلال المظاهرات والنشاطات الثورية بشكل شبه يومي، لا سيّما إقامة اعتصامات أسبوعية عبر جلوس الأحرار في خيم وإنشادهم لأغاني الثورة، فالنظام كان حاقداً على هذا الحي وأراد من خلال المجزرة أن يسكت صوت أبنائه، ويردع بقية الأحياء في حمص وبقية المحافظات الثائرة ضده.
روايات مغلوطة متداولة عن مجزرة الخالدية
حين انتشر خبر مجزرة حي الخالدية، كان هناك أخبار مغلوطة عن عدد الضحايا وتفاصيل المجزرة، وشارك ناشطو حمص من خارج حي الخالدية بتغطية الحدث عبر مداخلات للقنوات المهتمة بأخبار الثورة السورية، ومنهم الناشط ابن حي بابا عمرو، خالد أبو صلاح، والذي أكّد أنَّه سرعان ما أوضح حقيقة عدد الضحايا منذ ذلك الحين.
ويرى الناشط أنَّ الفوضى التي حدثت أثناء وقوع المجزرة كانت بسبب أعداد الجرحى الكبير وخوف ناشطي الخالدية من استمرار القصف، والخطأ الذي وقع طبيعي في ظل تقطيع أوصال المدينة وهجوم بهذا الحجم يقع لأول مرة، إضافة إلى عدم وجود مركزية تستطيع التأكد من الأعداد نظراً لتشتت نقل الجرحى لأكثر من مكان للعلاج، وسبق أن أوضحنا عدد الضحايا بعد المجزرة بيومين.
ويؤكد أبو صلاح لـ موقع تلفزيون سوريا أنَّ تهويل الأخبار ليس من مصلحة إعلام الثورة، لأنَّه يُفقد المصداقية، مضيفاً: “بالنسبة لنا كناشطين استشهاد شخص يماثل استشهاد المئة، لأنَّ دماء الشهداء غالية، ونحن أصحاب قضية عادلة، والنظام ما يزال مستمراً بقتل السوريين”.
يشار إلى أنَّ المعلومات المغلوطة ما تزال متداولة على موقع “ويكيبيديا” وهناك مواقع عديدة – منها سوريّة معارضة – تنشرها في مناسبة ذكرى مجزرة الخالدية سنوياً، ومن أبرز تلك المعلومات هو أنَّ القذيفة الأولى سقطت على منزل لعائلة “وشاح” وقضى منهم ستة أفراد، لكن في الحقيقة القذيفة سقطت بعيدة عن منزل العائلة بمسافة 200 متر ولم يوثق وقوع ضحايا من هذه العائلة، ومن ناشري هذه المعلومات موقع “اللجنة السورية لحقوق الإنسان”، الذي أعاد يوم الثالث من الشهر الجاري نشر المعلومات القديمة.
واليوم بعد مرور عشر سنوات، ما يزال نظام الأسد يُهمّش حي الخالدية ولم يعدْ يعنيه تعبيد الطرقات أو رفع الأنقاض، وما رُفع منها كان بفعل بعض السكّان وعلى حسابهم الشخصي، فالغالبية لم يروا الحي منذ وقت تهجيرهم، عام 2012، أو تهجير الثوّار وعائلاتهم، عام 2014.
تأتي الأهمية التاريخية لـ حي الخالدية من وقوع ضريح ومسجد الصحابي خالد بن الوليد فيه، فضلاً عن قرب الحي من أسواق مدينة حمص القديمة والحديثة، في حين تبقى آثار الدمار في أرجائه شاهدة على بطش “النظام” فيه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا