عندما لا ندفن موتانا

د. أحمد سامر العش

عنوانٌ قد يبدو صادمًا للوهلة الأولى، وهل من جنسٍ بشري لا يدفن موتاه منذ حادثةِ قابيلَ وهابيلَ إلى يومنا هذا، أقول للمستغرب نعم نحن أمةٌ لا ندفن موتانا، لكن قبل أن نثبت صحةَ ما أقول، علينا أن نتعلمَ دروسًا من العالم اللا بشري حتى نستخلصَ الدروسَ والعبر؛ عسى أن توقظَنا من حالة الموت السريري الذي وصفناه في مقالتنا السابقة!

يُعَدُّ عالمُ النملِ من أرقى المجتمعات الحية تنظيمًا على سطح الأرض، فالنملُ يبني ممالكَه على قواعدَ صارمةٍ يلتزم بها الجميعُ في التنظيم والتواصل والمثابرة والجدية والتخطيط، وتنطلقُ كلها من فكرة جوهرية، “إذا ما نجحتِ المجموعة ينجو الأفراد”، وهذا عكسَ التنظيرات التي نعيشُها اليوم كبشر في عالم ما بعد الحداثةِ الذي يركز على النجاح الفردي، وإن هلكتِ المجموعة برمتها!

العجيبُ في مملكة النملِ أنه يدفنُ موتاه في مقبرةٍ بعيدةٍ عن المملكة في ظاهرة حيرت العلماءَ. فقد قام مجموعةٌ من العلماء بإجراء بحوثٍ أدت إلى اكتشاف حقيقة جديدة عن النمل، موضحين أنّه عندما يموت النملُ يفرز رائحةً خاصةً تنبهُ بقيةَ النمل إلى الإسراع بدفنه قبل أن تنجذبَ إليه الحشراتُ الغريبة. النملُ عندما يموت يكون عادةً مستلقيًا على ظهره، ولكنه يبقى على هذه الحال لمدة يومين دون أي تدخلٍ من أي نملةٍ أخرى، ولكن هذا لا يدوم إلّا لمدة يومين فقط، وبعدها يبدأ النملُ بالتجمّع حول هذه النملةِ الميتةِ، ثم يتم حملُها ودفنها في منطقة مخصصة للنمل الميت. ما يحدث هو أنّ النملَ الميتَ يبدأ بعد يومين بإفراز حمضٍ يُدعى حمضُ الأوليك، وعلى الرغم من أنه حمضٌ منعدم الرائحةِ إلّا أنّ النملَ يستطيع أن يشمَه ويميزه، وبمجرد أنّ يشمَّ النملُ هذه الرائحةَ يعرف بأنّ هذه النملةَ ميتةٌ، أي أنه في اليومين السابقين لم يكن ملاحظًا لموت النملة.

عندما قام أحدُ العلماءِ بوضع نقطةٍ من هذه المادةِ على جسم نملةٍ حيةٍ سارع باقي النملِ إليها، ودفنوها حية على الرغم من أنها تتحرّك وتُقاوم. وعند إزالة رائحةِ هذه المادةِ المعروفة بـ “حمض الزيتيك أو الأوليك” فقط استطاعتِ النّملةُ أن تتجنبَ الدفنَ.

قد يموت في اليوم الواحدِ الكثيرُ من النمل، ومن كثرة الاحتكاكِ بالموتى تنتقلُ رائحةُ الموتِ إلى النّملات اللاّتي يقمن بعملية الدفن، فتحرصُ النملةُ بعد دفن غيرِها على لعق نفسِها بلسانها لتُزيلَ كلَّ أثرٍ علِقَ بها من الرائحة؛ لأنّها إن بقيت فستُدفن وهي حية.

الآن هل بنو البشرِ لا يدفنون أمواتَهم؟ بالظاهر تبدو هذه قاعدةً شاذةً تتجاوز الثقافاتِ والأديانَ المختلفةَ، أما بالمعنى العميق فالجواب “نعم” ،نحن لاندفن موتانا في بلادنا، بل نجعلُهم قادةً ومناراتِ توجهِ وتتحكم في مصير الأحياء، وهذا سرُّ عدم خروجنا من المستنقع! في لبنان الذي يعدُّ المستشعرَ الرئيس للحياة السياسية في بلادنا، نجد أنّ من يفشلُ في السياسة وفي إدارة شؤونِ المجتمعاتِ، والسير بها نحو الرقي المدني والأخلاقي، هو بالمعنى الحرفي ميتٌ مستلقٍ على ظهره كما هو حال النملة الميتة، ولكننا نجدُه مايزال هو من يحكمُ و يتحكمُ بالمشهد السياسي منذ سبعينياتِ القرنِ الماضي، والأمرُ كذلك في كافة دولنا العربيةِ والإسلامية ! في الإطار الاقتصادي يتكرر علي -كوني خبيرًا في مجال الاستثمار- أسئلةٌ أكاد أعدُّها من منسيات الأممِ الأخرى منذ أكثرَ من 20 عامًا عن كيفية إنشاءِ محافظَ استثماريةٍ ظاهرُها البناءُ والفائدةُ الجماعيةُ وباطنُها الاستغلالُ والسرقةُ المبطنة أو أنها بمعنى آخرَ يُهدف منها أن يغنى المؤسسُ وأن يغرقَ المساهمون، تصور عزيزي القارئ الأشخاصَ أنفسَهم يحاولون المحاولاتَ نفسَها التي فشلت عشرات المرات، ومع ذلك أولئك من يتصدرون المشهد! في المؤسسات الدينية الشخصياتُ ذاتُها تتصدر المشهد؛ وهم لم ينجحوا ضمن الإمكاناتِ المحدودة في الخروج من عنق زجاجةِ الانحدارِ الأخلاقي والتفكك المجتمعي للعناقيد الاجتماعية، التي هم جزءٌ منها ومايزالوا يستخدمون الطريقةَ نفسَها و الأسلوبَ نفسَهُ، والعجيبُ أننا لانزالُ نجعلُهم

المتصدرين للمشهد، ونُضفي عليهم صفةَ القدسية. في مجال العملِ الإنساني، مئاتُ الألوف من الخيام في العراء وعشراتُ المليارات صُرفت ومايزال الأشخاصُ ذواتُهم يحتفلون ببناء بضعةِ ألوفٍ من الأبنية التي تبدو للناظر يوم افتتاحِها وكأن عمرها 20 عامًا، ويلومون الظروفَ وتخاذلَ المجتمعِ الدوليِّ على هذه المأساةِ الإنسانية. في المعارضات الكرتونيةِ التي اصطنعها عدوُّنا على مقاسه تتكررُ الوجوه نفسُها والأساليبُ نفسُها ومايزال هؤلاء المَيِّتون لا يعيشون بيننا فقط، ولكن يتحكمون في مصير الأحياءِ؛ ليجروهم إلى وضع المستلقي على ظهره؛ لأنها هذه الطريقةُ الوحيدةُ لاستمرارهم.

بعد هذا الشرحِ البسيطِ، ألا تجدُ عزيزي القارئَ أننا لاندفنُ موتانا بل نجعلُهم في سدة القرارِ، ونضعُهم على الكراسي مُتوِّجينهم ملوكًا بمملكة الموتى التي نعيشُها في يومنا هذا.

حتى من يدفنُ الموتى في مجتمعات النملِ ينظفُ نفسَه من رائحة الموتِ لكي لا يدفنَ، أما نحن فنتمسحُ بالموتى لكي نستطيعَ أن نبقى أحياءً في مملكة الموتى!

ألم يحنِ الوقتُ لندفنَ موتانا؛ لكي يعيشَ أطفالُنا في بيئة لا تملأها رائحةُ الموت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى