طوال 500 عام، اتسمت السياسة الخارجية الروسية بطموحات متصاعدة تخطّت قدرات الدولة. بدءاً من عهد القيصر إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، تمكنت روسيا من التوسع بمعدل 50 ميلاً مربعاً في اليوم طيلة مئات السنين، إلى أن غطّت في النهاية سُدس مساحة اليابسة. مع حلول عام 1900، كانت رابع أو خامس أكبر قوة صناعية في العالم وأكبر منتِج زراعي في أوروبا. وفي منحى مقابل، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد فيها 20 في المئة من الناتج المماثل المسجل في المملكة المتحدة و40 في المئة من ذاك المسجّل في ألمانيا. كذلك لم يتعدَ متوسط العمر الافتراضي في الإمبراطورية الروسية عند الولادة، الـ30 سنة فحسب، أي أعلى من متوسط العمر في الهند البريطانية (23 سنة)، لكنه مماثل لمتوسط العمر في الصين إبّان حكم أسرة “تشينغ”، وأقل بكثير من متوسط العمر في المملكة المتحدة (52 سنة) واليابان (51 سنة) وألمانيا (49 سنة). في أوائل القرن العشرين، ظلت نسبة معرفة القراءة والكتابة في روسيا أقل من 33 في المئة، أي أقل من تلك التي كانت في بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر. والجدير بالذكر أنّ جميع تلك المقارنات كانت معروفة جيداً مِنْ قِبَل المؤسسة السياسية الروسية، لأن أعضاءها سافروا إلى أوروبا بشكل متكرر، وقاسوا مستوى بلادهم بالمقارنة مع الدول القائدة في العالم (ويحصل هذا الأمر اليوم أيضاً).
وبالاسترجاع، يسجل التاريخ ثلاث لحظات عابرة من الصعود الروسي الملحوظ، انتصار بطرس الأكبر على تشارلز الثاني عشر وتراجع السويد في أوائل القرن الثامن عشر، ما أدى إلى زرع القوة الروسية في أوروبا وبحر البلطيق؛ وانتصار الإسكندر الأول على نابليون المنهك بشكل كبير في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، الأمر الذي أوصل روسيا إلى باريس لتؤدي دور الحَكَم في شؤون القوى العظمى آنذاك، وانتصار ستالين على المقامر المهووس أدولف هتلر في أربعينيات القرن العشرين، ما جعل روسيا تكسب برلين، مع إمبراطورية تابعة لها في أوروبا الشرقية، ودوراً مركزياً في تشكيل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بغض النظر عن الإنجازات الكبيرة تلك، كانت روسيا دائماً تقريباً قوة عظمى ضعيفة نسبياً. فقد خسرت حرب القرم 1853- 1856، وقد أنهت تلك الهزيمة وهج روسيا في مرحلة ما بعد نابليون وفرضت لاحقاً تحرير الأقنان. كما خسرت الحرب الروسية- اليابانية في 1904-1905، وهي أول هزيمة لدولة أوروبية على يد دولة آسيوية في العصر الحديث. ثم خسرت الحرب العالمية الأولى، الهزيمة التي تسببت في انهيار النظام الإمبراطوري. كذلك، خسرت الحرب الباردة، وهي هزيمة أسهمت في انهيار الدول السوفياتية التي خلفت النظام الإمبراطوري.
طوال تلك الفترة، سيطر التخلف النسبي على البلاد، لا سيما في المجالين العسكري والصناعي. وقد أدى ذلك إلى موجات متكررة من النشاط الحكومي المصَمَّم بغية مساعدة البلاد في التعويض عمّا فاتها، ترافقت مع دورة مألوفة من النمو الصناعي القسري بقيادة الدولة، يليها ركود. في الواقع، افترض معظم المحللين أن هذا النمط قد انتهى إلى الأبد في تسعينيات القرن العشرين، مع التخلي [في روسيا] عن الماركسية اللينينية ووصول انتخابات تنافسية واقتصاد رأسمالي مغامر. لكن الدافع وراء الاستراتيجية الروسية الكبرى لم يتغير. وعلى مدى العقد الماضي، عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى النزعة المتمثلة في الاعتماد على الدولة لإدارة الهوة الفاصلة بين روسيا والغرب الأكثر قوة.
مع تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، خسرت موسكو حوالى مليوني ميل مربع من الأراضي السيادية، أي أكثر مما يعادل الاتحاد الأوروبي بأكمله (1.7 مليون ميل مربع) أو الهند (1.3 مليون). كذلك خسرت روسيا حصتها في ألمانيا التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية، ودولاً تابعة أخرى في أوروبا الشرقية، علماً أنّها أصبحت جميعها الآن داخل التحالف العسكري الغربي، جنباً إلى جنب مع بعض المناطق المتقدمة السابقة في الاتحاد السوفياتي كدول البلطيق. وبطريقة موازية، تتعاون مستعمرات الاتحاد السوفياتي السابقة الأخرى، مثل أذربيجان وجورجيا وأوكرانيا، عن كثب مع الغرب في الأمور الأمنية. وعلى الرغم من الضم القسري لشبه جزيرة القرم، والحرب في شرق أوكرانيا، والاحتلال الفعلي لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اضطرت روسيا إلى الانسحاب من معظم ما أطلقت عليه القيصرة كاثرين العظيمة اسم “روسيا الجديدة”، في السهوب الجنوبية، إضافة إلى القوقاز. كذلك، خرجت روسيا من آسيا الوسطى أيضاً، باستثناء عدد قليل من القواعد العسكرية.
لا تزال روسيا أكبر دولة في العالم، لكنها أصغر بكثير مما كانت عليه، وبالنسبة إلى وضع القوة العظمى هذه الأيام، تُعتبر مساحة أراضي الدولة أقل أهمية من الديناميكية الاقتصادية ورأس المال البشري، وهي مجالات تدهورت فيها روسيا أيضاً. وفي ذلك الإطار، بلغ إجمالي الناتج المحلي الروسي المقوّم بالدولار ذروته في 2013 مسجلاً أكثر من 2 تريليون دولار بقليل وانخفض الآن إلى حوالى 1.2 تريليون دولار بفضل أسعار النفط المتدهورة وأسعار صرف الروبل. من المؤكد أن الانكماش المُقاس عبر القوة الشرائية، كان أقل درامية بكثير. ولكن من ناحية التقويم بالدولار، فإن الاقتصاد الروسي لا يمثل سوى 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويبلغ 1 على 15 من حجم الاقتصاد الأميركي. وعلى نحو مماثل، تعاني روسيا أيضاً من سمعة مريبة بأنّها أكثر الدول المتقدمة فساداً في العالم، وقد وصل نظامها الاقتصادي المعتمد على الريعية واستخراج الموارد، إلى طريق مسدود.
في غضون ذلك، أصبحت البيئة الجيوسياسية أكثر صعوبة بمرور الوقت، مع استمرار تفوق الولايات المتحدة عالمياً وصعود الصين الملحوظ. كذلك يشكلّ انتشار الإسلام السياسي المتطرف مصدر قلق، إذ إن حوالى 15 في المئة من مواطني روسيا البالغ عددهم 142 مليوناً، هم من المسلمين، وبعض المناطق التي تقطنها غالبية مسلمة في البلاد [روسيا]، مليئة بالاضطرابات وانعدام القانون. بالنسبة إلى أعضاء النخب الروسية الذين يفترضون أن مكانة بلادهم وحتى بقاءها، يعتمدان على التنسيق مع الغرب، يجب أن تكون حدود المسار الحالي واضحة.
احتياجات الدب
لطالما كان لدى الروس إحساس دائم بالعيش في بلد العناية الإلهية حاملين مهمة خاصة، وهو موقف غالباً ما يُعزى إلى بيزنطة، وتدّعي روسيا أنه إرث. في الحقيقة، أبدت معظم القوى العظمى مشاعر مماثلة. إذ ادعت كل من الصين والولايات المتحدة وجود استثنائية سماوية، على غرار ما فعلت إنجلترا وفرنسا طوال تاريخهما. في المقابل، تسببت استثنائية ألمانيا واليابان بفشلهما. في الحقيقة، تتمتع روسيا بقدرة على الصمود بشكل ملحوظ. وقد تجلّى ذلك بطرق مختلفة مع مرور الوقت، من خلال روما الثالثة [إشارة إلى كون روسيا حاضنة الأرثوذكسية]، والمملكة السلافية الشاملة [أيام القياصرة]، والمقر العالمي للأممية الشيوعية [حين تزعمت موسكو المعسكر الاشتراكي في مواجهة المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة]. وتجدر الإشارة إلى أنّ نسخة اليوم [من روسيا صاحبة المهمة الاستثنائية] تتضمن الأوروآسيوية، وهي حركة انطلقت بين المهاجرين الروسيين في 1921 ممن تخيلوا روسيا على أنها ليست أوروبية ولا آسيوية بل اندماج فريد من نوعه.
كذلك أسهم الشعور بوجود مهمة خاصة في ندرة التحالفات الرسمية لروسيا وإحجامها عن الانضمام إلى الهيئات الدولية، إلا كعضو استثنائي أو مهيمن. في الواقع، يزوّد ذلك الشعور شعب روسيا وقادتها بالفخر، لكنه أيضاً يغذي الضغينة تجاه الغرب لأنه، بحسب ما يُفترض، لا يُقَدِّرْ تفرّد روسيا وأهميتها. وهكذا تضاف العزلة النفسية إلى التباين المؤسساتي الناتج من التخلف الاقتصادي النسبي. ونتيجة لذلك، تأرجحت الحكومات الروسية بشكل عام بين السعي وراء علاقات أوثق مع الغرب أو النفور في غضب تجاه الإهانات المتصورة، مع عدم تمكّن إحدى النزعتين من السيطرة بشكل دائم. واستكمالاً، ثمة عامل آخر شكّل دور روسيا في العالم وهو الجغرافيا الفريدة لهذه الدولة. إذ لا تملك حدوداً طبيعية، باستثناء المحيط الهادئ والمحيط المتجمد الشمالي (الذي أصبح الآن منطقة متنازع عليها أيضاً). كذلك، عصفت بروسيا طوال تاريخها تطوراتٌ مضطربة في كثير من الأحيان، في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، فشعرت بأنها ضعيفة بشكل دائم وغالباً ما أظهرت نوعاً من العدوانية الدفاعية. مهما كانت الأسباب الأصلية وراء التوسعية الروسية المبكرة، التي جاء كثير منها غير مخطط له، توصّل كثيرون من الطبقة السياسية في البلاد إلى الاعتقاد بمرور الوقت أن لا شيء يمكن أن يضمن عمليات الاستحواذ السابقة سوى مزيد من التوسع. بالتالي، اعتمد الأمن الروسي جزئياً على التحرك نحو الخارج، باسم استباق الهجوم الخارجي.
واليوم أيضاً، يُنظر إلى الدول الأصغر الواقعة على حدود روسيا على أنّها موطئ قدم محتمل للأعداء أكثر من كونها صداقات محتملة. في الواقع، تعزّز هذا الشعور مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وخلافاً لستالين، لا يعترف بوتين بوجود أمة أوكرانية منفصلة عن الأمة الروسية. في المقابل، على غرار ستالين، يعتبر بوتين أن جميع دول الأراضي الحدودية المستقلة اسمياً، بما في ذلك أوكرانيا الآن، أسلحةً في أيدي القوى الغربية العازمة على استخدامها ضد روسيا.
واستطراداً، يتمثّل الدافع الأخير للسياسة الخارجية الروسية في سعي البلاد الدائم إلى إنشاء دولة قوية. ومع سريان تفكير قوامه اعتبار أن العالم خطير وليس فيه سوى قليل من الدفاعات الطبيعية، يتمثّل الضامن الوحيد لأمن روسيا في دولة قوية مستعدة وقادرة على التصرف بقوة من أجل مصالحها الخاصة. كذلك، نُظِر إلى الدولة القوية بوصفها الضامن للنظام المحلي، وتمثّلت النتيجة في نزعة جرى التعبير عنها في خلاصة لا تتخطى سطر واحد، لخّص فيها مؤرخ القرن التاسع عشر فاسيلي كليوتشيفسكي ألفَ عام من التاريخ الروسي، يفيد بأن “الدولة سَمُنَتْ، لكن الناس هُزِلوا.”
ولكن من المفارقات، أن الجهود المبذولة لبناء دولة قوية أدت على الدوام إلى تخريب المؤسسات والحكم الشخصاني. تجدر الإشارة مثلاً إلى أنّ بطرس الأكبر، المؤسس الأصلي للدولة القوية، أضعف المبادرة الفردية، وزاد انعدام الثقة الفطري بين المسؤولين، وقوّى النزعة نحو الزبائنية. كذلك، جلب تحديثه القسري صناعات جديدة لا غنى عنها، لكن مشروعه في إنشاء دولة قوية رَسَّخَ النزوة الشخصية فعلياً. ومع تذكر أنّ فترات حكم أفراد قياصرة آل رومانوف المستبدين المتعاقبين، ثم [رؤساء روسيا البلشفية] لينين، ولا سيما ستالين، قد تميزت بتلك المتلازمة [قوة الحكم الشخصاني وضعف المؤسسات]، واستمرت حتى يومنا هذا. في المقابل، تميل الشخصانية الجامحة إلى جعل عملية صنع القرار بشأن الاستراتيجية الروسية الكبرى غامضة وربما متقلبة، لأنها تنتهي بخلط مصالح الدولة مع الأوضاع السياسية لشخص واحد.
هل يجب أن يكون الماضي تمهيداً؟
يبدو الاستياء المعادي للغرب والوطنية الروسية واضحين بشكل خاص في شخصية بوتين وتجاربه الحياتية، لكنّ أي حكومة روسية مختلفة لا يديرها أفراد سابقون في جهاز الاستخبارات السوفياتية المعروف باسم “كيه جي بي” KGB ستظل تواجه التحدي المتمثل بالضعف مقارنةً مع الغرب من جهة، والرغبة في تكوين دور خاص في العالم، من جهة ثانية. بعبارة أخرى، يُعتبر توجه السياسة الخارجية الذي تنتهجه روسيا، شرطاً بقدر كونه خياراً. ولكن، إذا تمكنت النخب الروسية بطريقة ما من إعطاء معنى جديد لإحساسها بالاستثنائية وتنحية التنافس الذي لا يمكن الفوز به مع الغرب، ستتمكّن من وضع بلادها على مسار أقل تكلفة وأكثر إشراقاً.
ظاهرياً، بدا أن ذلك يحصل فعلاً خلال تسعينيات القرن العشرين [بعد تفكك الاتحاد السوفياتي]، قبل أن يتولى بوتين زمام القيادة. وفي روسيا تبلورت قصة “الطعنة في الظهر” القوية التي تخبر كيف كان الغرب المتغطرس هو الذي رفض محاولات التقرّب الروسية خلال آخر عقدين من الزمن، وليس العكس. لكن مثل تلك النظرة تقلل من أهمية الآليات الداخلية في روسيا. بالتأكيد، استغلت واشنطن ضعف روسيا في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين وما بعده. لكن، ليس من الضروري أنّ دعمها لكل جوانب السياسة الغربية في العقود الأخيرة شكّل السبب في أن تنظر إلى تطور موقف بوتين باعتبار أنه يشكّل أحدث مثل على نمط عميق ومتكرر مدفوع بعوامل داخلية، بأكثر من كونه ناجماً عن رد فعل على التحركات الخارجية. إن ما منع روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي من الانضمام إلى أوروبا بصفتها مجرد دولة أخرى، أو تكوين شراكة غير متكافئة (لا محالة) مع الولايات المتحدة، هو الاعتزاز الراسخ لدى تلك البلاد [روسيا] بكونها دولة كبرى، وشعورها بأنّ لديها مهمة خاصة. وإلى أن تحقق روسيا تطلعاتها بما يتماشى مع قدراتها الفعلية، لا يمكنها أن تصبح دولة “عادية”، بغض النظر عن الارتفاع في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أو غيرها من المؤشرات الكمية.
لنكن واضحين، إذاً. إن روسيا حضارة مميزة ذات عمق هائل. كذلك فإنّها ليست الدولة الملَكية المطلقة السابقة الوحيدة التي واجهت صعوبة في تحقيق الاستقرار السياسي أو التي احتفظت بنزعة الحفاظ على أهمية دور الدولة (فلنفكر في فرنسا مثلاً). في الواقع، روسيا محقة في الاعتقاد بأن تسوية ما بعد “الحرب الباردة” كانت غير متوازنة، بل وحتى غير عادلة. لكن هذا لم يكن بسبب أي إذلال متعمد أو خيانة. بالأحرى، جاء ذلك كنتيجة حتمية لانتصار الغرب الحاسم في المنافسة مع الاتحاد السوفياتي. في تنافس عالمي متعدد الأبعاد، على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي والعسكري، خسر الاتحاد السوفياتي في جميع المجالات. واختار الكرملين بقيادة ميخائيل غورباتشوف أن يرحل بلباقة، بدلاً من سحب العالم إلى الأسفل معه، لكن هذه اللعبة النهائية غير العادية في نواياها الخيّرة، لم تغير طبيعة النتيجة أو أسبابها، وذلك أمر لم تقبله روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي حقاً.
في الواقع، لا يستطيع العالم الخارجي فرض مثل ذلك الاعتراف النفسي، الذي يسمّيه الألمان “تصالح مع الماضي”. ولكن، لا يوجد سبب لعدم إمكانية حدوث ذلك بشكل طبيعي بين الروس أنفسهم. في نهاية المطاف، يمكن للدولة أن تحاول اتباع مسار مثل الذي اعتمدته فرنسا، التي لا تزال تحتفظ بإحساس عالق بالاستثنائية ومع ذلك تصالحت مع فقدانها لإمبراطوريتها الخارجية ومهمتها الخاصة في العالم، وأعادت ضبط فكرتها الوطنية كي تتلاءم مع دورها المختزل، وانضمّت إلى قوى أقل ودول صغيرة في أوروبا على أساس المساواة.
ويبقى السؤال مفتوحاً بشأن قبول روسيا المتحولة في أوروبا، وحتى واندماجها هناك بشكل جيد. في المقابل، إنّ بداية تلك العملية تحتاج إلى قيادة روسية قادرة على إقناع شعبها بقبول هذا التقليص الدائم والموافقة على الشروع في إعادة هيكلة محلية شاقة. إن الآتين من الخارج يجب أن يكونوا متواضعين فيما هم يفكرون في أن ذلك التعديل [التخلي عن فكرة الدولة الكبرى، والاكتفاء بدور الدولة الطبيعية] سيكون مؤلماً، لا سيما من دون هزيمة حربية ساخنة ولا احتلال عسكري.
لقد استغرقت فرنسا والمملكة المتحدة عقوداً للتخلي عن إحساسهما بالتميّز والمسؤولية العالمية، وقد يجادل البعض بأن النخب في البلدين لم تفعل ذلك بعد بشكل كامل. وعلى الرغم من ذلك، إنهما تملكان ناتجاً محلياً إجمالياً مرتفعاً، وجامعات عالية التصنيف، وقوة مالية، ولغات عالمية. في المقابل، ليس لدى روسيا أياً من ذلك. في الحقيقة، تمتلك روسيا حق النقض (الفيتو) الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إضافة إلى واحدة من أكبر ترسانتين نوويتين في العالم، وقدرات في الحرب الإلكترونية ذات المستوى العالمي. ويضاف إلى ذلك، جغرافيتها الفريدة التي تمنحها نوعاً من الامتداد العالمي. وعلى الرغم من ذلك، تشكّل روسيا الدليل الحي على أن القوة الصلبة تبقى هشة من دون الأبعاد الأخرى التي تميّز مكانة القوة العظمى. ولكن، مهما أصرّت روسيا على أن يُعترف بأنها مساوية للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو حتى الصين، فإنها ليست كذلك، ولا تملك إمكانية على المدى القريب أو المتوسط في أن تصبح كذلك.
والآن، فَلْتَسْعَ إلى شيء مختلف تماماً
ما هي البدائل الملموسة لدى روسيا في إعادة الهيكلة والتوجه على الطريقة الأوروبية؟ تجدر الإشارة إلى أنّها تملك تاريخاً طويلاً للغاية في التواجد ضمن المحيط الهادئ، والفشل في أن تصبح قوة آسيوية. ما يمكن أن تطالب به هو الهيمنة في منطقتها. إذ لا يوجد مثيل لجيشها التقليدي بين الدول الأخرى التي خلفت الاتحاد السوفياتي، علماً أنّ تلك الدول الأخيرة أيضاً (باستثناء دول البلطيق) تعتمد اقتصادياً على روسيا بدرجات متفاوتة. في المقابل، إنّ التفوق العسكري الإقليمي والنفوذ الاقتصادي في أوراسيا، لا يمكن أن يكفلا [لروسيا] مكانة القوة العظمى الدائمة. في الواقع، فشل بوتين في إنجاح “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، بل حتى لو انضم جميع الأعضاء المحتملين وعملوا معاً، فإن قدراتهم الاقتصادية المشتركة ستظل صغيرة نسبياً.
واستكمالاً، تعد روسيا سوقاً كبيرة، ويمكن أن يكون ذلك جذّاباً، لكن الدول المجاورة ترى مخاطر ومكاسب في التجارة الثنائية مع تلك الدولة. ومثلاً، إستونيا وجورجيا وأوكرانيا على استعداد عموماً للانخراط في أعمال تجارية مع روسيا، شرط أن تحصل تلك الدول على علاقة وثيقة تربطها مع الغرب. في المقابل، ترى الدول الأخرى الأكثر اعتماداً من الناحية الاقتصادية على روسيا، كبيلاروس وكازاخستان، مخاطرَ في الشراكة مع دولة لا تفتقر إلى نموذج للتنمية المستدامة فحسب بل أيضاً، في أعقاب ضمها لشبه جزيرة القرم، قد تكون لديها مخططات إقليمية لها. في غضون ذلك، أسهمت “شراكة استراتيجية” مع الصين، أُعلِنَ عنها بدعاية صاخبة وفق ما هو متوقع، في إنتاج القليل من التمويل أو الاستثمار الصيني للتعويض عن العقوبات الغربية. وطوال الوقت، دأبت الصين بشكل علني وقوي على بناء “أوراسيا الكبرى” الخاصة بها، من بحر الصين الجنوبي عبر آسيا الداخلية إلى أوروبا، على حساب روسيا وبالتعاون معها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ روسيا القوية اليوم هي في الواقع في حالة تدهور بنيوي، وقد أدت تصرفات بوتين عن غير قصد إلى جعل أوكرانيا أكثر تجانساً عرقياً [إقليم الدونباس الشرقي المتمرد في أوكرانيا تقطنه غالبية ذات جذور روسية]، وأكثر توجهاً نحو الغرب من أي وقت مضى. وبطريقة موازية، تواجه موسكو علاقات متوترة مع كل جيرانها تقريباً وحتى مع أكبر شركائها التجاريين، بما في ذلك تركيا أخيراً. وحتى ألمانيا، أهم نظير لروسيا في السياسة الخارجية وأحد أهم شركائها الاقتصاديين، تحمّلت بما يكفي، وباتت تدعم العقوبات على حساب وضعها المحلي.
صبي يجلس على أرجوحة بالقرب من مبنى سكنه الذي تضرر أثناء القتال بين الجيش الأوكراني والانفصاليين الموالين لروسيا، ويلهو بجانب ناقلة جند مدرعة أوكرانية، بالقرب من “دونيتسك”، شرق أوكرانيا، يونيو (حزيران) 2015.
صبي يجلس على أرجوحة بالقرب من مبنى سكنه الذي تضرر أثناء القتال بين الجيش الأوكراني والانفصاليين الموالين لروسيا، ويلهو بجانب ناقلة جند مدرعة أوكرانية، بالقرب من “دونيتسك”، شرق أوكرانيا، يونيو 2015 (رويترز)
بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ألقى بوتين محاضرة في اجتماع “نادي فالداي السنوي للحوار” في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، وَرَدَ فيها “يبدو أن من يُطلق عليهم اسم “الفائزون” في “الحرب الباردة” مصممون على الحصول على كل شيء وإعادة تشكيل العالم كي يصبح مكاناً يمكن أن يخدم مصالحهم فحسب، بشكل أفضل”. لكن، ما يشكل تهديداً وجودياً بالنسبة إلى روسيا ليس الناتو أو الغرب، بل النظام الروسي نفسه. إذ ساعد بوتين في إنقاذ الدولة الروسية لكنه أعادها إلى مسار الركود وحتى الفشل المحتمل. واستطراداً، أعلن الرئيس وزمرته مراراً وتكراراً عن ضرورة إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والبشرية غير أنّهم في المقابل، يتخاذلون أمام إعادة الهيكلة الداخلية البعيدة المدى اللازمة لتحقيق ذلك، وعوضاً عن ذلك يضخون الموارد في التحديث العسكري. في الحقيقة، إن ما تحتاجه روسيا حقاً كي تصل إلى التنافس بفاعلية وتأمين مكانة مستقرة لها في النظام الدولي، يتمثّل في حكومة شفافة وكفوءة وخاضعة للمساءلة؛ فضلاً عن خدمة مدنية حقيقية؛ وبرلمان صادق، وقضاء محترف ونزيه؛ ووسائل إعلام حرة ومهنية؛ وقمع قوي غير سياسي للفساد.
طريقة تجنّب الإيقاع بالدب
تستمر القيادة الروسية الحالية في جعل البلاد تتحمل أعباء سياسة خارجية عدوانية ومستقلة تتجاوز إمكانيات الدولة فيها، وقد أسفرت عن نتائج إيجابية قليلة. وفي سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أنّ النشوة المؤقتة التي توفرها السياسة الماكرة والقاسية في الحرب الأهلية السورية يجب ألا تحجب خطورة المأزق الاستراتيجي الروسي المتكرر، الذي يجتمع فيه الضعف والعظمة لإنتاج حاكم مستبد يحاول القفز إلى الأمام من خلال تركيز السلطة بين يديه، ما يؤدي إلى تفاقم كبير في المعضلة الاستراتيجية التي من المفترض أن يحلها. ما هي انعكاسات ذلك على السياسة الغربية؟ كيف ينبغي لواشنطن أن تدير العلاقات مع دولة مسلحة نووياً وسيبرانياً يسعى حكامها إلى استعادة هيمنتها المفقودة، حتى لو كانت بصيغة أقل أهمية، وتقويض الوحدة الأوروبية؛ وجعل البلد “مهماً” مهما كان الثمن؟
في ذلك السياق، من المفيد أن ندرك أنه في الواقع لم تكن هناك فترة من العلاقات الجيدة باستمرار بين روسيا والولايات المتحدة. (تكشف الوثائق التي رُفِعَتْ السرية عنها أن تحالف الحرب العالمية الثانية، كان محفوفاً بريبة أعمق وتضارب مصالح، أكبر مما كان معروفاً بشكل عام). ولم يكن ذلك بسبب سوء الفهم أو سوء التواصل أو تجريح المشاعر، بل بسبب القيم الأساسية المتباينة والمصالح المتضاربة، وفق ما يحددها كل بلد. بالنسبة إلى روسيا، القيمة الأسمى هي الدولة؛ أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فهي الحرية الفردية والملكية الخاصة وحقوق الإنسان، وعادة ما يجري وضعها [القيم الأميركية] في مواجهة الدولة الأميركية. لذا يجب إبقاء التوقعات تحت السيطرة. وبنفس المقدار من الأهمية، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تضخّم التهديد الروسي، ولا أن تقلل من أهمية مزاياها المتعددة.
في الواقع، روسيا اليوم ليست قوة ثورية تهدد بإسقاط النظام الدولي. إذ تعمل موسكو ضمن مدرسة علاقات دولية مألوفة بين القوى العظمى، مدرسة تعطي الأولوية لمجالات المناورة أكثر من الأخلاق، وتفترض حتمية الصراع، وتفوّق القوة الصلبة، والاستخفاف بدوافع الآخرين. في أماكن وقضايا معينة، تمتلك روسيا القدرة على إحباط المصالح الأميركية، لكنها لا تقترب حتى من نطاق التهديد الذي يمثله الاتحاد السوفياتي، لذلك ليست هناك حاجة للرد عليها بحرب باردة جديدة.
يتلخص التحدي الحقيقي اليوم في رغبة موسكو بأن يعترف الغرب بمجال النفوذ الروسي في الفضاء السوفياتي السابق (باستثناء دول البلطيق). هذا هو ثمن الوصول إلى التسوية مع بوتين، علماً أنّه أمر لا يعترف به دعاة تلك التسوية بصراحة دائماً. لقد كانت نقطة الخلاف تلك هي التي حالت دون استمرار التعاون بعد 11 سبتمبر (أيلول)، وهي تبقى تنازلاً لا ينبغي للغرب أن يقدمه على الإطلاق. في منحى مقابل، إن الغرب ليس قادراً حقاً على حماية السلامة الإقليمية للدول الموجودة داخل مجال نفوذ موسكو المنشود. ولعبة الخداع لن تنجح. اذاً ما الذي يجب فعله؟
ثمة من يستحضر [المؤرخ والدبلوماسي الأميركي] جورج كينان، ويدعو إلى إحياء سياسة “الاحتواء” [التي اتّبعتها أميركا حيال الاتحاد السوفياتي إبّان الحرب الباردة]، بحجة أن الضغط الخارجي سيُبقي روسيا محاصرة إلى أن يتحرر نظامها الاستبدادي أو ينهار. وبالتأكيد، يظل عدد من رؤى كينان وجيهاً، على غرار تأكيده في “البرقية الطويلة” التي أرسلها من موسكو قبل 70 عاماً وتحدث فيها عن عدم الاستقرار العميق الذي يشكّل الدافع وراء السلوك السوفياتي. والجدير بالذكر أنّ تبني تفكيره الآن سوف يستلزم الإبقاء على العقوبات أو تكثيفها رداً على الانتهاكات الروسية للقانون الدولي، ودعم التحالفات الغربية سياسياً، ورفع مستوى الاستعداد العسكري لحلف الناتو. في المقابل، من الممكن أي يتحوّل الاحتواء الجديد فخاً، ويعيد روسيا إلى مرتبة القوة العظمى المنافسة، وهو الغاية التي تسعى وراءها روسيا، ما أسهم في إحداث المواجهة الحالية.
مرة أخرى، إنّ ثبات العزم الصبور هو المفتاح. ليس من الواضح إلى متى يمكن لروسيا أن تلعب بقوة على الرغم من ضعف أوراقها في مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فتثير خوف جيرانها، وتعزل أهم شركائها التجاريين، وتدمر بيئة الأعمال التجارية الخاصة بها، وتقضي على المواهب. في مرحلة ما، سيتم جسّ النبض من أجل نوع من التقارب، عندما يبدأ التعب من العقوبات في النهاية، ما يخلق إمكانية عقد نوع من الصفقة. على الرغم من ذلك، من المحتمل أيضاً ألا تنتهي المواجهة الحالية في أي وقت قريب، لأن سعي روسيا إلى مجال نفوذ في الفضاء الأوراسي يشكّل مسألة هوية وطنية لا تتأثر بسهولة بحسابات التكلفة والفوائد المادية.
إذاً، تتمثل الحيلة في التمسك بخط حازم عند الضرورة، على غرار رفض الاعتراف بمجال روسي متميز حتى حينما تكون موسكو قادرة على تفعيله عسكرياً، مع عرض المفاوضات من موقع القوة فحسب، وتجنب الوقوع في مواجهات غير ضرورية وذات نتائج عكسية في معظم القضايا الأخرى. في يوم من الأيام، قد يتقبّل قادة روسيا الحدود الواضحة في مسألة الوقوف بمواجهة الغرب والسعي إلى الهيمنة على أوراسيا. حتى ذلك الحين، لن تظل روسيا معركة ضرورية أخرى ينبغي الفوز بها، بل ستصبح مشكلة يجب إدارتها.
ستيفن كوتكين أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في “جامعة برينستون” وزميل في “معهد هوفر” بـ”جامعة ستانفورد”.
فورين آفيرز مايو (ايار)/حزيران (يونيو) 2016
المصدر: اندبندنت عربية