في تشرين الأول/أكتوبر 1973، كنا مجموعة من طلاب جامعة دمشق اليساريين نتدرب على «آر بي جي» في معسكر لحركة فتح في جبال القلمون القريبة الجرداء، تحسّباً من احتمال دخول الإسرائيليين إلى دمشق. وقد سخر مقاتل شاب عيناه تبرقان، منّا ومن اشتغالنا على التحريض والتنظيم السياسي، مربّتاً على أخمص البندقية في حضنه قائلاً:» هذه حزبي، وعقيدتي، وطريقي».
لا أعلم لمَ تذكرت هذا، حين أعلن أمين سر اللجنة المركزية لحركة «فتح» (الفريق المتقاعد) جبريل الرجوب، الأسبوع الماضي، عن «زيارة قريبة» سيجريها الرئيس الفلسطيني محمود عباس لسوريا. وكان الرجوب؛ الذي وصل إلى دمشق في 6/1؛ قد قال في مؤتمر صحافي في دمشق إن «زيارته إلى دمشق والوفد المرافق له، ستشكل انطلاقة حقيقية لصياغة الوضع الفلسطيني، في ظل تصعيد الاحتلال الإسرائيلي غير المسبوق لإنهاء القضية الفلسطينية»، حسب وكالة أنباء النظام «سانا».
بعد أن وصل إلى دمشق في زيارة هي الأولى من نوعها منذ زمن.. من الطبيعي أن يصف الرجوب الزيارة بالانطلاقة الحقيقية، مرشّح بارز لخلافة محمود عباس، بعد عمر طويل. كان ينبغي له فقط، أن يصرّح بذلك على أطلال مخيم اليرموك! لطالما جذبنا وألهب مشاعرنا في شبابنا، ذلك الشعار التاريخي» فتح ديمومة الثورة، والعاصفة شعلة الكفاح المسلح». لقد رأينا عملياً كيف كانت فتح «حركة شعب» وليست مجرّد تنظيم أو تجربة تنظيمية كغيرها؛ كما رأينا أيضاً كيف استطاع الكفاح المسلّح تشكيل الهوية الوطنية للفلسطينيين، بعد «النكبة» بسنوات، خصوصاً بعد «النكسة» وفضيحة الجيوش والأنظمة العربية. كنا من بين الشباب الذين، رغم يساريتهم الفائضة، لم تجذبهم حركة فلسطينية كما فعلت فتح، وكان مكتب إقليمها السوري في مخيم اليرموك محجّتنا الدائمة في الأزمات، لنقدّم مساهماتنا، حين كنّا على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق.
ظهرت فتح باعتبارها تجسيداً لليأس من ولادة حركة عربية تحقّق تحرير فلسطين. وكان جوهرها مفهوم الكفاح المسلح مع مفهوم آخر يظهر ويختفي هو «القرار الوطني المستقل». وبعد الانتصار العربي الأول على أيدي المقاتلين الفلسطينيين في معركة الكرامة 1968، استحقت منظمة التحرير استحواذها على ذلك القرار، رسمياً على الأقل. لقد تراجعت القضية من قضية عربية إلى قضية فلسطينية، لكنّها احتفظت بمركزيّتها لدى العرب ولم تفرّط بها. لم يستطع الكفاح المسلّح الفلسطيني في عزّ نمائه أن يصل إلى حجم أو فاعلية يمكن أن ترقى إلى مستوى «حرب تحرير شعبية». ولم يكن ذلك بسبب العجز وحده، بل لأن التحرير عن طريق عمليات محدودة من الخارج أو بالتسلل، أو حتى بالخلايا الداخلية السرية، لم يكن من مواصفات تلك الحرب، كما ظهرت في فيتنام والصين على وجه المثال. لقد أكّد خليل الوزير المسؤول العسكري الأول في فتح، أن الكفاح المسلّح «عملية مركزية، شاملة متعدّدة الجوانب» وهو الطريق «لإعادة بناء شعبنا وإبراز هويته الوطنية من أجل تحقيق أهدافه في العودة وتحرير الأرض. ونحن نفهمه كعملية متكاملة ذات أبعاد ثلاثة: تنظيم، إنتاج، تحرير»، فكانت التنظيمات الفدائية هي الأحزاب السياسية المفترضة التي تتوزّع «السلطة» بحسب قوتها العسكرية، وهي التي تقوم بتطوير «دولة» أخذت المنظمة تعمل عليها بخدماتها الاجتماعية والصحية والتعليمية والإنتاجية وشبكة مكاتبها العنقودية، بالتوازي مع تطوّر الاعتراف بالمنظمة عربياً، كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين، ومن ثمّ دولياً أيضاَ. من الطبيعي إذن أن تنمو طقوس عبادة الكفاح المسلّح والبندقية، مع طقوس أخرى من التسليم بدور الفرد القائد، وتقمّص الدولة المقبلة في منظمة تأخذ شكل تلك الدولة، دون مضمونها ولا تاريخيتها. كان ذلك تشوّهاً مهماً، لا ينتقص ذلك من دوره في تكريس الهوية والإرادة الوطنيتين للفلسطينيين. حين هلّت الانتفاضة الأولى، السلمية والباهرة، ظهر بوضوح فشل وقصور الكفاح المسلّح عن الوصول إلى «التحرير»، ومال المقاتلون النبلاء إلى التقاعد تدريجياً، ولم يبق من بينهم مستمرّاً إلّا المحترفون أو الطامحون أو العاجزون عن التفكير في بديل. اقتنعت قيادة فتح وقائدها بالمسار السلمي، ليس الرسمي وحسب، بل العملي البراغماتي الذي ذهب حتى النهاية في أوسلو، بتوجيهات القائد الراحل، وإدارة أبو مازن محمود عباس. ومع بديل «العودة» الناشئ إثر تلك الاتفاقات، على أساسات رجراجة لا يعترف بها علم الاجتماع السياسي، ابتدأ مسار التراجع مروراً على ريعية مطلقة، تنتج حتماً زبائنية مطلقة. أصبح الفساد – من ثَمّ – جواً سائداً، وغدت السلطة أكثر فأكثر عزلة وغربة عن حالتها الأولى. تحوّلت بالتالي براغماتية بطاركة اللجنة المركزية الأوائل لفتح براغماتية القائد الواحد، الذي صار ضحية طبيعية لا يمرّ التحقيق ولا العدل على ظروف وفاته أو اغتياله. في حين كان طبيعياً أن يرثه صاحب الفضل في أوسلو ومشروعها على الأرض.
أتاح ذلك للطهرانية الأصولية أن تزدهر وتتفتّح، وللمقاومة الإسلامية أن تتقدّم من طريق العمليات الانتحارية – الاستشهادية إلى براغماتية موازية بطعم أشدّ مرارة، يتحالف مباشرة مع أعداء شعوب المنطقة في طهران، خارج أي منطق ابتدائي.
غدت البراغماتية والفضيحة مطلقتين أيضاً في الضفة الغربية، وسادت الاستهانة بالشعب الفلسطيني نفسه، قبل أي حديث عن الاستهانة بالشعوب العربية. نتكلّم هنا بمناسبة الإعلان عن زيارة أبو مازن العتيدة إلى دمشق، التي أعلن عنها جبريل الرجوب» أبو رامي».
لم تعترض المنظمة والسلطة الفلسطينيتان أبداً على استخدام «القضية المركزية» لقمع الشعوب وإرهاب طموحاتها إلى التقدّم والحرية والديمقراطية، طالما كان ذلك الاستخدام نفسه يحتاج إلى رسوم جمركية لازمة لتغذية «الدولة» التي ليست بدولة، وأيّ نظام جدير بذلك أكثر من النظام السوري، الذي مرت أكثر من عشر سنوات على مجزرته المستمرة بشعبه، بمن فيه من مئات ألوف الفلسطينيين – السوريين، الذين دعموا وشاركوا في ثورة السوريين على نظامهم الاستبدادي، وكذلك دفعوا من أرواحهم وحريتهم وأمانهم وسكنهم، كما دفع السوريون من دون أيّ فرق.
حين اجتمع السوريون في أوائل الخمسينيات على استعادة تأسيس الديمقراطية والحكم الدستوري، مارسوا حقهم الانتخابي في أفضل فترة ديمقراطية في تاريخهم، واختاروا ممثلين لهم مختلفين عن السائد سابقاً، كان من بينهم 60 مستقلاً من 142 نائباً، وحوالي 25 من الأحزاب اليسارية المختلفة، الأمر الذي وضع سوريا في مقدمة نشرات أخبار العالم. وكان مما أصدرته به تلك السلطات بالنيابة عن الشعب السوري القانون رقم 260، بتاريخ 10/7/1956، الذي نصت مادته الأولى على معاملة الفلسطينيين المقيمين في» الجمهورية السورية» بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم، كالسوريين أصلاً، مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية… ذلك الشعب ذاته الذي انتخب أولئك المشرّعين الذين أصدروا القانون، وهو يُذبح ويهجّر وتُدمّر مساكنه، بمن فيه من الفلسطينيين وأهل مخيم اليرموك الذبيح… ذلك الشعب تُوجّه له الطعنات من «القيادة الفلسطينية»، ولا يرفّ لها جفن!
وصف مبعوث الرئيس عباس في مقابلة مع قناة الميادين الربيع العربي بأنه «ربيع حمد بن جاسم»، وأنهم في السلطة الفلسطينية «أول ضحايا» ذلك الربيع، وبذلك أدرج سلطته ورئيسه بكلّ فخر مع زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي… وبشار الأسد. ويتزايد حرج من يصافح هذا الأخير – بالمناسبة – كما أنه لن يستطيع السفر غالباً في المستقبل إلى العالم المتقدّم بعد وقوع جماعته في قبضة «العدالة العالمية» ومحاكمها، والحكم عليهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فالحجر عليهم في السجن مدى الحياة؛ كما حدث في كوبلنز- ألمانيا منذ عدة أيام؛ الأمر الذي يمكن أن يتكرّر ويتصاعد لاحقاً…
المصدر: القدس العربي