لم تكن التظاهرات العاصفة التي اجتاحت مدن كازاخستان الأولى من نوعها؛ فقد سبق لهذه الدولة أن شهدت تظاهرات احتجاجٍ ضد سياسات النظام وفساده؛ لكن خروجها الآن يختلف عن سابقاتها في ضوء انفجار التنافس الدولي بين القوى العظمى، ما حوّلها إلى ساحة رئيسة للتنافس في ضوء موقعها الجغرافي وأهميته لخطط هذه القوى وبرامجها في صراعاتها الجيوسياسية.
جذب موقع كازاخستان الجيوسياسي الهام انتباه القوى العظمى، تقع بين آسيا وأوروبا، جزؤها الشرقي في آسيا والغربي في أوروبا، تشترك في حدودها مع روسيا الاتحادية من جهة الشمال والغرب بطول 7644 كم، ومع الصين من جهة الجنوب الشرقي بطول 1765 كم، تطلّ على بحر قزوين؛ خزّان النفط والغاز والكافيار، بساحل طوله 1176 كم، مساحتها كبيرة، 2.724900 كم مربع، فيها ثروات ضخمة من النفط والغاز والمعادن النادرة؛ بعدد سكان صغير، 18.75 مليون نسمة، ودفعها، القوى العظمى، إلى السعي إلى الحصول على موطئ قدم على أراضيها.
وقد زاد في حدّة التنافس وسخونته أنّ الجمهورية الوليدة التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي، وأعلنت قيام جمهورية كازاخستان عام 1991، فتحت أراضيها وثرواتها الباطنية للاستثمارات الأجنبية. تحتوي كازاخستان على النفط، بنسبة 3% من الاحتياطي العالمي، 30 مليار برميل، وتنتج 1.6 مليون برميل يومياً، والغاز، خمسة تريليونات قدم مكعبة، وعلى معادن مهمة مثل اليورانيوم، إذ تحتوي على 40% من الاحتياطي العالمي، ثاني أكبر احتياطي في العالم، والنحاس، خامس أكبر احتياطي في العالم، والفوسفات، ثاني أكبر احتياطي في العالم، والمنغنيز، ثالث أكبر احتياطي في العالم، والكوبلت والكروم والحديد والذهب كما الماس والفحم.
وقد سعت روسيا الاتحادية، باعتبارها وريثة الاتحاد السوفييتي، إلى المحافظة على علاقتها مع كازاخستان قويةً، والتمسّك بالنفوذ فيها عبر الجالية الروسية الكبيرة، (حوالى 20% من السكان)، من جهة، وعبر الإبقاء على محطة بايكونور لإطلاق الأقمار الصناعية فيها، وعزّزت علاقاتها معها بتشكيل تحالف عسكري إقليمي، “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، معها ومع كلٍّ من أرمينيا وبيلاروسيا، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، كما اشتركت معها في “منظمة شنغهاي للتعاون”.
أما الولايات المتحدة، التي دخلت كازاخستان من باب الاستثمار في النفط والتعدين، فنظرت إليها من زاوية قربها من روسيا وإمكانية استغلال موقعها في تطويق الأخيرة في إطار خطّةٍ لاحتوائها، لذا عزّزت علاقتها بالنظام القائم وغضّت الطرف عن سلطويته وتجاوزاته على الحريات وحقوق الإنسان، ودخلت معه في شراكاتٍ في مجالات استخراج النفط والغاز، حيث تستثمر شركة “شيفرون” الأميركية حقل “تنغيز” الذي ينتج ثلث إنتاج البلاد من النفط، وتشارك شركة إكسون موبيل في استخراج النفط والغاز في غرب كازاخستان، واليورانيوم وبقية المعادن.
ومع الإعلان عن مشروع الحزام والطريق عام 2013، والبدء بمراحل تنفيذية عام 2017، دخلت الصين في علاقات تعاون واستثمار كبيرة وكثيفة مع كازاخستان في البنى التحتية، طرق، جسور، سكك حديد، مطارات، موانئ، ربطت مستقبل اقتصادها بالصين، فموقع كازاخستان واتصال أراضيها بأوروبا قدّم للصين خدمة كبيرة بالوصول إلى أوروبا من دون المرور بأراضي منافستها روسيا، وعقدت معها صفقاتٍ لاستيراد النفط والغاز ومدّت خطوط أنابيب لنقلهما، ومعظم الصادرات النفطية الكازاخية تذهب إلى الصين، تغطي 20% من احتياجاتها، وجزء من الغاز الكازاخي يذهب إلى روسيا لتلبية طلبات زبائنها بعد تراجع كمية الإنتاج لديها.
اعتمد الرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزارباييف سياسة موازنة العلاقات مع هذه القوى المتنافسة على ثروات بلاده وموقعها الجيوسياسي، وعزّز، في الوقت نفسه، علاقات بلاده مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ ورحّب بالتعاون الاقتصادي مع الصين، من أجل التخلص من النفوذ الروسي. كان قد سجن كازاخستانيين دعوا إلى الوحدة مع روسيا؛ ردّت الأخيرة بالمطالبة بإجراء استفتاء حول الاستقلال للروس فيها، في محاولة لتذكير القيادة الكازاخستانية بأنّ لروسيا نفوذاً داخل هذه الأقلية، وهو، السعي للتخلص من النفوذ الروسي، ما سار عليه خلفه الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، ما زاد في حدّة التنافس الذي أخذ أشكالاً وأبعاداً كثيرة في ضوء بدء معركة تشكيل بيئات خارجية من القوى العظمى، عبر إقامة تكتلات سياسية ممتدّة ومتماسكة لكسب حلفاء وصداقاتٍ لتوسيع النفوذ وتحقيق مكاسب جيوسياسية من جهة، ولتطويق الخصوم ومحاصرتهم من جهة ثانية.
وقد زاد التنافس على كازاخستان تعقيداً بتحول الصين إلى المنافس الرئيس للولايات المتحدة، ودخول تركيا لاعباً إضافياً عبر إقامة “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية” والذي تأسس عام 2009، مع كلّ من أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، والمجر وتركمانستان بصفة مراقب، ودخول شركات تركية إلى السوق الكازاخستاني، وحصولها على مشاريع فاقت قيمتها 26 مليار دولار، وشكل دخولها ضربة للمصالح الروسية، إذ غدا التنافس على أرض كازاخستان رباعياً، وزاد حدّة وحرارة بنجاح الصين وروسيا في “تغيير توزيع القوة في العالم” وفق توجيه حول الأمن الوطني أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن، فالتركيز الأميركي على الصين وإعطاء احتوائها أولوية عبر نشر موارد عسكرية ضخمة في المحيطين الهندي والهادي، وتشكيل تكتلات سياسية وأمنية والعمل على عرقلة مشروع الحزام والطريق منح روسيا مساحة للمناورة وفرصة لتحقيق بعض المكاسب والنفوذ بإطلاق حملة جيوستراتيجية طويلة الأمد لاستعادة مناطق نفوذها في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، احتلت كازاخستان مكانة بارزة فيها، ما شكّل إرباكاً جيوسياسياً للولايات المتحدة، بعدما كانت تتحاشى الدخول في أزمة طويلة مع روسيا تشغلها عن ملفها الأساسي: الصين. وترى في النفوذ الروسي في كازاخستان خصماً من النفوذين الصيني والتركي، بوضعها في مواجهة خصمين في آن واحد، وتخصيص موارد كبيرة لمواجهة الجهود الصينية والروسية الهادفة إلى إعادة بناء النظام الدولي على أسس بديلة بمعايير تتسق مع نظاميهما السلطويين. هذا بالإضافة إلى لجم الاندفاعة الجيوسياسية التركية في آسيا الوسطى التي تمدّدت في أكثر من منطقة، وحققت نجاحاتٍ تمنحها فرصة مواجهة ضغوطها الكبيرة لضبط سلوكيها، الداخلي والخارجي. ما اضطرّها لتليين موقفها من دخول القوات الروسية إلى كازاخستان، عله يصعّد التنافس الروسي الصيني على خلفية تعارض المصالح بين الطرفين، وتنافسهما على النفوذ في آسيا الوسطى، ويضعف التعاون والتنسيق بينهما، فدخول روسيا إلى كازاخستان سيمنحها فرصة لإضعاف النفوذ الصيني عبر إبعاد القيادات الكازاخية المؤيدة لبكين. وهذا سيساعدها (أميركا) في سعيها إلى إبعاد روسيا عن الصين، كما سيضعف النفوذ التركي، خصوصاً أنّ روسيا قد استاءت من تفعيل تركيا “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية” تجارياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، ومن حديث الملحق العسكري التركي في كازاخستان، العقيد إحسان صفا، عن ضرورة تشكيل قوات مسلحة جماعية لدول “المجلس”. وقد انعكس هذا الاستياء باتهام وسائل إعلام روسية تركيا بالوقوف وراء التظاهرات في كازاخستان، في حين قال معلقون أتراك إنّ روسيا دبّرت الانقلاب بالتفاهم مع الولايات المتحدة لضرب النفوذين الصيني والتركي، لتصبح كازاخستان منطقة نفوذ روسية. وقد نقل، المحلل السياسي التركي سمير صالحة عن الإعلامية الروسية مرغريت سيمونيان قولها إنّ “موسكو قدّمت لائحة شروط ومطالب لنور سلطان مقابل دعمها العسكري، بينها اعتراف كازاخستان بإلحاق روسيا للقرم وإنشاء قواعد عسكرية روسية في كازاخستان وحكم ذاتي للأقلية الروسية هناك”. وهذا إن تمّ، تكون روسيا قد حصلت على موقع مهم استراتيجياً يفصل بينها وبين الصين وأفغانستان كمصدر للتهديدات الإقليمية.
وقد نجحت روسيا، بتدخلها العسكري في كازاخستان، العضو في “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية”، في توجيه رسالة إلى دول “المجلس” مفادها أنّها الأقدر، وأنّ تحالفها القديم، منظمة معاهدة الأمن الجماعي، هو الأقوى، وهي سيدة المنطقة، وستفعل ما يلزم لإفشال أيّ تحالف يضعف سيطرتها، في إشارة واضحة إلى التنافس التركي – الروسي الذي تعاظم أخيراً في آسيا الوسطى، حيث تسعى تركيا إلى اقتناص أي فرصة من أجل تعزيز حضورها في تلك المنطقة التي تحظى فيها روسيا بنفوذ قوي. وقد عبرت تركيا عن قلقها ومخاوفها من نجاح روسيا في استمالة كازاخستان، خصوصاً بعد تأييد الصين التدخل الروسي، ودعت إلى عقد اجتماع افتراضي لدول “المجلس”. وأمام عجزها عن التحرّك في مواجهة روسيا، بسبب قرب روسيا من كازاخستان وبعدها هي عنها بآلاف الكيلومترات، تبنّت خط الدعوة إلى التهدئة وحلّ الخلافات الداخلية بالحوار.
ستبقى كازاخستان ساحة للتنافس المتصاعد بين القوى العظمى، الروسي – الصيني بشكل خاص؛ امتداداً لصراعهما على النفوذ في آسيا الوسطى، وستبقى ساحة للاستقطاب الحادّ من أجل تكريس النفوذ وتعزيزه في منطقة أوراسيا التي باتت قلقة استراتيجياً بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وما تركه من فراغ يبحث عمّن يملأه.
المصدر: العربي الجديد