تبدو المفارقة ظاهرة فى أحوال العراق اليوم ، فقد أعيد انتخاب محمد الحلبوسى (السنى ) رئيساً للبرلمان، وهو ما يحدث لأول مرة فى عراق ما بعد الاحتلال الأمريكى وما تبعه من هيمنة إيرانية ، وربما يعاد تنصيب برهم صالح (الكردى) رئيسا للجمهورية بذات الصلاحيات البروتوكولية المحدودة ، وقد يكون الأهم الوارد ، أن فرصة مصطفى الكاظمى (الشيعى) باتت كبيرة فى تجديد بقائه على رأس الحكومة .
ظاهر المفارقة ، أن استمرار تسمية القيادات على حالها ، قد يوحى بالركود ، بينما الحقيقة لا ظواهر الأمور ، أن التجديد للقيادات نفسها ، قد يشى ببعض التغيير والإزاحة السياسية ، خصوصا فى علاقات العراق بمحيطه الإقليمى ، أو فى تغير المزاج العام داخل العراق نفسه ، فالعراق يبتعد أكثر عن معنى الهيمنة الإيرانية الغالبة ، ويقترب أكثر من جواره العربى الخليجى والأردنى المصرى بالذات ، وفكرة “البيت الشيعى” السياسى جرت عليها تشققات ودواعى فرز غير مسبوق ، وأحزاب الطابع الدينى تآكلت وتتوارى ، وأولوية المعنى العراقى المستقل إلى إطراد فى حضورها ، خصوصا بعد تراجع الوجود المقنن لقوات وقواعد التحالف الأمريكى ـ الغربى عموما ، وعقد اتفاق تقليص الدور ، وحصره فى وظائف التدريب والاستخبارات والاستشارات العسكرية ، وانفلات أعصاب الأحزاب والميليشيات الأكثر ولاء لإيران ، بعد هزائمها التاريخية فى جولة الانتخابات الأخيرة ، وفشلها فى التفاهم والمساومة مع تيار “مقتدى الصدر” ، الذى يرفع شعار “حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية” ، وهو ما يعنى الرغبة فى تقليص النفوذ الأمريكى والإيرانى معا ، والانقلاب على سيرة حكومات “التوافق” على توزيع حصص الفساد ، ونهب ثروات العراق الغنى ، ومحو شخصيته الوطنية المستقلة .
وفى وجوه المفارقة العراقية المتعددة ، نجح رجل الدين الشاب مقتدى الصدر ، فيما فشل به السياسى “العلمانى” المخضرم “إياد علاوى” قبل أكثر من عشر سنوات ، الإثنان من الشيعة فى القيد الطائفى ، لكن الفوارق الشخصية كثيرة ، فقد كان علاوى بعثيا قياديا ، واختلف وطورد فى ظل حكم أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين ، وعلاوى إبن لأسرة سياسية قديمة منذ زمن الحكم الملكى ، وشغل منصب رئيس الوزراء لشهور أوائل زمن الاحتلال الأمريكى ، وحاول استلهام قبضة صدام القوية فى ممارسته القصيرة للحكم عامى 2004 و 2005 ، وأهله ذلك ليصبح موضع دعم ورهان من دول خليجية غنية مناوئة لإيران ، وكون تحالفا واسعا من السنة والشيعة فى انتخابات 2010 ، وفاز فيها بالمركز الأول ، لكن “نورى المالكى” ، الذى كان وقتها سيد اللحظة ورئيس الوزراء ، قطع الطريق على “علاوى” ، واستعان بأطراف “البيت الشيعى” الموالية بغالبها وقتها وبشدة لإيران ، وفاز بسجال “الكتلة الأكبر” ، وحصل على منصب رئيس الوزراء للمرة الثانية بعد الاحتلال ، لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن “المالكى” ، الذى راكم ثروات مسروقة ، قيل أنها طاولت سقف السبعين مليار دولار ، ولم يكن يتورع هو الآخر عن مواجهة خصومه بالقبضة “الصدامية” ذاتها ، وخاض ما أسماه “صولة الفرسان” لردع التيار الصدرى وعمليات “جيش المهدى” ضد قوات الاحتلال الأمريكى ، إضافة لحروبه الطائفية الاستئصالية ضد جماعات السنة العرب ، وضد حركات المقاومة الوطنية البعثية والإسلامية ، وإلى أن فاجأته كاسحة ظهور جماعة “داعش” ، التى سيطرت فى ساعات معدودات على أغلب المحافظات الغربية والشمالية (السنية) ، وتفننت فى جرائم قطع رءوس ضباط جيش المالكى الميليشياوى الشيعى غالبا ، ومع صدمة “داعش” المزلزلة ، سقط “المالكى” عن عرشه ، وقدم حزب المالكى (الدعوة) وجها آخر هو “حيدر العبادى” ، بدا أقل طائفية ، وأكثر قدرة على حشد الجهد الذاتى فى معركة هزيمة “داعش” ، التى استعان فيها بفتوى “النجف” ، وبالأمريكيين والإيرانيين معا ، لكن النصر الذى نسب إلى “العبادى” ، لم يزد فرصه فى انتخابات 2018 متدنية التصويت ، التى جئ بعدها برئيس الوزراء الباهت الشخصية “عادل المهدى” ، بينما كانت القواعد الشعبية الشيعية تغلى ، ويتعاظم ضيقها بالأحزاب الممعنة فى طائفيتها ، والسارقة بفجور للثروات من تحت العمائم ، والموالية الخاضعة لإيران ، ولأوامر “قاسم سليمانى” قائد “فيلق القدس” بالحرس الثورى ، الذى قتله الأمريكيون فيما بعد بصاروخ ذكى على أبواب مطار بغداد ، ثم كانت قيامة انتفاضة الفرات الأوسط والجنوب الشيعى أواخر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 ، وتوالى جولاتها وتضحياتها ، والتصدى لها بالعنف الدموى الشنيع من جماعات الهوى الإيرانى ، وسقوط 30 ألف قتيل وجريح فى صفوف المنتفضين الشبان ، بينما لجأ التيار الصدرى وشيخه “مقتدى” ، إلى مغازلة (انتفاضة تشرين) ، ومنافستها أحيانا بحشود تخطف الكاميرات ، وأضاف لمكاسبه التى كان حققها قبلها فى انتخابات 2018 ، حين خلع البرة الدينية المباشرة ، وكون مع فئات علمانية ويسارية تحالف “سائرون” ، وفاز بالمركز الأول بنحو 54 مقعدا ، زادها فى الانتخابات الأخيرة عام 2021 إلى 73 مقعدا ، ورفض التحالف مع جماعات “الإطار التنسيقى” المشايع لإيران ، الذى تدنى تمثيله البرلمانى ، وفشل فى الضغط بالشارع لتعديل النتائج ، كما فشل فى مساومة “الصدر” لإعادة تأسيس البيت الشيعى الجامع ، ورفض “الصدر” بحزم إشراك “المالكى” بالذات ، الذى تدنى تمثيل كتلته “دولة القانون” إلى 35 مقعدا لاغير من إجمالى 329 مقعدا بالبرلمان ، فيما تقدمت عليه كتلة “تقدم” السنية بزعامة الحلبوسى ، التى عقدت حلفا مع كتلة “عزم” السنية بقيادة الملياردير الملغز “خميس الحنجر” ، ومد الطرفان مع كتل الأكراد خيوط تشاور فتحالف ضمنى وظاهر مع الكتلة الصدرية ، حققت لمقتدى الصدر هدفه الثأرى بإقصاء “المالكى” ، وعزل حلفائه من جماعات الولاء الإيرانى .
والمحصلة المرئية إلى الآن ، أن فكرة التحالف الشيعى الأكثرى انهارت عملياً ، وأن أولوية التكتل الطائفى ذهبت ريحها ، وأن السياسة العابرة للطوائف زادت حضورا فى العراق ، الذى لا ينص دستوره رسمياً على التوزيع الطائفى للمناصب كما حال لبنان ، بل سرى التقاسم كعرف مرضى منذ احتلال العراق فى إبريل 2003 ، لكن الجديد الملموس هذه المرة ، أنه قد تزيد فرص مراجعة الأعراف السياسية المفتتة لوحدة العراق والعراقيين ، وقد يمكن تخليق سياق يتقبل مراجعة الدستور ، الذى وضعه حاكم الاحتلال الأمريكى “بول بريمر” ، وأقصى عروبة العراق إلى الهامش لا المتون ، فثمة روح عروبية جديدة تتفتح ورودها فى العراق ، وتنفك عنها بعض القيود “الفارسية” الثقيلة مع النجاح الجزئى لانتفاضة “تشرين” ، ودخول عشرات من شبابها الوطنى إلى عضوية البرلمان الجديد ، وخلخلة نفوذ الأحزاب الطائفية والدينية التقليدية ، وبما قد يوفر قوة دفع مضافة لحلم استعادة عراقية العراق وعروبته ، وإعادة بناء حركته الوطنية والثقافية وهويته العروبية ، خصوصا إذا تحقق المتوقع إلى حد ما ، وأعيد انتخاب “مصطفى الكاظمى” “المستقل” رئيسا للوزراء ، وهو الذى جاء إلى منصبه بدفع مباشر من زلزال “تشرين” ، وقد كان قبلها رئيسا لجهاز المخابرات ، ومالت أغلبية البرلمان السابق لاختياره رئيسا للحكومة عقب استقالة “عادل المهدى” مضطرا ، وقد لا يكون “الكاظمى” اختيارا مثاليا صافيا ، وفى تاريخه الشخصى ثقوب وخروق ودواعى ريبة ، لكن “براجماتيته” الظاهرة ونشاطه الملموس ، وانفتاح سياسته على الخليج وعلى مصر بالذات ، قد يعين على كسب متدرج لمعركة التملص من التبعية المفرطة المزمنة للجوار الإيرانى ، وقد يفتح الباب الموارب لتقوية مؤسسات الدولة الهشة فى العراق ، ودفعها لخوض حرب داخلية تنتظرها مع جماعات “داعش” التى عادت لانتعاش ملحوظ ، ومع جماعات مسلحة منساقة عقائديا للتشيع الفارسى ، وتتخفى سياسيا من وراء تحالف “الفتح” بزعامة “هادى العامرى” ، ومن وراء واجهات سياسية لكتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” وغيرها ، تستعد كلها بعد هزائمها الانتخابية المنكرة لشن هجمات دموية مسلحة ، قد لا يتورط ” المالكى” بتراكم حنكته فى تأييدها علنا ، وإن كان يستخدمها من وراء ستار ، ويطمع فى العودة إلى “الواجهة الأمامية” من جديد ، وإن كان يدرك أن زمنه السياسى قد فات ، وأن أحزاب اليمين الدينى والطائفى دالت دولتها ، وفى عموم العالم العربى ، وليس فى العراق وحده ، فقد احتكر حزب “الدعوة الإسلامية” صدارة المشهد غالبا فى حكم العراق بعد الاحتلال ، من “إبراهيم الجعفرى” إلى “حيدر العبادى” ، وكان “المالكى” هو العنوان الأبلغ دلالة ، فهو الأمين العام لا يزال لحزب “الدعوة” ، وهو المعادل الشيعى لجماعة “الإخوان” فى أوساط السنة ، وقد تلاشى تأثير “الإخوان” فى العراق ، وكان آخر نسلهم السياسى ممثلا فى شخص “سليم الجبورى” رئيس البرلمان الأسيق ، ودارت الدائرة على حزب “المالكى” ، الذى بدأ حياته السياسية بامتهان بيع “السبح” بالقرب من مقام السيدة زينب فى دمشق ، وربما لا يتبقى له سوى اختيار العودة إلى مهنته القديمة .
المصدر: القدس العربي