شلل سياسي وإداري في لبنان ولا أفق للحل

دنيز رحمة فخري

المؤسسات تخلو من أوراق الطباعة والكهرباء تنقطع عن معظمها وارتفاع تكلفة المواصلات يحد من حضور الموظفين إلى مكاتبهم.

لم تشهد مؤسسات الدولة اللبنانية وإداراتها العامة في كل تاريخ الحرب اللبنانية واقعاً مريراً كالذي تعيشه اليوم. ولم يُصبها الشلل الذي أصابها منذ بدء الأزمة الاقتصادية، حتى في زمن القصف وانقسام البلد إلى شطرين، شرقية وغربية.

منذ عام 2019 باتت مؤسسات القطاع العام عاطلة عن العمل، أو تعمل بشكل جزئي، ومنها مؤسسات على تماس مباشر بقضايا المواطنين، لا سيما الضمان الصحي والمستشفيات الحكومية ودوائر تسجيل السيارات والدوائر العقارية والشخصية ومصالح المياه وإدارات الكهرباء واللائحة تطول. واختصر الموظفون حضورهم إلى مكاتبهم ليصبح يومين في الأسبوع، والكهرباء في معظم الإدارات غير متوفرة والتقنين في المازوت لا يسمح بتشغيل المولدات، إن وُجدت، وتعاني الإدارات نقصاً في الأوراق والأحبار، ولا إمكانية للطباعة، كما أصاب نقص القراطيس الجمارك في مطار رفيق الحريري الدولي بحيث لم يتمكن من تحصيل الرسوم لفترة طويلة. حتى إخراجات القيد كانت نادرة في الفترة السابقة والطوابع المالية بعد أن انقطعت لفترة وُجدت، ولكن بسعر مضاعف وبالتقنين.

غياب الموظفين

يبلغ عدد الموظفين في القطاع العام 320 ألف موظف، بينهم 120 ألف عسكري من قوى أمن داخلي وجيش وأمن دولة وجمرك، و200 ألف موظف في الإدارات والمؤسسات العامة.

وبحسب الباحث في الشركة الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، “فإن رواتب موظفي القطاع العام تآكلت منذ 2017 نتيجة الأزمة الاقتصادية وارتفاع الدولار الأميركي مقابل تراجع قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 59 في المئة، فبعد أن كان الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة (450 دولاراً أميركياً)، بات اليوم يعادل 22.5 دولار. وباستثناء قرار يتيم برفع بدل النقل من 24 ألفاً إلى 65 ألف ليرة يومياً ومنح كل موظف نصف راتب عن آخر شهرين من عام 2021، أي نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، لم تتخذ الحكومة اللبنانية أي قرار بتصحيح الأجور، وحتى قرار زيادة بدل النقل ونصف الراتب بقي حبراً على ورق ولم يطبق بسبب رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم ينص على الموافقة الاستثنائية لهذا القرار بحجة أن لا حاجة لموافقة استثنائية في ظل وجود حكومة فاعلة ليست حكومة تصريف أعمال.

جدول يقارن بين رواتب اليوم والأمس

ونتيجة لتراجع حجم الليرة اللبنانية وفي ظل غياب المعالجة أو الحل، وجد موظف القطاع العام نفسه عاجزاً عن الوصول حتى إلى مكان عمله بعد أن باتت تكلفة الكلم الواحد 2825 ليرة بعد أن كانت سابقاً 100 ليرة، بحسب دراسة أجرتها الشركة الدولية للمعلومات، احتسبت فيها تكلفة البنزين والتشغيل العادي للسيارة.

ويقارن “شمس الدين”، مستنداً إلى جدول ما وصلت إليه رواتب موظفي القطاع العام، حجم الحال المأساوية التي دفعته إلى تقليص أيام عمله وغيابه عن العمل مقابل عدم قدرة المدير العام أو الوزير على إجباره على الحضور. وفي الجدول الذي حصلت “اندبندنت عربية” على نسخة منه صارت الرواتب والمخصصات كالتالي:

مخصصات وتعويضات رئيس الجمهورية 12.5 مليون ليرة شهرياً (416 دولاراً)، وراتب المدير العام يتراوح بين 4.5 و9.085 مليون ليرة شهرياً (ما بين 150 و300 دولار)، وأفراد الهيئة التعليمية ما بين 950 ألف ليرة و5.245 مليون ليرة (31.6 و175 دولاراً)، وأساتذة الجامعة اللبنانية ما بين 3.7 و8.425 مليون ليرة (123 و281 دولاراً)، والقضاة ما بين 4.5 و9.350 مليون ليرة (150 و311 دولاراً)، والجندي درجة أولى 1.332 مليون ليرة (44.5 دولار)، أما العميد درجة أولى 5.689 مليون ليرة (190 دولاراً).

المعاملة الإدارية باتت تتطلب أشهراً

شلل الإدارات العامة انعكس على معاملات المواطن الملحة، ومنها المرتبط بصحته، كما هي الحال في مؤسسة الضمان الاجتماعي، حيث الكارثة الأكبر. حتى في مراكز المُعاينة الميكانيكية، صار عمل خمسة أيام محصوراً بيومي الأربعاء والخميس فقط، هذا إذا توفرت الكهرباء لإنجاز المعاملات، وصار يستحق التهنئة إذا تمكن المواطنون العالقون في صفوف الانتظار الطويلة من إنجاز معاملته قبل أن ينقطع التيار الكهربائي وتتوقف الأعمال.

وفي قصر العدل ليس الوضع بأفضل حال، وغياب الكهرباء لا يسمح بتشريج الـups ما يفرض تقنياً في ساعات العمل، وإن كان حجم ارتدادات ذلك على المواطن أقل إلحاحاً من إدارات أخرى تعنيه بالمباشر كالضمان والأحوال الشخصية والمُعاينة الميكانيكية. وإلى غياب الكهرباء والتقنين بالمازوت، نظراً لتكلفته والحاجة إلى fresh dollar لشرائه، صارت قضية فقدان القرطاسية في معظم المكاتب، مسألة عادية لا يمكن للمدير العام أن يحلها، لأن الموازنة بالكاد تكفي مصاريف أيام العمل المختصرة.

تداعيات التعطيل القسري على خزينة الدولة

يجمع الاقتصاديون على أن الضرر الفادح لمصالح المواطنين نتيجة الشلل الذي أصاب مختلف إدارات الدولة ومؤسساتها، يقابله ضرر في مصالح الدولة أيضاً التي ستتراجع إيراداتها بشكل أكبر وأسرع، خصوصاً أن هذه المؤسسات لم تكن بكامل إنتاجيتها بالأساس قبل هذه الأزمة. ويؤكد الخبير الاقتصادي سامي نادر، في تصريح خاص، “أن القاطرة الأساسية للاقتصاد اللبناني والمتمثلة بالإدارات العامة ومؤسسات الدولة، التي تشكل البيئة الحاضنة للأعمال والاقتصاد، عندما تعمل كما هي الحال اليوم بنسبة لا تتخطى الـ5 في المئة، سيكون له تداعيات كثيرة أهمها المساهمة في الركود الاقتصادي، لا سيما أن كل الرخص والمعاملات الإدارية الخاصة بالمواطنين يجب أن تمر بالإدارات العامة، بالتالي عندما تتراجع القدرة الإنتاجية لهذه الإدارات، فسيؤثر في كل موارد الدولة بشكل عام”. ويُشبّه هذه المسألة بـ”الطائرة التي تعطلت وفيها أربعة محركات من أصل خمسة فكيف يمكن لها أن تحلق؟”.

ويتوقف الخبير الاقتصادي، عند “القضاء الذي هو أساسي أيضاً بالنسبة للمعاملات الخاصة بالقطاع الاقتصادي، كمعاملات فض النزاعات، فكلما تراجع أثر ذلك في المستثمرين، وأدّى أيضاً إلى تراجع النمو. أما النقطة الثالثة في لائحة تداعيات شلل الإدارات والمؤسسات العامة فهي البنى التحتية، من كهرباء ومياه وإنترنت، فكلما تراجعت هذه القطاعات وتراجعت نسبة خدمتها شكّل ذلك مزيداً من اختناق القطاع الاقتصادي في البلاد”.

وينهي نادر حديثه، مشيراً إلى الأرقام الصادمة التي يعتبرها خير معبر عن حالة البلد وتعطيل مؤسساتها وإداراتها، فالنمو الذي كان قبل الأزمة قد وصل إلى 56 مليار دولار، تراجع إلى ما دون الـ15 مليار دولار، مبشراً بمزيد من الانهيار إذا أكمل الوضع على ما هو عليه اليوم من تعطيل قسري للمؤسسات”.

الشلل الإداري مرجح أن يستمر طويلاً

لا شيء في الأفق يوحي بأن الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعانيها لبنان قد تجد حلاً قريباً، بالتالي وفي ظل غياب الحل الشامل، فإن مشكلة الإدارات والمؤسسات العامة ستستمر لأشهر طويلة، فلا الحكومة قادرة حالياً على زيادة أجور موظفي القطاع العام، كما أن مشروع موازنة 2022 لا يلحظ ذلك، ولا هي قادرة على إجبارهم على الالتزام بدوام عمل عادي، بعد أن باتت تكلفة النقل للموظف الواحد تتخطى المليونين و820 ألف ليرة شهرياً، بحسب ما يؤكد الباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. وفي ظل غياب الدعم المطلوب للنقل العام صار استخدام السيارات العمومية فوق قدرة الموظف. أما مشكلة الكهرباء والمازوت والقرطاسية فباتت مرتبطة أيضاً بمفاوضات صندوق النقد الدولي التي تحتاج إلى أشهر طويلة، بعد أن صارت المساعدات الدولية محصورة فقط على الإنسانية منها، فيما نظيرتها المالية تشترط الدول تنفيذ الإصلاحات وإجراء الانتخابات النيابية قبل إعادة تحريكها.

لقاء مرتقب للحكومة

وقال رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، الأربعاء، إنه سيدعو الحكومة للانعقاد في غضون أيام للمرة الأولى منذ نحو ثلاثة أشهر منهياً فيما يبدو مواجهة شلت عمل الحكومة وسط أزمة مالية.

وقال ميقاتي عقب اجتماع مع الرئيس ميشال عون: أبلغت الرئيس أن الموازنة العامة للعام 2022 باتت جاهزة وسيجري تسلمها خلال اليومين المقبلين، وفور تسلُّم الموازنة سيُجرى دعوة مجلس الوزراء للانعقاد”، وفق ما نقلت عنه وكالة “رويترز”.

وقال ميقاتي إن موافقة الحكومة والبرلمان على الموازنة العامة لعام 2022 مطلب أساسي لصندوق النقد الدولي وسط محادثات بشأن برنامج دعم يعد أساسياً لإنعاش الاقتصاد اللبناني. وأضاف ميقاتي أنه يعتقد أن جدول أعمال الحكومة وعرض الموازنة يزيدان من أهمية اجتماع الحكومة.

المصدر: اندبندنت عربية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى