تغوص رواية “حرب الكلب الثانية” للكاتب إبراهيم نصر الله، في تحولات شخصية “راشد” الروائية، المناضل الذي كان معارضًا للسلطة، ولديه ماضٍ حافلٍ بالعمل السري، ومقارعة جهازها الأمني بذكاءٍ حاد. إلى مقاولٍ نافذ يرتبط بالسلطة بعلاقات نسب ومصالح متبادلة، وطموحٍ جارفٍ للوصول إلى مفاتيح سطوتها عبر وسائله الخاصة في حرق المراحل، بما فيها متاجرته بالأحياء الأموات في زمن التلوث والاختناق. تحيلنا الرواية في إحدى اسقاطاتها ومغازيها، إلى تحولات منطق الثورة في مخاضات الواقع العربي، الذي أمسى يختبر بالدماء قبل الأفكار، المبادئ والقيم التي تحملها ثورات وانتفاضات الشعوب العربية، بدلالة مسالك الخائضين من قياداتها ونخبها في مشاريعها وتعبيراتها الواقعية. تُعاين هذه المقالة العوامل والمؤثرات المادية والنفسية والسلوكية، التي باتت تتحكم في عصر العولمة بمجتمع الثورات وقادتها ونخبها إذا جاز التعبير، وهي معضلة من غير المجدي اختزالها بالبعد القيمي والأخلاقي فحسب، سواء من وجهة نظر وطنية أو قومية أو دينية، بحسبانه البعد الذي كان معيار الحكم الأساس على قيادات ونخب ثورات التحرر الوطني ضد الاستعمار، التي طبعت كفاح الشعوب في القرن المنصرم. إذ كانت الثورية والوطنية ونقيضها الانتهازية والخيانة هي الثنائية الرائجة، في تقييم المواقف والفرز بين الشخصيات العامة، والأحزاب السياسة القائمة وقتذاك. عشية إنجاز مهام الاستقلال الوطني، وإمساك القيادات والنخب السياسية والعسكرية زمام السلطة في بلدانها، طغى التثقيل الإيديولوجي، حتى غدا المستند المرجعي وليس المؤسساتي والقانوني، على مواقف وأداء الحكّام السلطويين، الذين أعادوا تأويل مفهوم التحرر بعد الاستقلال، بخنق مفهوم الحريات الفردية والعامة، على حساب سيطرتهم على المجال العام واحتكارهم الشمولي له.
حاولت ثُلّة من المثقفين النقديين، والمعارضين للطغمة العربية المُستبدّة، التي امتطت السلطة بانقلابات عسكرية وتحت شعارات ثورية رنانة. فضح “المنجزات اللفظية” التي واظبت عليها أبواق تلك الطغمة، وبناء ثقافة نقدية وموضوعية، تحدد مسؤولية السلطات العربية عن فشل الدولة الوطنية. مع الثمن الكبير واللا محتمل الذي دفعه المتمردون على سلطات القهر والتكميم. تصلبت مقاربة حياتية هجينة، أذعنت فيها الشعوب العربية إثر الضربات الموجعة لآمالها الكبرى في العقود الأخيرة، للهاث وراء تأمين لقمة العيش، وتركيز تفكيرها وطاقاتها على الحياة المهنيّة، الفكرية منها أو العضلية، رغم صعوباتها في بلاد الفقر والنهب والفساد. فيما استحالت السياسة والعسكرة والأمننة، إلى حيزٍ خاص تحتكره السلطة، وتنظم أشكاله ووظائفه وفق شروطها وقواعدها السلطويّة الصرفة. ما يُفسر الانطباع الذي ساد عن السياسة، في الوعي الجمعي العربي الذي اكتوى بلهيب الاستبداد، كحقل غير مأمون العواقب وجلّاب للمتاعب. كان الاستثناء الوحيد لمعنى الثورة والسياسة، كحقل متاح لاختبار فكرة الحرية والكفاح الوطني والإنساني، يتمثل في تجربة الثورة الفلسطينية في الأردن، وبمساحة أكبر خلال تواجدها في لبنان في السبعينات وحتى خروجها من بيروت عام 1982. إذ انخرط الفدائيون والمثقفون الفلسطينيون والعرب في ميادينها المختلفة، كرسالة تحرر لا كمهنة للتكسب، لكن مآلاتها وما تصيرت إليه لاسيما بعد اتفاق أوسلو في بداية التسعينات، فرضت تعريفاً جديداً لها من وحي وظيفتها السلطوية والسياسية الجديدة، أدى إلى ضمور مفهوم “التفرغ النضالي” من أجل خدمة رسالة الثورة، إلى نمط الموظف المحكوم بالراتب والرتبة وضمان استمرارهما، في بيئة ارتهان اقتصادي ومالي للمانحين الدوليين. ما أدى إلى أولوية التمسك بوظيفة السلطة كمهنة، تعتاش عليها نسبة كبيرة من المجتمع الفلسطيني في الداخل، عدا أن أبوابها مفتوحة على الارتزاق أمام أصحاب الحظوة، ولو كانت على حساب إهدار مبادئ وقيم ورسالة الثورة.
تشي تلك الحقائق في زمنها وظرفيتها التاريخية، عن معايير القياس والحكم التي كان يُقاس بها مدى التزام وصدقيّة المنخرطين في قضايا الشأن العام. بمعنى أدق، لم تكُ العوامل المادية والمعيشية في تلك الأزمنة بصورة نسبية، عاملاً حاسماً أو مؤثراً في تكوين أفكار وقناعات نخب وجمهور الثورات والمعارضات التقليدية. بل كانت النظرة الغالبة عن منتسبي الحركات والأحزاب السياسية غير السلطويّة، ترى بأنهم “غواة فقر وتعتير” وليسوا طلّاب رفاه وثروة، كنظرة لا تقلل من احترامهم، وإن كان فيها شيئاً من الإشفاق عليهم. مع اجتياح عصر العولمة والتوحش الرأسمالي، وارتداداته الكبيرة على دول المنطقة العربية، وتوغل ظواهر الاستهلاك، والتفاوت الطبقي، وانهيار الطبقة الوسطى، مع انكشاف هشاشة الأنظمة العربية، في التعامل مع هذه التحديّات الاقتصادية والتنموية الكبيرة، علاوةً على فشلها السياسي وممانعتها للديمقراطية. طرأت تحولات كبيرة على تفكير واهتمامات الأجيال، التي عاصرت ما كان عليه الحال وما أمسى إليه. في حين استيقظ وعي الأجيال التي نشأت في الزمن الجديد، على التناقض الحاد بين الواقع والأحلام، وبين الضرورات والمحظورات، ومن أبرز مفارقاته الصارخة، ما توفر لها بفعل ثورة التكنولوجيا من وسائط التعبير عن آرائها الخاصة والعامة، وتلك الموانع والخطوط الحمراء التي رسمتها أجهزة الاستبداد في وجهها. لعلّ إحدى إجابات الثورات والانتفاضات العربية التي اندلعت في العقد الماضي، تكمن في محاولة أجيال الشباب على وجه الخصوص وفئات كبيرة من المجتمع عموماً، كسر ذاك التناقض وتجاوز لا معقوليته بكل جرأة وجسارة. وهو ما أبانته المشاركة الطليعية الواسعة للشابات والشبان في حراك الثورات والانتفاضات، وأدوارهم المشهودة في بداياته الزاخمة.
بيدَ أن احتدام وضراوة الصراعات المُركّبة، التي انفتحت على مصاريعها في حقبة الثورات المتنقلة، سواء بحكم شراسة أنظمة الاستبداد في قمع وإسكات الثائرين عليها، أم نتيجة التدخلات الخارجية التي لعبت أدواراً مختلفة، في حرف الثورات عن مساراتها والتلاعب بها. أثارت بدورها مشكلات وتعقيدات وتحديّات من نوعٍ آخر. اتضح مع تعثر مسارات الثورات وطول أمدها، حجم الفجوة الواسعة بين متطلبات تحصينها، والحفاظ على استقلالية قرارها الوطني والسياسي من جهة، وصعود تمثلات عسكرية وسياسية ومدنية لها، لا تمتلك مقومات الاستقلال المادي من جهة أخرى، فنشأت أشكال من قوى وتجمعات ومنظمات، تتحكم بتوجهاتها وقراراتها مصادر الدعم والتمويل وهي خارجية بمعظمها، حتى تحولت تلك الأشكال إلى ما يشبه “المِهن” التي تجمع القائمين والمستفيدين منها، وإن بقيت تعمل وتنشط من وحي وظائفها وتخصصاتها، في قضايا وعناوين تتعلق بالثورة ومجتمعها وضحاياها.
في هذا السياق الذي تمدد وتضخم في عالمٍ لا مكان فيه للأفكار والقيم النبيلة، إذا لم تكن مسنودة بمقومات الصمود الاقتصادي والاكتفاء الذاتي، أصبح من الصعوبة بمكان تحديد حوامل رسالة الثورة، بعد أن تم إعادة هيكلة معارضات ومسميّات مدنية ومجتمعية، تدافع عن ديمومة المهنة/ الرزق، كأولوية، حتى لو تضاربت كثيراً أو قليلاً مع مبادئ وأهداف الثورة. في غضون هذه التحول الجارف الذي لم تشهده الثورات الكلاسيكية، التي اختبرها العرب والعالم في القرن الماضي، التبست معايير التقييم والحكم والفرز، بين القابضين على أطروحة الثورة من المهمشين وغير المؤثرين في قيادة دفتها، وأولئك المشاركون في مهننة الثورة، إن كان بفعل الحاجة للعمل وتأمين المعيشة، أم للمتاجرة والإثراء بانتحال صفة “ثوار أو معارضين” وهو الأكثر خطورةً.
ثمة تجربتان قدّمتا مقاربةً تدعو للتفاؤل، وتقوم على تثمير أدوار المهنيين ذوي الحضور الوازن في مجتمعاتهم، بهدف استنهاض مشاريع التغيير، والعمل على تحقيق أهداف ثورتيهما، كما رأينا في مواقف وأداء الاتحاد العام التونسي للشغل، وتجمع المهنيين في السودان. غير أن نجاح تلك المقاربة، تبقى مرهونةً بالقدرة على تجاوز عقبات وتحديّات التحول الانتقالي في هذين البلدين، والارتقاء بأدوار القطاعات المهنية والنقابية في تصويب المسارات السياسية، كأصحاب مصلحة أساسية في التغيير المنشود. أما تجارب دول الربيع العربي الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية وظروف كلٍ منها، فقد كشفت طبيعة الصراعات الداخلية، والتدخلات الإقليمية والدولية فيها، عن ضرب واستضعاف قطاعات المجتمع المُطالبة بالحرية والتغيير، إلى درجة التنكيل المستطير بها، ومثالها الأكبر حرب النظام الأسدي الشعواء على الشعب السوري، الذي وجد نفسه تحت مطرقة القمع والموت والتهجير وسندان الإفقار والبؤس والعوّز. وما نجم عن ذلك من تفكك مقومات الصمود المجتمعي، واعتلاء طبقة من تجار الأزمات على جانبي النظام والمعارضة، تتعاطى مع الثورة بوصفها “مهنة” مُغرية لكل فاسدٍ وطامعٍ، انضمت إليها فئات من الثوار والنشطاء من الجنسين. ألقى ذلك الكثير من الالتباس على صورة الثورة، بين من يمثلون مصالحهم الخاصة، ومن يدّعون تمثيل مصالح أهلها الحقيقيين. بالتوازي مع انحسار أصوات الضمير الجمعي، وشل إرادة الطبقات المُفقرة، وتشتيت قواها الحيّة في معمعان البؤس والخذلان.
كانت مقولة الثائر الفيلسوف (فرانز فانون) ” لكل جيلٍ رسالته في الظلام، فإما أن يخونها وإما أن يحققها” المقولة المُلهمة لأجيال عقد الستينات وما بعدها، أما أثرها اليوم في عقول الأجيال الناشئة، فتثير تحديات إنقاذ الرسالة من عسف تشويه مضامينها !.، وكيف يمكن تحقيقها في مواجهة مداحل ثقيلة تجرف دروب الأحلام والآمال بلا رحمة ؟!
بقدر ما تصبو إليه المقالة من ضرورة التفكير بقضيةٍ شائكة، هي إحدى قضايا ثوراتنا ومجتمعاتنا، وفهم وتوصيف ما تعانيه وما تواجهه من تعقيدات وتحديّات مركبة، لم يعد ممكناً التعامل معها بالأحكام القيمية والأخلاقية لوحدها، على وقع متغيرات عاصفة أطاحت بالكثير مما عرفناه عن تجارب ونماذج الثورات التي سبقت. فإنها تحاول ملامسة العوامل والتحولات الاقتصادية والمجتمعية والنفسية الأخرى، في عالمٍ تسوسه لغة المصالح وشهوة المال والسلطة والنفوذ. هي دعوة للتفكير والنقاش حول ممكنات كسر إسار هذه المعادلة الصلبة، وطرح معالجات وبدائل عمليّة، تسهم في إعادة ترميم الصمود المجتمعي، وتصويب الثورات ومشاريع تحررها، بالتوازن والموائمة بين البعد القيمي والأخلاقي، والأبعاد الأخرى التي يزيد تجاهلها أو القفز عنها، من فقدان استقلاليتنا الفردية والجماعية، وتشويه رسالة الثورة وإهدار تضحياتها.
المصدر: موقع مصير