تتوالى السنوات متلاحقة من دون توقف، ونقترب اليوم من إنهاء سنة 2021، ونستعد لاستقبال ما بعدها في دورة الأيام، ونريد أن نلفت النظر إلى خطورة ما يُراكمه توالي السنوات في الموضوعات والقضايا التاريخية الكبرى، مثل قضايا التحرّر والتحرير في الحاضر العربي، حيث تتواصل اليوم أشكالٌ جديدةٌ من الصراع العربي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني، ضمن موازين قِوى مُخْتَلَّة بين أطراف الصراع.. وعندما ننتبه إلى ما راكمته السنوات الماضية، من وقائع حصلت في سياق العقد الثاني من القرن الجديد، نجد أنفسنا مع معطيات جديدة، بعضها متوقع وكثير منها نُدرجه من دون تردُّد في باب التراجعات الكبرى في موضوع الصراع المذكور.
وسط كل مظاهر التراجع التي تبدو واضحةً في الواقع العربي، الصراع المذكور متواصل، حتى عندما نُعايِن أنه يمر في فترة فتور تطول أو تَقصُر.. ونسلّم أيضاً، أن صور الصراع تتجلى اليوم في أن حملة المشروع الاستعماري الصهيوني يتجهون لإحكام شبكة خيوطهم على المشرق والمغرب العربيين، وذلك مقابل اكتفاء الفلسطينيين بمواصلة تخندق أغلبيتهم وسط صور السراب التي رتَّب ملامحها الكبرى اتفاق المبادئ في أوسلو، وعَمِلَت إسرائيل على تجميدها وتعطيلها مستنجدة بـ”صفقة القرن” ومخطَّطات “الشرق الأوسط الجديد”.
الصراع العربي الصهيوني متواصل، حتى عندما يقوم الأبناء والأحفاد بخطواتٍ تُخلّ بروحه، وبروح المواقف والشعارات المرتبطة به، وهو متواصلٌ أيضاً، حتى عندما تؤطّره منذ ثلاثين سنة مبادئ مؤتمر مدريد الدولي للسلام 1991. ويمكننا أن نقرأ بعض أوجُهه في وقائع مايو/ أيار الماضي الماضي، حيث قامت إسرائيل بمواجهة فلسطينيي الداخل واتهمتهم بما سمته تقويض السيادة الإسرائيلية. كما يمكن أن نشير إليه في مختلف المظاهرات والاحتجاجات والمواقف التي تُواصل رفعها تنظيمات مدنية عربية وعالمية، رافضة الغطرسة الإسرائيلية ورافضة أيضاً، مسلسل التطبيع.
يتواصل الصراع الفلسطيني مع دولة إسرائيل، حتى عندما يتخذ مظاهر ترفع لافتات السلام والاستقرار والتعاون وتبادل الخدمات .. ويمكن أن ندرج اتساع مساحة التطبيع والمطبّعين ضمن الإطار نفسه، ذلك أن اختراق إسرائيل بلدان الخليج وبعض بلدان المغرب العربي والسودان يُقرأ ويُفهم ضمن موازين الصراع القائمة، والمؤدّية إلى آثارٍ وتحولاتٍ في الوعي بالقضية وببعض أبعادها. إلا أن كل ما ذكرنا وسواه، وإنْ يَمسّ جوانب من القضية الفلسطينية، فإنه لا يمكن أن يطفئ جمرتها، فليس من السهل التضحية بتاريخٍ طويلٍ من النضال من أجل تحرير فلسطين..
نتصوَّر أن الصراع متواصل في قلب متطلبات ومقتضيات كل مرحلة من مراحله، مراحل الفتور ومراحل الانتفاض، وهو متواصلٌ حتى عندما ينقسم الفلسطينيون وتخمد جذوته، يتناقص لهيبه ويعم مناضليه من المخلصين لمبادئه نَحِيبٌ حَارٌّ وصامت، نحيب بِحرقة الجمر القابل للاشتعال. وبإمكان الفلسطينيين والعرب ومختلف مساندي حركة التحرير الفلسطينية من المنظمات المدنية التحرّرية في العالم أجمع استعادة لهيب الجمر مجدّداً .. يتم ذلك بصيحةٍ مُجلجلةٍ وقادرة، في الآن نفسه، على تحطيم ما بناه الصهاينة من أسوار عازلة. لم تتوقف إسرائيل يوماً داخل دائرة الصراع المتواصل عن مشاريعها الاستيطانية، أصدرت المراسيم المحدِّدة لهوية الدولة الإسرائيلية، وهي تمارس داخل كل التراب الفلسطيني الأساليب التي تسعفها بمزيد من مواصلة هيمنتها على فلسطين والفلسطينيين. لم يتوقف الصراع العربي الفلسطيني مع الصهيونية منذ إعلان وعد بلفور، وقد اتخذ مساحاتٍ تكبر وتصغر منذ أزيد من قرن.
استخدم الكيان الصهيوني في تبرير جرائمه الاستعمارية أساطير الصهيونية، وعلى الرغم من انكشاف زيف هذه الأساطير وارتباطها بسياقاتٍ ذات صلةٍ بالمشروع الأمبريالي الأوروبي، وبصور الهيمنة التي ركَّب في العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن إسرائيل واصلت وتواصل أحلامها التوسّعية، مسنودةً بالقِوى الإمبريالية القديمة والجديدة. يتواصل الصراع على الرغم من عدم تمكُّن الفلسطينيين من مواجهة الكيان الصهيوني، وذلك على الرغم من كل صور المقاومة ومختلف الحروب والمعارك التي شاركت فيها جيوش عربية في 1947 و1967 و1973، لم يتوقف الصراع، وداخله نُعاين أن العرب والفلسطينيين لم يتمكنوا من وقف الإرهاب والغطرسة الإسرائيليين.
لِنقترب أكثر من الأحوال الفلسطينية اليوم، لنتأمَّل نتائج الثورات العربية وتداعياتها، لِنقرأ خرائط ما يجري في سورية والعراق واليمن وبغداد وليبيا، لنتابع الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، ثم لِنقترب من الاختراق الصهيوني المتواصل في المغرب والسودان وفي الخليج العربي في الإمارات والبحرين، وقبل ذلك في كل من مصر والأردن، لعل صورة الراهن تساعدنا في بناء ما يُفْصِح عن بعض أوجه ما يجري أمامنا، وذلك على الرغم من صعوباته .. بالأمس، وضمن دائرة الصراع، كان التطبيع يجري خلف الستائر، واليوم أصبح يجري أمامنا، ولم يتمكّن الأول كما لن يَتمكَّن الثاني من وقْف مسلسل الصراع.
ارتفعت مؤشّرات التطبيع مع إسرائيل، مقابل نزول أسهم المساندة العربية الفعلية للفلسطينيين، ومناطق الحكم الذاتي المتعثر في الضفة والقطاع. ووصل التدهور العربي إلى حالةٍ أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع إلى بعضهم، والتفكير في كيفيات مواجهة الكيان الصهيوني وداعمه الأكبر الولايات المتحدة. وتَخَطَّى الصراع المتواصل في العراق وسورية وليبيا واليمن وفي الخليج العربي سياقات الربيع العربي وتداعياته. وأصبح العرب اليوم خارج منطق زمن الثورات العربية، أي خارج معادلات الإصلاح والثورة .. لكن ما العمل أمام العواصف القائمة؟ ما العمل أمام صور تصاعُد الغطرسة والعنصرية الإسرائيليتين؟
إذا كان من المؤكد أن الهزائم والتراجعات العربية، وأشكال الاختراق الصهيوني القائمة والمتواصلة، ومختلف أنماط الصراع الناشئة والمتحوِّلة في المحيط العربي من أجل بناء الدولة الحديثة الديمقراطية، ومن أجل المشروع العربي في التضامن والتوحيد واستكمال التحرير، إذا كان من المؤكّد أن العوامل المشار إلى بعضها ساهمت في توسيع المسافة بين المشروع الوطني الفلسطيني ودولة الصهاينة، وقد أصبحت كياناً فاعلاً في كثير من تحولات المشهد السياسي العربي والفلسطيني، فإن هذا الأمر يدعونا الآن، ونحن في نهاية سنة تنصرم وأخرى قادمة، إلى بناء سِجِلٍّ جديد من المقاومة القادرة وحدها، على مواجهة صور التراجع الحاصلة في منظومة قيم التحرير والتحرّر ومنظومات التضامن العربي، لعلنا نفتح أعيننا على ما يجري أمامنا، ونتمكّن من النظر إليه وبناء الشروط التي تتيح لنا إمكانية مغالبته.
المصدر: العربي الجديد