منهل السراج روائية سورية متميزة، تعيش في السويد، قرأنا لها أغلب رواياتها: جورة حوى، كما ينبغي لنهر، عصي الدم. وهذه صراح روايتها الأحدث.
صراح؛ رواية تعتمد اسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان شخصيتها الاساسية صراح، كما يتناوب على منصة البوح بعض شخصياتها المعايشة لصراح في حياتها المديدة التي تسترجعها بطريقة الحوار النفسي الداخلي. صراح مستقرة منذ سنوات طويلة في السويد في مدينة ترمز لها بحرف ب، تعيش مع أولادها الثلاثة نور ورجا ومايسة. تعيش حياة روتينية جدا، عندها منزل منفرد، تعتني بنباتاته، تجاوز عمرها الخمسين بقليل، دخلت في سن اليأس، تعيش حوارها النفسي الداخلي بشكل دائم. هي من مدينة حماة السورية، تتذكر انها عاشت طفولتها في بيت يعج بأخوة وأخوات، ولكن أحداث ١٩٨٢م والمجازر في حماة وفي حييها زرع في داخلها غصة لم تستطع أن تتجاوزها ابدا. لقد تحرك وقتها الإسلاميين ضد النظام البعثي. وكانت النتائج مأساوية على حماة وأهلها. تتذكر انتقالها للدراسة في حلب وكيف تعرفت هناك على حبها علاء الذي اكتشفت معه جسدها ومتعه. لكن لم يستطيعا الزواج. رفضت عائلته وعائلتها. تزوجت بعد ذلك أكثر من مرّة، الزواج الاول لم تنجب به، لم تستطع الانسجام تطلّقت، أنجبت اولادها الثلاث من الزواج الثاني. تتحدث صراح عن نفسها في حياتها اليومية وروتينها الممل بالنسبة لها الاهتمام بالأولاد الذين كبروا، تعيش أمومتها كواجب، تهتم بالمنزل، تعتني بمظهرها وملابسها واناقتها، تدرك انها وصلت الى خريف العمر، حياتها ميسورة لا ينقصها اي شيء، مع ذلك تعيش هاجس الإنسان الغير راضي عن حياته. لا يغادرها ماضيها وما حصل في حياتها، بشكل شخصي او في سورية المجتمع والناس والسلطة، حاضر كل ذلك في ذاتها كل الوقت. زادت معاناتها بعد اندلاع الثورة السورية ٢٠١١م. والتي مضى عليها سنوات، ترى ما حصل مع الشعب وكيف قرر التحرر من قهره وظلمه، وكيف واجه النظام الشعب بالقتل والتهجير وتدمير البلاد، عادت احداث حماة التي عاشتها قبل عقود الى ذهنها، سورية الان اصبحت كلها مثل حماة، تسأل نفسها لماذا لم تثر مدينة حماة، والجواب ضمنا لقد ذاقت لوعة في الماضي ولا تريد تكرارها. النظام مسيطر ومدعوم دوليا، مسكوت عن كل جرائمه. تعيش صراح هذا التداخل بين الخاص والعام في حياتها، كل ما تعيشه أقرب الى الحياة العادية الفارغة من الطعم، تعيش حياتها كروتين، تفتقد للحب، يعيش بجوارها، مهاجر سوري آخر اسمه جبران يعيش مع ابنه سرار. سرار مصاب بالتوحد، تهتم به أحيانا بناء على طلب والده، هناك انجذاب من جبران اتجاه صراح، لكنها لا تهتم ولا تتجاوب معه، تهرب دائما من أن تتوطد علاقتهما، يعمل جبران في مكتبة وتعمل معه سارة اللاجئة السورية ايضا، لكنها من جماعة النظام ومن طائفته، كانت حياة سارة هنية على كل المستويات، لكنهم طلبوا منها ان تغادر الى السويد والتزمت ؟!!. هناك نشاطات كثيرة للسوريين في السويد يتابعون شؤونهم في السويد وما يحصل في سورية. صراح لا تهتم كثيرا. تعيش صراح في السويد عيشة منفتحة جنسيا مثل اهل البلاد فهي تعيش هنا منذ أكثر من عقد من السنين، عندما تجد أنها تحتاج للجنس تعرف كيف تحصل على أحدهم وتنام معه، وبعد ذلك يذهب كل في حال سبيله. السويد ممتلئة لاجئين، صراح توضّح انهم من كل مكونات الشعب السوري تقريبا. لا تصطدم مع سارة عمّا يحصل في سورية، لقد جعلت نفسها خارج ما يحصل شعوريا. تنهمك في حياتها التي تعيش فيها بلا طعم ولا رائحة ولا لون. أولادها يكبرون ويشقون طريقهم بالحياة ويبدؤون في صناعة خياراتهم الذاتية. تعود صراح كل الوقت الى ماضيها بشكل عشوائي نفسيا وتتذكر، لنقل أنها لم تغادر سوريا نفسيا للآن، ان فكرت بالحب فحبها الحقيقي عاشته هناك. وان فكرت بالعلاقات الحميمية، فقد عاشتها هناك، وان استرجعت قهرها ومعاناتها من النظام، تعرف انه مسؤول عن وجع خاص لها، تسبب بموت اخيها قبل عقود، واخيها الثاني ايام الثورة الحالية. بعد الثورة قررت العودة الى سورية والى حماة لترى ما حصل. وصلت لم يتغير شيء هذه سورية مملكة القهر والخوف، ومأساة حماة في عقود سابقة هي مأساة سورية كلها الان. عادت خائبة اكثر، لم تعد تدري اين الصواب و اين الخطأ، حضرت داعش وفظّعت، حضرت كل دول العالم ، كلها شاركت هدر الدم السوري، والاكثر حضورا في سورية الآن هو الموت الموزع على الناس بالعدل. لم تستطع أن تتحرر من كونها ابنة سورية من خلال مأساتها الممتدة عبر عقود. رغم انها لجأت الى السويد منذ أكثر من عقد من السنين، وحصلت على القبول والاقامة هنا. حياتها بكل المعاني جيدة الآن، لكنها غير راضية عنها. تهرب من نفسها إلى اجترار ماض لم تستطع نسيانه. حياتها اليومية تعيشها كروتين اجباري، ويضاف اليه ازمة سن اليأس وكونها امرأة تدخل خريف العمر. كانت تعيش علاقات جنسية عابرة كمطلب جسدي وحاجة ملحّة، لا وجود للحب والعواطف فيه، يوجد حولها بعض الرجال الذين تتناوب مع أخريات على معاشرتهم جنسيا. حاول رجل ثري من أهل البلاد ان يجذبها لكنها هربت منه. نافذة النور الوحيدة في حياتها كان جارها جبران الذي يهتم بها وبزريعتها، وبأولادها احيانا، وهي تهتم بابنه المتوحد، تحس ان جبران يكن لها عاطفة ما، تهرب منه دوما، تعتقد انها غير قادرة على الحب مجددا. واقع الحياة اليومية لصراح محدودة جدا منزلها وأولادها وشبكة اصدقاء مع جيران وعلاقات قليلة. تقوم برحلة سياحية كل فترة. العيش في بلاد الغرب يعني الوحدة والفرادة وصقيع الحياة الذاتية. مع ذلك تأخذنا صراح الى عوالمها الذاتية، تصحبنا الى ماضيها بتفاصيله، لكن بطريقة القفز في المكان والزمان والتاريخ، تعيش مشاعر تشاركنا فيها، بكل التفاصيل عن نفسها وعن كل من تفاعلت معهم. قدمت شهادة مبعثرة ومتعثرة عن كل شيء عاشته. هكذا عاشت صراح وهكذا قدمت لنا نفسها. هاجسها الأهم في حياتها أنها تدوّن وتكتب رواياتها دائما، هاجسها الان روايتها التي لم تكتبها والتي تصر ان تكتبها. لا شيء حقيقي في حياتها ويرضيها الا ان تكتب، لا تريد أن تعيش دون أن تدوّن ما يحصل معها. تعيش رسالة الكتابة والتدوين، كتبت خمس روايات ولديها مسودات ثلاث، تعيش على هاجس انها كاتبة ويجب ان تكتب، وتكتب فعلا. تمضي صفحات الرواية ولا جديد نوعي فيها أو في حياة صراح. ها هي تعيد تنظيف البيت وتجهيز طعام الأولاد واللقاء مع رجل ما من اجل جنس عابر، تتذكر كل الوقت كل ما عاشت، تهجس بالرواية وانجازها، ترعى سرار الولد المتوحد ابن جبران، تفكر بتعديلات بالبيت، يفكر أولادها ببيعه وشراء غيره، ترفض هي، ما الجديد في البيت الجديد؟ مسكونة ببلدها سورية وما حصل ويحصل بها، مسكونة بحماة، التي دمرها حافظ الاسد، وتتذكر حين موته، كيف قُهرت نفسيا: كيف يموت لوحده ؟!!، كان يجب ان يقتله أهل حماه ويعلقوه على نواعيرها للعبرة. تفكر ان الثورة جاءت بوقتها، لكن هناك ارادات ساهمت بقتلها وحرفها. لا تحس ان السويد بلدها رغم عديد السنوات التي عاشتها بها، وحقوقها مصانة، تعيش بكرامتها وكل حاجاتها مؤمنة، لكن روحها هناك في سورية. لذلك تعيش عالمين: الاول في السويد حيث تعيش وتتفاعل وتهتم بأولادها ومحيطها…الخ، وهو القشرة الخارجية لنفسها. والثاني وجداني داخلي، فهي مازالت تعيش ذاتها التائهة في سورية وحماة وماض لن تستطيع التحرر منه هو ذاتها ووجدانها ونفسها الجريحة. لذلك لا تعرف التمتع أو أن تعيش حياة ذات أفق، تهرب للكتابة تدون ذاتها التي اضاعتها هناك في سورية. مع ذلك لم ييأس جبران من محاولة انتزاعها من غربتها الذاتية ودفعها للحب، وطلب الزواج منها. رفضت وهربت، فكرت بطلبه وأنه يستجيب لحاجة داخلية في نفسها. هو لم ييأس وسيستمر في محاولة أن يعيشا حب وزواج لما تبقى من حياتهما. هنا تنتهي الرواية.
في تحليلها نقول:
٠ اننا اما رواية جديدة لمنهل السراج، مسكونة بذات الهواجس الانسانية الخاصة والعامة، هواجس نسوية، ليس من حيث الحقوق والواجبات، بل من حيث استحضار ذات المرأة أمام القارئ، والعيش داخلها، في حالة بوح فريدة وعميقة وصادقة، اعرف نفسك نسويا، واعرف نصفك الآخر ايها الرجل. لمنهل قدرة رائعة على استحضار ذات من تكتب عنهم، بحيث يتعايش قارئ الرواية معها ويصبح جزء من ابطالها وينغمس في وجدانياتهم وحياتهم. تحزن وتفرح وتتألم وتتمنى ان يكون المسار لحياة الشخصيات مختلفا. الشخصيات عند منهل فريدين ومتفردين كما هي الحياة، الروعة عند منهل انها تستطيع ان تجعلنا نعيش ذلك.
٠ صراح، في بعدها العام تريد القول ان سورية جرح نازف منذ عقود، وأن الظلم والاستبداد والقتل والاستغلال والطائفية والمحسوبية.. الخ، المرسخة عبر عقود احتاجت الى ثورة سابقة في الثمانينات وتحتاج للثورة التي حصلت في عام ٢٠١١م. وان مآل الثورات مهما كان سيئا على الشعب والبلاد فهي حق، وأنها ستظل مشروعة حتى تحقق أهدافها بإسقاط الظلم والاستبداد وبناء حياة حرة عادلة تحمي الكرامة الانسانية يعمل الكل فيها لحياتهم الافضل.
٠ صراح رواية تريد ان تقول ان جيل اللجوء السابق وما تلاه إلى الغرب، لم تمت ذواتهم السابقة، حملوا حياتهم الماضية وعذاباتهم وقهرهم معهم إلى هناك. قد يشفى من مرض الانتماء الى الوطن الام الجيل الثاني وما بعده من أجيال، اما هذا الجيل فسيبقى مصلوبا على ذات فقدها هناك في بلاده. ونفس الذات تحاول الولادة في بلاد الغربة. مع ما يصاحبه من اغتراب وعذاب وانتظار خلاص من نوع ما.
٠ منهل السراج ابنة حماة، وبشكل ادق ابنة جرح حماة في الثمانينات، لن تستطيع ان تكتب دون أن تنزف ذاتها التي نزفتها دما في حماة قبل عقود مضت. ولا اعتقد ان ذلك سينتهي عندها الا عندما ينتصر الناس على الاستبداد والظلم ويسقطوا النظام القاتل ويبنوا دولتهم الديمقراطية العادلة.
٠ اخيرا في كل نص روائي جديد اقرأه لمنهل السراج أحس أنى مسكون فيه، وانه يتغلغل داخل نفسي، يجعلني أشعر بالحميمية مع النص ومن ثم مع منهل ذاتها، لأعتبرها بكل شفافية صديقتي التي تبوح لي، كما لكل قارئ، مكنون نفسها.