على مدى ساعتين تحدث الرئيسان الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين إلى بعضهما مساء الثلاثاء المنصرم عبر آلية الفيديو المقفلة، ومرت مواقع الإعلام الروسية والناطقة بالروسية بالحدث وكأنه لم يقع. فلم ترافقه تعليقات ونصوص تحليلية تذكر، بل اكتفت بإيراد النبأ وما قاله بوتين والمسؤولون الأميركيون عن الحدث.
في اليوم التالي للقمة عقد بوتين مؤتمراً صحافياً في مقره في سوتشي وتحدث عن مفاوضاته مع بايدن، وأعلن بأنهما اتفقا على مواصلة نقاش مسألة ضمانات الأمن، وبأنهما سيتبادلان في الوقت القريب تصوراتهما بهذا الشأن. وأبدى أسفه لاتباع الناتو نهج المجابهة مع روسيا، وقال بأن طرد الدبلوماسيين الروس أدى في نهاية المطاف إلى إغلاق روسيا “هيكل الناتو المقابل في موسكو”، مما يشير إلى أن الناتو يتبع نهجاً “غير ودي حيالنا”. وأضاف بأن الناتو يعلن روسيا عدواً له.
ورداً على سؤال ما إن كانت روسيا تعتزم الهجوم على أوكرانيا، إعتبر بوتين السؤال إستفزازيا، وقال بان روسيا تنتهج سياسة خارجية سلمية، لكن “لها الحق في ضمان أمنها” على المديين المتوسط والبعيد. وأشار إلى أن روسيا تناقش هذه المسالة مع شركائها “بمن فيهم محدثي بالأمس رئيس الولايات المتحدة السيد بايدن”.
وفي إشارة إلى قلق روسيا من إمكانية إنضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، قال بوتين بأن روسيا لا يمكن ألا تثير قلقها هذه المسألة “لأن لا شك سيتبع ذلك نشر الوحدات العسكرية والقواعد والأسلحة التي تهددنا”. لكنه رأى أن المحادثات مع بايدن كانت “صريحة وموضوعية وبناءة”، واعتبر أن الأهم في الأمر هو أنها كشفت عن “إمكانية مواصلة الحوار”، كما جاء على موقع الراديو الطاجيكي.
موقع راديو قرغيزيا نقل عن وكالة Bloomberg قولها بأن بايدن يعتزم مناقشة محادثاته مع بوتين مع الحلفاء الأوروبيين. كما نقلت الوكالة عن المتحدث بإسم الكرملين دمتري بيسكوف قوله قبل القمة، بأن بوتين لا يعتزم الإدلاء بتصريح بعد إنتهاء المفاوضات.
المؤرخ الروسي الكبير ونائب رئيس حزب “الحرية الشعبية” المعارض الذي سُحب ترخيص العمل منه منذ فترة قريبة أندريه زوبوف، نشر على موقعه في الفايسبوك تعليقاً على القمة بعنوان “الوحدة”. لفتت نظر المؤرخ الصورة التي نُشرت لكل من الرئيسين أثناء محادثاتهما، وكيف يظهر بوتين بمفرده على الطاولة أمام شاشة نقل المفاوضات، بينما يظهر بايدن محاطاً بمستشاريه. ويقول بأن من المحتمل، بل المحتمل جداً، أن يكون مستشارو بوتين متواجدين في مقر المفاوضات، لكنهم لم يظهروا في الصورة. بوتين وحده في الصورة يمسك بدفة قيادة روسيا. هذه الحركة الإعلامية البسيطة يعتمدها جميع الديكتاتوريين الذين يرغبون إقناع الناس بان لا غنى عنهم ــــــــ لا وجود إلا لبوتين ـــــــ لا وجود لروسيا. هكذا كانوا يصورون هتلر وستالين وموسوليني ـــــــ حاكم عملاق وبحر دمى صغيرة من الناس، بل هكذا كانوا يصورون فراعنة مصر القديمة. لكن “كل إنسان فانٍ” كما يقول النبي داوود، والإنسان ضعيف من صفاته أنه يخطئ.
ويقول زوبوف أن الشعوب تعرف منذ القدم حسنات مبدأ القيادة الجماعية، والحكام العقلاء لا يقللون من شأن مستشاريهم ووزرائهم، خاصة المنتخبين من الشعب، بل يقدمونهم ويعلون من شأنهم. وشعوبهم لا تشعر أنه يقودها زعيم ما، بل هي التي تقود وتنتخب حكامها و تراقبهم عبر المؤسسات المعنية والمحاكم.
أما بوتين فهو وحيد، على الرغم من أن الشعب الروسي وسائر شعوب روسيا تضم الكثير من الأشخاص الحكماء والمتعلمين والكفوئين في الإدارة العامة. ويعتقد أن كثيرين من بين هؤلاء يسعهم مقارنة أنفسهم بالحكمة مع الحاكم الوحيد، لكنه هو لا يريد ذلك. هو يريد أن يبقى وحيداً مبتهجاً بعظمته، يعاني خوفاً قاتلاً من أن يفقد السلطة، كما فقدها ميلوسوفيتش والقذافي وهتلر وموسوليني.
بايدن لا يخشى أن يصبح “الرئيس السابق”، فهو يعرف جيداً أن من السهل على الشعب الأميركي أن يجد بديلاً له، كما وجد لمن سبقه. أما الطاغية الوحيد، فهو وحيد دائماً أمام رعب التاريخ وأمام لعنات الشعب الفقير والضعيف، وحيد أمام خياره، وحيد في المسؤولية عن قراراته. إنه رعب الوحدة الباردة وعبئها الثقيل، ومأساة مثل هذا الطغيان، هي مأساة جميع من تشملهم سلطته.
موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية نشر قبل يوم من القمة نصاً بعنوان “ما ثمن عدوان بوتين؟”، إستضافت فيه المعارضان بطل العالم غير مرة بالشطرنج غاري كاسباروف وسجين بوتين عشر سنوات ميخائيل خاداركوفسكي.
ناقش الموقع مع كاسباروف الموضوع الرئيسي لقمة الرئيسين الروسي والأميركي: حشد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا والتهديد باجتياحها الذي تنفيه التصريحات الرسمية الروسية. في رده على السؤال عن التناقض بين الخطاب السلمي الروسي وحشد القوات على حدود أوكرانيا، قال كاسباروف بأن لا جديد في الأمر، فالديكتاتوريون يغطون دوماً مخططاتهم العدوانية بالخطاب السلمي . هتلر كان يبدأ كل خطاباته بالقول “نحن نريد السلام”. ليس لخطاب بوتين أية علاقة بالسياسة الخارجية الروسية الفعلية، فسجلها حافل ب”الإنجازات” في هذا المجال: العدوان ضد جورجيا، إجتياح القرم، دعم الإنفصاليين في شرق أوكرانيا، العمليات العسكرية التي شارك فيها الجيش الروسي متخفياً بلباس آخر.
ينتقد كاسباروف بشدة السياسة الأميركية المهادنة تجاه بوتين، ويقول بأن خداعه المستمر في السياسة الخارجية ينطلي دائماً على الغرب الذي يرد على تهديدات بوتين العسكرية لأوكرانيا بالتأكيد على سيادة الأخيرة ووحدة أراضيها وحرية إختيارها بالإنضمام إلى الناتو. ويقول بأن الكلمات والتأكيدات لا تعني بوتين، بل هو يضحك حين يسمع تصريحات الخارجية الأميركية والبيت الأبيض بأنهم سيدافعون عن سيادة أوكرانيا ويعترفون بها، فهذا لا يعني أحداً، فالمطلوب أفعال حقيقية من أجل أن بصبح ثمن عدوان بوتين فوق طاقته. فلو ظهر في أوكرانيا 10% من السلاح الذي تركته الولايات المتحدة لطالبان، لكانت تلاشت لدى بوتين كل رغبة في البحث بجدية في الإعتداء على أوكرانيا.
وعن رأيه في تواصل بايدن مع بوتين عبر الفيديو، وهل هو مفيد أم أنه نقلة في اللعبة لا حاجة لها، قال كاسباروف بأن التواصل بين الرؤساء أمر مفيد، لكن في الحالة الراهنة ليس التواصل بين رئيسين، فالرئيس بوتين ليس رئيساً، بل هو ديكتاتور. فكلمة “رئيس” تفترض وجود بعض المؤسسات التي تضمن تبادل السلطة وعملية إنتخابية طبيعية. بوتين ديكتاتور، والتواصل بين رؤساء البلدان الحرة والديكتاتوريين قد يكون ضرورياً في بعض الأحيان، لكن”يجب ألا يُساء إستخدامه”.
لا شك أن اللقاء في جنيف كان “غلطة كبيرة”، فلم يؤد إلى أمر جيد. ومواصلة هذه الإتصالات سوف تكون لصالح بوتين مجدداً، لأنه سيظهر قدرته على إجبار الرئيس بايدن على التفاوض، وهذا إكراه ليس للسلام بل لمجرد التحدث إليه. وهذه إشارة سيئة، إذ ستظهر مرة أخرى ضعف أمريكا في الظروف التي تم فيها تقويض سمعتها بسبب كل من حكم ترامب والضعف الواضح لإدارة بايدن ، خاصة أننا نتحدث عن النتيجة المأساوية لسحب القوات الأميركية من أفغانستان.
المصدر: المدن