أثار تداول صورة خريطة تظهر أجزاء واسعة من روسيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق على أنها جزء من “العالم التركي” جدلاً واسعاً في روسيا منذ نحو شهر، ما دفع الكرملين والخارجية الروسية للتدخل والتقليل من أهمية الموضوع. وفيما انتهز المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الفرصة للتذكير بأن روسيا تعدّ موطن الكثير من القبائل التركية، أشار وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى أن خريطة توزع الروس تشمل معظم مناطق العالم. وبدأ الجدل في روسيا حول حقيقة “مطامع” تركيا في الأراضي الروسية، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعدما نشر عدد من الإعلاميين والسياسيين الغاضبين من دور تركيا المتصاعد في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وأوكرانيا، والممتعضين من سياسة التنسيق معها، صورة تجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع زعيم حزب الحركة القومية التركية دولت باهتشلي، وتظهر بينهما خريطة “العالم التركي” من المحيط المتجمد الشمالي إلى البلقان، وتضم جمهوريات من آسيا الوسطى بألوان مختلفة، إضافة إلى نحو 20 كياناً فيدرالياً داخل روسيا تمثل نحو ثلث مساحتها. وحُدّدت في الخريطة جمهوريات شمالي القوقاز الروسية، ومناطق حوض الفولغا ومقاطعتي أورينبورغ وألتاي وجمهورية ياكوتيا باللون الأصفر.
وانتهز معارضو التقارب مع تركيا نشر الخريطة للتذكير بدور تركيا المنافس لروسيا في المحيط السوفييتي السابق، الداعم لأوكرانيا عبر عدم الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمّتها بالقوة في عام 2014، فضلاً عن تزويد كييف بأسلحة متطورة يمكن أن تغير موازين القوى في حوض دونباس حيث جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتان المدعومتان من موسكو.
وتحت عنوان “لا شيء شخصياً… ما الذي تنوي تركيا فعله مع روسيا”، نشرت وكالة “ريا نوفوستي” الحكومية مقالاً للمحلل السياسي بيوتر أكوبوف في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعاد فيه التذكير بأنه غداة اعتماد إعلان “رؤية العالم التركي حتى عام 2040” في قمة إسطنبول، ظهرت “خريطة العالم التركي” في تركيا. ومع إشارته إلى أن أردوغان لم يكن من التقط الصورة بل زعيم الحركة القومية، الحزب القومي اليميني، لم يستبعد الكاتب أن ما ينطق به القوميون الأتراك هو ما يفكر فيه أردوغان في الواقع. وحذّر من أنه بعدما “تم تغيير اسم المجلس التركي إلى منظمة الدول التركية فقد ظهر العمود الفقري لمستقبل توران العظيم، وهو إمبراطورية أوراسية ضخمة لا يمكن أن تصبح حقيقة إلا بتفكيك روسيا”.
وتساءل الكاتب حول طبيعة العلاقات الروسية التركية، وحقيقة الصداقة مع أردوغان، والغاية من تزويد تركيا بصواريخ “إس 400″، وبناء خطوط لنقل الطاقة، مشدّداً على الحاجة إلى “صدّ التهديد ضد مصالحنا ووحدة أراضي روسيا”، في مواجهة أي مخططات للتوسع على حسابها. وأعرب أكوبوف، في مقاله، عن مخاوف فريق واسع من المحللين السياسيين الروس من أهداف المنظمة الجديدة، وإمكانية ضم دول معادية لروسيا، وقال: “صحيح أن الرؤية تتحدث عن الهوية المشتركة على أنها مصدر للثروة الثقافية، لكن ماذا لو انتهى كل شيء بجيش واحد؟ من يدعو الرئيس التركي للانضمام؟ ربما أوكرانيا التي طالما أرادت أن تصبح مراقباً في المنظمة؟ أم روسيا موطن العديد من الشعوب التركية؟”.
ومنذ سنوات يقرع خبراء ومحللون روس نواقيس خطر من أن تركيا بدأت في تشكيل “العالم التركي” مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، على حساب تراجع الدور الروسي. وفي 1992 عُقدت القمة الأولى للدول المتحدثة بالتركية، وهي أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان. وفي القمة الأخيرة، في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، التي شاركت فيها المجر كمراقب، أوضح أردوغان أن تغيير الاسم إلى منظمة الدول التركية سيسمح بتعزيز المنظمة بشكل أكثر فاعلية. وأشاد باعتماد “رؤية العالم التركي 2040″، وذكر أنها تعزز التنسيق بين الدول للانتقال من إزالة الحواجز التجارية إلى تنسيق السياسات الثقافية والشبابية والتعليمية، كما أنها تسمح بإنشاء ممرات جديدة عبر القارات من الصين إلى أوروبا، وفضاء معلومات مشترك، وتسهم في زيادة التضامن السياسي والدعم المتبادل في القضايا الحيوية ذات الاهتمام الوطني، وكذلك تنسيق القضايا الإقليمية والعالمية، وتشدد على الترويج لهوية تركية مشتركة.
وشكّل أبناء القومية التركية عنصراً مهماً في الدولة الروسية لقرون، ويتوزعون على مساحات واسعة من القرم وداغستان والشيشان في الجنوب الغربي إلى جمهورية ياكوتيا في الشمال الشرقي مروراً بالجمهوريات القومية في حوض الفولغا مثل التتار والبشكيرين والتشوفاش وغيرهم.
وعلى عكس المتخوفين من مطامع تركية في الأراضي الروسية، رأى بيسكوف أن نشر الخريطة لا يتضمن أمراً جديداً، وقال في مقابلة ضمن برنامج “موسكو الكرملين بوتين” الأسبوعي على القناة الروسية الأولى في 21 نوفمبر الماضي، إن “شركاءنا الأتراك يرعون فكرة الوحدة التركية، وهذا أمر طبيعي”. وأضاف أن “الشيء الوحيد الذي يمكنني أن آسف عليه هو أنه لا يوجد حتى الآن نجمة حمراء كبيرة في وسط العالم التركي على الخريطة”، موضحاً أن مركز العالم التركي ليس في تركيا. وأشار إلى أن المركز “موجود على أراضي الاتحاد الروسي، في ألتاي، في ذلك المكان المقدس لأي تركي، لتحدّر الكثير من أجداد الأتراك منه”. وأكد أنه يعبر عن رأيه السابق نظراً لأنه خبير في الشؤون التركية التي درسها أكاديمياً.
من جهته، قال لافروف في 1 ديسمبر/ كانون الأول الحالي “لا أرى شيئاً مخجلاً في الحفاظ على اتصالات مع أبناء القومية الواحدة”، مجيباً عن تساؤلات مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي بالقول: “لدينا أيضاً منطقة مماثلة يقيم فيها أبناء جلدتنا وأبناء وطننا، وبإمكاننا نحن أيضاً رسم خريطة العالم بألوان معينة وبنغمات مختلفة”. وأشار إلى أن الخريطة ستضم “أراضي الاتحاد السوفييتي السابق بأكملها، وبالطبع، تتضمن مواطنينا المتحدرين من شعوب الاتحاد السوفييتي والذين يقيمون في ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية، وإسرائيل، والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، وفي الأرجنتين مثلاً”.
وعلى خلفية الجدل المتواصل، استبعد أستاذ العلوم السياسية في جامعة مالتيب التركية في إسطنبول حسن أونال وجود أي نيّة لدى تركيا لضم أجزاء من روسيا. وأوضح في مقابلة مع موقع “لينتا رو” الروسي، في 23 نوفمبر الماضي، أن “مفهوم الوحدة التركية لا يعني ضم أو توحيد الدول والمناطق: فهذا ببساطة مستحيل في العالم الحديث، لذلك، فإن الهدف يكمن في الحفاظ على علاقات وثيقة مع المناطق والبلدان التركية الأخرى”. ولفت الخبير السياسي إلى أن الخريطة حددت جميع المناطق في العالم التي تعيش فيها الشعوب التركية بألوان مختلفة. ومع تشديده على أنه “في الوقت الحالي، لا توجد مشاعر معادية لروسيا في تركيا كما كان الحال أثناء الحرب الباردة”، اقترح أونال “منح روسيا صفة مراقب في منظمة الدول التركية لإظهار أن سياسة تركيا في هذا الاتجاه ليست موجهة ضد موسكو”.
بحكم الجغرافيا اصطدم طموح كل من الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية للتوسع بالأخرى. وخاضت تركيا وروسيا أكثر من 13 حرباً منذ القرن 16، تبدلت فيها حدود كل منهما، ولكن لم يستطع أي طرف توجيه هزيمة ساحقة، وكانت آسيا الوسطى والقوقاز بجزأيه الشمالي الروسي حالياً والجنوبي في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان المعاصرة ساحة أساسية للحروب، وامتدت لتطاول شبه جزيرة القرم، والسيطرة على البحر الأسود والمضائق البحرية، إضافة إلى البلقان واليونان. وشهدت حقبة تأسيس الدولة السوفييتية (1917) تفاهمات بين الطرفين تمثلت في إعادة بعض الأراضي التي استولت عليها الإمبراطورية الروسية. ووقّع الطرفان اتفاقية قارص، المدينة الواقعة في الولاية التي تحمل الاسم نفسه في أقصى الشرق التركي، في عام 1921. وتخلى الاتحاد السوفييتي فيها عن مناطق كانت قد استولت عليها الإمبراطورية الروسية في حروب القرن 19. ولكن الهدنة لم تدم طويلاً، وبعد خيبة أمل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين من تركيا، إثر الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، قرر التراجع عن اتفاقية قارص، وطالب تركيا بإعادة الأراضي للدولة السوفييتية، وبعدما وصلت الأوضاع إلى شن حرب توفي ستالين لتطوى هذه الصفحة.
لكن كثيراً من القوميين الروس والأرمن ما زالوا يطالبون بعدم إعادة مصادقة روسيا على الاتفاقية التي تحتاج للمصادقة كل 25 عاماً. وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي انتهزت رئيسة تحرير شبكة “روسيا اليوم” مارغاريتا سومينيان فرصة الغضب الواسع على تزويد تركيا لأوكرانيا بمسيرات “بيرقدار”، وطالبت في برنامج حواري على قناة “روسيا الأولى” الحكومية بإعادة احتلال بلادها ولاية قارص وجبل آرارات (آغري) في تركيا، باعتبارهما ممتلكات تاريخية للإمبراطورية الروسية.
وقالت سيمونيان الروسية الجنسية والمتحدرة من أصول أرمينية “أريد استعادة منطقة آرارات وولاية قارص لروسيا. كانت هذه الأماكن ملكاً لروسيا حتى توقيع معاهدة قارص المهينة. أنا إنسانة أتمتع بوعي روسيا الإمبراطورية وأريد كل شيء مثل قلعة بريست التي تنازلوا عنها بشكل مخزٍ لبولندا”، ومع إشارتها إلى أن “آرارات يعتبر الرمز الأساسي لأرمينيا”، أعادت إلى الأذهان أن الخلافات الحدودية لم تحل إلا بعد موت ستالين. وامتدحت سومينيان ستالين، المتهم بقتل وتشريد عشرات الملايين من الشعوب السوفييتية، وتصفية معارضيه السياسيين، وقالت “أعتقد أن ستالين، الذي يتم تقييمه بشكل معقد من قبل النخبة المثقفة وأيضاً من جانبي، كان قادراً على التوصل إلى نتائج وتحقيق هذه المطالب”.
السلطان والقيصر وواقع جديد
فتح انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 وبروز دول مستقلة في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى الباب واسعاً أمام تنافس القوى الإقليمية والدولية من أجل شغل مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي والإمبراطورية الروسية. ودخلت الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي على خط المنافسة بقوة لكل أسبابه المختلفة، وفي الوقت ذاته وجدت تركيا الفرصة سانحة لعودة العلاقات مع البلدان الناطقة بالتركية، وبدأت بتعزيز علاقاتها الثقافية والاقتصادية مع هذه البلدان، على حساب الأطراف الأخرى وروسيا التي كانت غارقة في فوضى التسعينيات أثناء حكم الرئيس الراحل بوريس يلتسين.
وفي بداية الألفية الحالية، وبعد صعود حزب “العدالة والتنمية” وأردوغان للحكم، ضاعفت تركيا جهودها من أجل دمج الدول الناطقة بالتركية ضمن إطار سياسي واقتصادي، ومع إغلاق بوابات الإتحاد الأوروبي أمام تركيا، سرّعت جهودها للتوجه بمسارات مختلفة منها آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. وتزامن التوجه التركي مع بدء الاستقرار في روسيا مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين، ومحاولته بناء تحالفات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وصولاً إلى بناء “العالم الروسي”. فالزعيم الذي وصف انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه أكبر كارثة شخصية له، عايش فترة الانهيار في ألمانيا، ولمس كيف بات عشرات ملايين الروس يحملون جنسية أخرى، ولا تسمح ظروف بلادهم بإعادتهم. ولاحقاً بدا أن بوتين رأى في توزع الروس في هذه البلدان فرصة لتوثيق التعاون مع بعض الدول، أو معاقبة أخرى.
وكشفت تجارب العقد الأخير أن الزعيمين الطامحين إلى إعادة أمجاد الماضي فضّلا عدم التصادم، حتى لا يضعف سعي كل منهما إلى تبوؤ بلده مكانة عالمية تليق بتاريخها. وعلى الرغم من الخلافات الكبيرة في عدد كبير من الملفات من ليبيا حتى أذربيجان مروراً بالبلقان وأوكرانيا، اتّبع بوتين وأردوغان نهج البراغماتية وفصل الملفات، وتكثيف اللقاءات الشخصية للوصول إلى حلول مرضية للطرفين.
تشي التصريحات الرسمية الروسية تعليقاً على نشر خريطة “العالم التركي”، بأن موسكو لا تخشى من المشروع التركي في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وربما يعود السبب إلى قناعة النخب الروسية بأنها قادرة على الدفاع عن “العالم الروسي”، وأنه لا بديل عنها حتى بالنسبة لشركاء تركيا الحاليين والمحتملين في هذه المنطقة. وبناء على تجارب الحروب الدامية بين البلدين، لا يمكن الحديث حالياً عن مغامرات من هذا النوع على المدى المنظور والمتوسط، والأرجح أن يستفيد الطرفان من أجواء التعاون في العقدين الأخيرين لضبط التنافس، من دون استبعاد دمج مشروعي البلدين لاحقاً.
وتسعى روسيا إلى مراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية في المحيط السوفييتي السابق، والحصول على ضمانات أكيدة بأن بناء “العالم التركي” لا يتم على حساب تفكيك “العالم الروسي”. وفي حال تقديم تركيا التزامات بأن الاتحاد الجديد لن يضر بهذه المصالح، ودعوة روسيا كعضو مراقب في المنظمة الجديدة، فإن روسيا يمكن أن تكون منفتحة على تعزيز التعاون بين “منظمة الدول التركية” و“الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، وهو مشروع بوتين لدمج بلدان الاتحاد السوفييتي اقتصادياً تمهيداً لخطوات مقبلة إذا سمحت الظروف، وربما توجيه دعوة لتركيا للانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
ومن العوامل التي تزيد من إمكانية دمج المشروعين أو التنسيق بينهما، أن الرئيس الكازاخي السابق نور سلطان نازاربايف، الزعيم الفخري لمنظمة الدول التركية، هو من بادر إلى طلب صياغة رؤية المنظمة حتى 2040، وهو ذاته الذي أطلق فكرة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في 1994، ولاحقاً مضى إلى تطبيق الفكرة وتوسيعها مع بوتين. وفي الجانب الروحي يتقاسم “العالمان” الروسي والتركي قيماً محافظة متشابهة. الأول يروّج للقيم الأرثوذكسية المحافظة ويرى أن الإسلام مكون أساسي في روسيا منذ عدة قرون، والثاني كانت مدينته إسطنبول لقرون عاصمة الأرثوذكسية، وتسعى تركيا الحالية إلى تقديم ذاتها على أنها مركز مهم من مراكز الإسلام المعتدل.
المصدر: العربي الجديد