ستحصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مباركة وتصديق من الأعضاء الكبار في “الكلوب” النووي العالمي، لدخولها رسمياً في الفرع الإقليمي للنادي الذي يضم خمس دول، فرضت نفسها نووياً وسُمِحَ لها بالتلاعب على معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل NPT هي: الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، والآن إيران. قرار الدول الكبرى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن – الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا – قضى بمنع قاطع لأي دولة عربية من أن تقترب من اقتناء القدرات النووية العسكرية.
تم تدمير العراق عمداً بقرار دولي، بعدما ارتكب صدام حسين خطأ التباهي بتطوّر القدرات العراقية في ميدان الأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية. تم تمزيق العراق حتى في أعقاب تجريده من السلاح المحظور على أيدي “أونسكوم” و”أنموفيك” UNSCOM and UNMOVIC وبعدما كذبت الدول الكبرى لدى تنفيذ القرارات الدولية، فتملّصت من فقرات كتلك التي اعتبرت تجريد العراق من السلاح المحظور جزءاً من الالتزام بمنع أي دولة إقليمية من الحصول على القدرات النووية المحظورة. طارت فكرة إنشاء “منطقة مجرّدة من السلاح المحظور في الشرق الأوسط” لأسباب عدة، منها ارتكاب مصر غلطة الالتزام قبل التيقّن من التزام الدول الأخرى. القرار الذي كان مُتّخذاً دولياً على أي حال كان قرار غض النظر عن امتلاك إسرائيل السلاح النووي، ما دامت لا تعترف ولا تقرّ به، وهذا ما طُبِّق على الهند وباكستان.
اليوم، ستدخل إيران نادي الدول “النافِيَة” لامتلاك السلاح النووي – رغم تطويرها قدرة تلقائية على تفعيله – وستحتفظ بما تسمّيه “الحق” بتطوير قدراتها النووية “السلميّة”. إسرائيل ستصرخ وتحتج وستصعّد غزواتها السيبرانية ضد المواقع الإيرانية النووية. لكن القاسم المشترك بين إيران وإسرائيل هو توافقهما واتفاقهما على منع أي دولة عربية من الوصول الى النادي النووي، والدول الخمس الكبرى تدعمهما في ذلك. القاسم المشترك بين مصر وتركيا من جهة أخرى، هو عدم القبول بأن يكون امتلاك القنبلة النووية “السُنيّة” لباكستان، فلنر لاحقاً ماذا سيحصل على هذا الصعيد المثير للفضول والاهتمام.
الآن، وقد أنجزت طهران امتلاك القدرة النووية “الشيعية”، ستتباهى وستكابر أكثر، لا سيّما أنها وحدها نووية في الشرق الأوسط الى جانب امتلاك إسرائيل القنبلة “اليهودية”. فماذا سيفعل ملالي إيران ورجال “الحرس الثوري” بهذا الإنجاز؟ وهل امتلاك هذا السلاح هو حقاً وفعلاً بذلك القدر من القيمة والأهمية، أم أن عالم اليوم تخطّى هذه المعادلة العقيمة القائمة على موازين رعب غير قابلة للاستخدام؟ وهل ما اتخذته الدول الخليجية العربية من قرارات لتطوير نفسها وبناء دول الحداثة والرفاهية وإسعاد الناس هو الإنجاز الجدّي والنموذج في هذا الزمن، لا سيّما أنها تستمر في الحفاظ على أمنها وحماية مصالحها؟ بكلام آخر، هل الدول العربية الخليجية خاسرة استراتيجياً أمام تفوّق إيران النووي، أم أن الخاسر الاستراتيجي هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ستورّط نفسها في حروب سيبرانية مباشرة مع إسرائيل، وفي حروب بالنيابة ستبقى مكلفة لها بالرغم من “هدايا” رفع العقوبات عنها بموجب إحياء الاتفاقية النووية JCPOA؟ وهل سيتمكّن النظام من المصالحة مع شعب مقهور ومقموع يجد نفسه في نكسة اجتماعية تاريخية أخذته أكثر من أربعين سنة الى الوراء، فيما جيرته تزدهر وتلتحق بركاب الدول المدنية الحضارية؟
في البدء، وقفة سريعة في فيينا حيث المفاوضات النووية تقارب التوصّل الى اتفاق بحسب ما يُروَّج له، وحيث يتحدّث البعض عن تاريخ 15 أو 22 كانون الأول (ديسمبر) كموعد فاصل، مشيراً الى أن الأوروبيين راغبون في اتفاقية قبل موعد الميلاد في 25 منه، وأن حكومة ألمانيا الجديدة تريد التغنّي بإحياء الاتفاقية النووية مع إيران فور تسلّمها زمام السلطة في 6 كانون الأول.
نقطتان أساسيتان في الخلاف، تقول المصادر، هما “آلية السيطرة” Control Mechanism على مراقبة نشاطات إيران النووية التي تصرّ طهران على بقائها كما هي، وفي عهدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA، فيما تودّ إدارة بايدن أن يكون لها دور مباشر في هذا الميكانيزم. وفي هذا الصدد، وبحسب المصادر ذاتها، قدّم وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكن الى الأوروبيين، أثناء اجتماعه معهم في استوكهولهم، الوعود بأن إدارة بايدن ستتحلّى بالمرونة.
المسألة الثانية هي أن طهران تصرّ على “أوتوماتيكية” رفع العقوبات حين يتم الاتفاق في فيينا، وهي تعارض المواقف الأميركية التي تطرح أسلوب “خطوة خطوة” في رفع العقوبات. وهنا أيضاً، يسعى الأوروبيون وراء إقناع واشنطن بالتنازل لإيران، إذ إنهم واثقون بأنفسهم لدى إدارة بايدن، وهم مصرّون على إبرام صفقة إحياء الاتفاقية النووية، مهما كان.
إسرائيل تبدو في عزلة ومُبعَدة من المفاوضات، لكن استمرار تواصلها مع إدارة بايدن يجعل انطباع العزل أوروبياً بامتياز. الدول الأوروبية قرّرت أن لإيران الأولوية، وأن الصفقة مع إيران أهم من التِزامها أمن إسرائيل، وأن المصلحة الأوروبية تقتضي الآن إرضاء إيران وتلبية طلباتها، وتجاهل إسرائيل واحتجاجاتها.
إدارة بايدن مقتنعة بأن في وسعها إدارة الأزمة مع إسرائيل، ثنائياً، بتعهّدات ووعود عسكرية واستراتيجية تثبت التزامها أمن إسرائيل. وإسرائيل من جهتها لا تبدو بتلك الدرجة من التأهب ضد الصفقة النووية مع إيران، مهما صعّدت لفظيّاً ونأت بنفسها وتوعّدت بمنع إيران من امتلاك الأسلحة النووية. فهناك نوع من التفاهمات التهادنية التي ترافق “السماح” لإسرائيل بعمليات نوعية داخل إيران أو عبر الجبهة السورية… وفي لبنان، إذا اقتضت الحاجة والمعادلات السياسية.
تقويم روسيا، بحسب مصادر مطّلِعة، هو أن إيران لن ترغب في الحروب في الفترة الزمنية المقبلة، وهي ستكون هادئة في مرحلة “الترميم” Restoration داخلياً، بهدف صوغ “إيران الجديدة” التي يريد بعثها النظام الحاكم في طهران. لذلك لن تخوض المغامرات مع إسرائيل، ولن تقوم باستفزازها في الفترة الزمنية المقبلة، أي لبضع سنوات قليلة وليس كقرار استراتيجي دائم.
“لسنا قلقين من سلوك إيران تجاه إسرائيل”، قال المصدر الروسي، “فإيران في حاجة ماسة الى إتمام أولويات أخرى” على نسق صفقات الأسلحة مع روسيا، وتعويم الاقتصاد الإيراني عبر أموال رفع العقوبات، ومحاولة ضبط الداخل الإيراني الذي يغلو بالقومية الفارسية الرافضة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنه أفقر الشعب الإيراني وأدّى الى عزلته وتخلّفه أربعين سنة الى الوراء.
“إيران اليوم لا تقلقنا كثيراً”، أضاف المصدر الروسي، “فهي لن تغامر ضد إسرائيل في هذه الفترة. قد تفعل لاحقاً، لربما بعد ثلاث أو خمس سنوات. لكن هذا لاحقاً. فلا حروب حقيقية بين إيران وإسرائيل في الأفق الآن”. هناك مناوشات لربما، عبر ساحات الحروب بالنيابة كسوريا ولبنان، وهناك إجراءات إيرانية وسلوك إيراني استفزازي في العراق ولبنان واليمن، لكن هذا لا يقلق ولا يهم روسيا التي تجد في علاقاتها الثنائية مع إيران فرصة لها للعب دور لدى إيران ولعب دور في “ضمان استقرار إيران”، بحسب التفكير في موسكو، عبر اتفاقيات ضخمة كتلك التي بين الصين والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ليس لدى إدارة بايدن رؤية لما بعد صفقتها مع النظام في طهران. المبعوث الأميركي لملف إيران، روبرت مالي، يعتبر أن مهامه محصورة في الملف النووي، لأن ما قد تم الاتفاق عليه كأساس لمفاوضات فيينا هو التركيز قطعاً على إحياء الاتفاقية النووية، وليس بحث السلوك الإيراني الإقليمي.
لو تم تعيين روبرت مالي مبعوثاً الى المفاوضات النووية مع إيران، لكانت الصورة أوضح ولسبّبت مواقفه استياءً أقلّ. الرجل على حق، وهو لا يعتذر عن موقفه بأن الملفات الإقليمية المعنية بالسلوك الإيراني ليست ضمن المهام الموكلة اليه كمبعوث أميركي الى موضوع إيران. هذا هو مفهومه لمهامه. هذا المفهوم يجب أن يتم إيضاحه من الرئيس جو بايدن الذي يجب أن ينظر في تعيين مبعوث آخر مكلّف متابعة السلوك الإيراني الإقليمي “الخبيث” بحسب تعبير إدارته.
فرجال “الحرس الثوري” سينقضّون على العراق ولبنان ابتهاجاً بنصرهم النووي، وهم سيزدادون تمسّكاً باليمن، باعتباره مفتاحاً أساسياً للإمساك بأمن منطقة الخليج وللمساس بأمن السعودية عند الحاجة. هؤلاء الرجال سيتباهون بعلماء إيران باعتبارهم أدلّة على تفوّق الفرس على العرب، وسيتناسون تماماً أن علماء العراق تم اقتناصهم وتدميرهم بقرار دولي وعبر عمليات نفّذتها الأمم المتحدة بأوامر أميركية.
ما هي المصلحة الأميركية – كما تراها البايدانية – في التصديق على تحوّل الجمهورية الإسلامية الإيرانية الى دولة نووية، بغض النظر عن الأعذار والتبريرات بأن إحياء الصفقة النووية يقيّد طموحات طهران النووية لخمس أو عشر سنوات مقبلة؟ وما هي الفوائد الأميركية من تحوّل إيران الى دولة إقليمية كبرى بموجب السماح لها بالتفوّق النووي، فيما تم تدمير العراق وبرامجه النووية؟ هل هو القرار الاستراتيجي الأميركي والدولي بمنع العرب من امتلاك القدرات النووية؟ أم أن هناك أجندة خفية وراء إضافة القنبلة النووية “الشيعية” الإيرانية، الى “السنيّة” الباكستانية، الى “البوذية” الهندية، الى “اليهودية” الإسرائيلية، الى “جوتشا” Juche لكوريا الشمالية القائمة على أيديولوجية الاعتماد على النفس؟
بصورة ما، إن بقاء العرب خارج النادي النووي لعلّه في مصلحة شعوب الدول، لا سيّما تلك القادرة على “شراء” القدرات النووية، إذا لم تتمكن من تصنيعها. ذلك لأن رؤية الازدهار والإعمار والعصرنة هي لغة المستقبل والتفوّق والاستقرار، وليس لغة الاستقواء والتسلّط إقليمياً أو نووياً. وأفضل مثال هو احتفاء دولة الإمارات العربية بنجاح نموذجها المذهل في استثمارها بشعبها منذ خمسين سنة. فالرهان على الازدهار تغلّب على الاستثمار في الدمار.
المصدر: النهار العربي