بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية في العراق، دعت المليشيات الولائية أتباعها إلى التظاهر أمام المنطقة الخضراء في بغداد، احتجاجاً على “التزوير” مطالبة بإعادة العد والفرز اليدوي. وتسببت المواجهات بينهم وبين القوات الأمنية ومحاولة اقتحام الأبواب بمقتل أحد المتظاهرين، لتصبح هذه الحادثة حجّة إضافية تُستثمر في الضوضاء التي افتعلتها المليشيات والأحزاب التابعة للحرس الثوري الإيراني، بحجة رفض نتائج الانتخابات. يستند قادة المليشيات في احتجاجاتهم هذه إلى المقاعد التي “أعطيت لهم” عام 2018، وأعقبت “الحرب على داعش” في الموصل، وكلّ ما رافقها من دعاية إعلامية مبالغ فيها، وتهويل وتضخيم لأدوار هذه المليشيات التي أسّس لها قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بفتوى المرجعية، وكذا دول حلف شمال الأطلسي، لتكون أداة قتل فعالة ضد الشعب العراقي، على الرغم من أنّ قادة أحزابٍ اعترفوا، في أكثر من مناسبة، بتزوير هذه الانتخابات ومقاطعة الشعب العراقي لها، وعدم ذهابه إلى التصويت الذي كانت نسبته أقل من 10%، وهو ما حصل في انتخابات الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، إذ أجمع 800 من المراقبين الدوليين والإعلام العالمي على ضعف المشاركة وعدم اهتمام الشعب العراقي بها، ومن ضمنه أتباع المليشيات والأحزاب الذين أدركوا أنّهم ليسوا إلّا سلعاً تباع وتشترى في مزاد للفساد اسمه العملية السياسية. وعلى الرغم من ذلك، نشرت مفوضية الانتخابات أرقاماً تتناقض مع تقارير المراقبين والإعلامين، ونفت مسؤوليتها عن النتائج النهائية، وحولتها إلى المحكمة العليا تخلصاً من ضغوط المليشيات وتهديداتها.
أصبح معروفاً للقاصي والداني أنّ كلّ الانتخابات التي أجريت في العراق قد تم تزويرها، وبشهادة أهلها من نوري المالكي إلى إياد علاوي، ولم يتم انتخاب أي رئيس للوزراء، حتى من كان فائزاً فيها، لأنّ تعيينه يخضع لعملية مكوكية بين سفارة الولايات المتحدة وسفيرها وسفارة إيران وقائد حرسها. ولم يكن تعيين مصطفى الكاظمي استثناءً لهذه القاعدة، بعد إجبار ثوار تشرين عادل عبد المهدي على التنحّي من منصب رئاسة الوزراء. لقد بصم هادي العامري ونوري المالكي وعمار الحكيم وغيرهم على التعيين التوافقي لرئيس الوزراء الجديد! وسار الكاظمي، الذي استُدعي إلى طهران مباشرة بعد التوافق عليه، ووبّخه ضمناً الولي الفقيه “واتهمه” ضمنياً، لابتزازه في ما بعد، في قضية اغتيال قاسم سليماني في بغداد (يناير: كانون الثاني 2020)، من دون أن يتمكّن من الرد: لقد قتلوا ضيفك في بيتك، واعترفوا صراحة بالجريمة. دفع “اتهام” المرشد الإيراني، علي خامئني، هذا، في وقته، برلمانيي المليشيات وبعض الأحزاب للتصويت، منفردين وبطريقة غير دستورية، على إخراج القوات الأميركية، وهو تصويتٌ غير ملزم بحسب الدستور العراقي، والهتاف في مبنى البرلمان لسليماني، وهدّدت بعض المليشيات الكاظمي، وبالدخول الى الخضراء، وداس بعضهم على صوره بأقدامهم. أما هذه المرة، فقد تحرّك ما يسمّى الإطار التنسيقي الذي يجمع كلّ الأحزاب والمليشيات الولائية بعد زيارة قآآني، “ليقدّم” خطة في شكل ورقة، يدّعي فيها أنّها “لحلحلة الانسداد السياسي” وأنّها تعالج “تخوفات” الكتل الشيعية التي “نهبت” أصواتها، تتضمن: تثبيت إلغاء قانون الانتخابات الحالي، وهو القانون الذي تم تعديله بضغطٍ من ثوار تشرين، الرافضين القانون السابق بأكمله. ووافق عليه البرلمان، بسبب ضغط الثوار، بحجّة فسح المجال أمام المستقلين لخوض الانتخابات، وإلغاء مفوّضية الانتخابات وإلغاء الأجهزة الإلكترونية للعد والفرز، والقيام بانتخاباتٍ مبكّرة بعد سنتين، واختيار رئيس وزراء توافقي، والتوفيق بين الصوت الانتخابي وعدد المقاعد، والحفاظ على “الحشد الشعبي” وعدم المساس به، وإعطاء مواقع نائب رئيس مجلس النواب الشيعي لأطراف “الإطار التنسيقي” لتخوفهم من إقرار بعض القوانين. وجديد مقترحات هذه الخطة، وأهمها تشكيل مجلس استشاري سياسي، يرسم القرار السياسي على شاكلة “هيئة مصلحة النظام” في إيران. فهل يساهم هذا المطلب فعلا في حلحلة الانسداد السياسي، أم أنه وضع لإغلاقه بالكامل، وحصر القرار بيد الولائيين، للهيمنة على السلطة بالكامل، وتثبيت المليشيات الولائية بوصفها مؤسسةً، على شاكلة الحرس الإيراني. أما السياسي إياد علاوي، فقد اقترح معالجة احتجاج “الخاسرين” بتعويضهم بمقاعد نيابية يتفق عليها عن طريق عقد ما سماه مؤتمراً مصغّراً، قائلاً إنّ ذلك أفضل من الحرب، فأين الديمقراطية التي تتغنون بها والانتخابات والشرعية وسيادة الدولة؟
لقد نقلت القنوات العراقية تظاهرة أتباع الولائيين، وسمع العراقيون بعض من شارك فيها يقول إنّه لا يعرف لماذا أتى إلى هنا، والآخر يقول إنهم قد تلقوا أمراً يجبرهم على الخروج، وإذا لم ينصاعوا تقطع رواتبهم. واستُخدمت هذه الأساليب نفسها في تظاهرة الولائيين الذين كانوا قد أخرجوا أتباعهم مقابل مبالغ بسيطة للهتاف ضد السفارة الأميركية. وامتلأت صفحات التواصل، بهاشتاغات تهزأ بالتظاهرة وبالمليشيات وأتباعهم، مثل “نازل آخذ مقعد” لا يشبه “نازل آخذ حقي” ولا يشبه “نازل أريد وطن” وحصدت زيارة عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء خلال ثورة تشرين، للتعزية بوفاة أحد أعضاء المليشيات، وكذا تصريحه أنّ القوات الحكومية تقمع المتظاهرين السلميين الذين لهم حق التظاهر، مشاهداتٍ وتعليقاتٍ حادّة، تذكّره بأنّ أكثر من 800 عراقي متظاهر قد قتلوا، وجرح ما يقارب ثلاثين ألف بأوامره، وكانوا يتظاهرون سلمياً للمطالبة بالحقوق، وليس بمقاعد برلمانية.
عرّى عدد المتظاهرين أمام المنطقة الخضراء هذه المليشيات أمام الشعب العراقي وأظهر أكاذيبها وحجم أتباعها الحقيقي الذين أتوا بالتخويف والترهيب والأموال، وهي التي تتباهى وتتفاخر باسم المقاومة الذي تطلقه على نفسها ومحاربة الاحتلال الأميركي، ولولاه لما كانت تصول وتجول في العراق كما تشاء. ضوضاء مفتعلة أمام المنطقة الخضراء لتمرير مقترحات خطة الإطار التنسيقي، أو جزء منها، والتفاوض على مزيد من الامتيازات الولائية.
لا علاقة للتظاهرات بنتائج الانتخابات، بل هي فرصة للوكيل الإيراني للقيام بمثل هذه الاستعراضات، تبتزّ فيه إيران الولايات المتحدة في المفاوضات النووية المقبلة، ضوضاء يستخدم فيها العراقيون أسرى وسلعة تباع وتشترى، سماسرتها أحزاب العملية السياسية ومليشياتها. وما وصول قائد فيلق القدس، الجنرال قآآني، إلى بغداد بمناسبة محاولة اغتيال الكاظمي، وتقديمه صوراً جوية لتكذيب اتهاماتٍ للمليشيات بقيامها بهذه المحاولة، إلّا تأكيد على إدارة الحرس الإيراني التظاهرات، وكل ما تبعها من تحرّكات حزبية للسير في تنفيذ أجندته.
الكلام عن حرب شيعية – شيعية ومواجهات بين أحزاب العملية السياسية الولائية وغيرها هو لتخويف العراقيين، تدحضه حقائق أنّ الاحتلال الأميركي هو الأكثر حرصاً على استمرار العملية السياسية بشكلها الطائفي المرسوم، وأنّه لا يمانع في وجود المليشيات الولائية، وأنّ أيّ طرفٍ من أطراف العملية السياسية، ومنها التيار الصدري، لن يخرج عن الخطوط التي وضعها الاحتلال الأميركي ووكيله الإيراني. ولن تُمسّ المليشيات ولا سلاحها إلّا بالكلام الدعائي الذي سيطوى في اللحظة التي سيوعز فيها الولي الفقيه بذلك، لتعود الأمور إلى مجراها السابق. لذا أرسلت طهران مسبقاً رسالة إلى الولايات المتحدة تؤكد فيها أنّها ستحافظ على التهدئة في العراق إلى تاريخ بدء المفاوضات حول ملفها النووي في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي.
من يدّعي أنّ نتائج الانتخابات في العراق قد جرت بعيداً عن طهران واهم، لأنّ الاتفاق الأميركي الإيراني تم مسبقاً، وحتى على التجديد لرئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، بتأييد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، وهو ما فهمه الشعب العراقي وواجهه بالمقاطعة التي دعا إليها ثوار تشرين. يوماً بعد يوم، وانتخابات بعد انتخابات، يُحاصر الشعب العراقي عملية الاحتلال السياسية في زاوية، ويحشرها في مستقبل إسقاطها المؤكّد، لأنّها فقدت كلّ شرعية، ويرد على كذبة الديمقراطية بأهم مقاطعة شعبية جرت في انتخاباتٍ في كل أنحاء العالم، كشفت التزوير المحلي والدولي المتآمر على العراق، وعلى ثورة تشرين التي أرادت استعادته.
المصدر: العربي الجديد