فصل قاتم وأسود في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
فعلى ضفاف نهر السين بالقرب من جسر بيزون في باريس الطريق الذي سلكه المتظاهرون الجزائريون قبل 60 عاما، كانت الوحشية والبشاعة تتوثب وتتخندق في انتظار الرصاصة الأولى.
ملفات التاريخ والذاكرة الفرنسية الرسمية أنكرت ما جرى على نهر السين في ذلك اليوم.
بل إنها أنكرت احتلال الجزائر لنحو 132 عاما، فقد اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن الجزائر بنيت بعد استقلالها عام 1962 على “ريع للذاكرة” كرسه “النظام السياسي-العسكري”، وشكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
مشهد آخر من التوحش الفرنسي كان يرسم خطوطه الأولى بعد أن فرضت السلطات الفرنسية حظرا للتجول على من كانت تطلق عليهم “الفرنسيين المسلمين من الجزائر” المتواجدين في باريس أثناء حرب التحرير التي خاضها الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي.
وفي 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 1961، وبأوامر من قائد شرطة باريس آنذاك موريس بابون، هاجمت الشرطة مظاهرة نظمها نحو 25 ألف جزائري مؤيد لـ”جبهة التحرير الوطني” التي كانت تقود وقتها حربا على سلطات الاستعمار الفرنسي، احتجاجا على حظر التجول المفروض على الجزائريين.
خرج المتظاهرون وكان بينهم نساء وأطفال، من الأحياء العشوائية إلى شوارع وسط باريس، استجابة لنداء “جبهة التحرير الوطني”، وكانت أجهزة قمع المظاهرات، نحو عشرة آلاف شرطي ودركي، في استقبالهم في مداخل الشوارع الكبرى.
وكان القمع غاية في الضراوة والوحشية، حسب المؤرخين البريطانيين، جيم هاوس ونيل ماكماستر، اللذين وصفا ما تعرض له الجزائريون في ذلك اليوم في كتابهما “الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة”، بأنه “أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر”.
ويذكر مؤرخون وكتاب شهدوا الأحداث أن الشرطة اعتقلت نحو 14 ألف جزائري واحتجزتهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أنشأتها لهم خصيصا، وتعرضوا هناك للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب، والقتل، حسب شهود.
كما رحلت السلطات الفرنسية آلاف العمال الجزائريين من باريس وضواحيها إلى الجزائر، بسبب مشاركتهم في المظاهرات.
ويقدر المسؤولون الجزائريون ضحايا القمع المظاهرات من 300 إلى 400 قتيل، ألقي بجثث العشرات منهم في نهر السين، فضلا عن المفقودين.
أما السلطات الفرنسية فتقول في تقاريرها الرسمية إن ضحايا الأحداث 3 أشخاص فقط، توفي أحدهم بسكتة قلبية.
وسحقت المظاهرات بشكل منهجي، وضربت الشرطة الفرنسية العشرات حتى الموت وأطلقت النار على آخرين.
وجمع مؤرخون روايات لشهود عيان عن مطاردة محتجين في شوارع باريس وتعرضهم للضرب حتى الموت في ساحات مراكز للشرطة. وتعطل البحث عن المفقودين بسبب عدم الكشف عن وثائق الشرطة في ذلك الوقت، ونتيجة لذلك لا يزال الإجماع بشأن عدد القتلى غائبا حتى الآن.
وحتى اليوم، لا يزال العدد الدقيق للضحايا غير معروف.
وسجل مؤرخون المذبحة على نطاق واسع حيث يقولون إن أكثر من 200 شخص ربما قتلوا فيها.
وخلال الشهور والسنوات التي أعقبت المذبحة حظرت الحكومة الفرنسية نشر كتاب تناول المذبحة والصور القليلة التي التقطها مصورون في تلك الليلة.
ودام الاستعمار الفرنسي للجزائر 132 عاما ولم يرحل إلا بعد حرب الاستقلال الجزائرية الطاحنة التي سقط فيها نحو مليون شهيد ما بين عامي 1954 و1962.
ولم يتجرأ مسؤول فرنسي على الاعتراف بما جرى من قمع وقتل للمتظاهرين إلا مع قدوم الرئيس الفرنسي فرانسوا اولوند ليعترف عام 2012 بالمذبحة منهيا عقودا من الصمت الرسمي بشأن أحد أشد الفصول قتامة في تاريخ فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية.
اولوند قال في بيان مقتضب إنه: “في 17 تشرين الأول /أكتوبر 1961 قتل جزائريون كانوا يحتجون من أجل الاستقلال في قمع دموي. الجمهورية تقر بهذه الحقائق بوضوح. أقدم الاحترام للضحايا بعد 51 عاما من ذلك.”
وجاء الاعتراف الأكثر وضوحا من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ندد بالحملة الدموية التي شنتها الشرطة على المتظاهرين الجزائريين في باريس قبل 60 عاما، ووصفها بأنها “جريمة لا تغتفر”، في أهم اعتراف من رئيس فرنسي بالمذبحة.
وقال مكتب ماكرون في رسالة صادرة عن قصر الإليزيه إن المسيرة قمعت “بعنف وبشكل وحشي ودموي، وأن نحو 12 ألف جزائري اعتقلوا وأُصيب كثيرون وقتل العشرات”. وأضاف البيان “أن فرنسا تعترف بمسؤوليتها القاطعة عن هذه الواقعة”.
وحين وقف ماكرون واضعا إكليلا من الزهور في مكان المذبحة، فقد اتخذ موقفا يتجاوز ما أقر به سلفه اولاند حين تحدث عن “قمع دام”.
لكن على الرغم من ذلك لم يرق كلاهما إلى مستوى التوقعات بالاعتذار والتعويضات، خاصة وأن أيا منهما لم يقر بعدد الأشخاص الذين قتلوا في تلك المذبحة، أو بدور الدولة فيها.
كما تعرضت الأحزاب اليسارية الفرنسية، التي كانت معارضة في ذلك الوقت، لانتقادات لعدم إدانتها للمجزرة، ويطرح مؤرخون، مثل الفرنسي جان لوك أينودي، أول من أماط اللثام عن دور الشرطة الفرنسية في مذبحة باريس، تساؤلات عديدة بشأن “تغييب رسمي” لهذه الأحداث في وسائل الإعلام والجامعات والكتب التاريخية.
ويرى المؤرخون أن السلطات الفرنسية والمسؤولين عن الأحداث مثل مدير الشرطة، موريس بابون، ورئيس الوزراء ميشيل دوبري، ووزير الداخلية روجي فراي، سعوا إلى فرض الصمت بشأن القضية، ولذلك سقطت جميع التحقيقات القضائية التي فتحت وقتها، وعددها نحو 60 تحقيقا، كما منع الصحفيون من زيارة المراكز التي كان يحتجز فيها الجزائريون.
وللسخرية لم يُدن موريس بهذه الجريمة وإنما أدين عام 1998 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب دوره في إطار نظام فيشي المتحالف مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
مذبحة باريس، صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا. وحدث دام، أهالت عليه النخب السياسية والشرطة التراب ودفنته تحت ستار الصمت الرسمي وصمت أحزاب المعارضة والصحافة الفرنسية.
ولا يزال الإعلام الفرنسي يعاند التاريخ، فقد وصفت وكالة الصحافة الفرنسية (أ ف ب) ومعها “فرنسا 24″، ما جرى بأنه “يظل حدثا مثيرا للجدل”.
وزعمت أنه “لفترة امتدت عدة عقود، كان عدد القتلى حسب الحصيلة الرسمية ثلاثة أشخاص فقط. أما اليوم فإن العدد التقريبي للقتلى يصل إلى 48 على الأقل، وإن كان بعض المؤرخين يرفعونه إلى مئة”. بحسب خبر نشر في ذكرى المذبحة.
عدم تقديم الحكومة الفرنسية وبعد 60 عاما على مذبحة باريس رواية واحدة وموثقة لما جرى في ذلك اليوم يؤشر على أن ما تحاول فرنسا وإعلامها ومؤرخوها دفنه إلى الأبد، هو جريمة بشعة قد تكون تفاصيلها أبشع بكثير مما وصل إلينا من معلومات حولها.
كيف يمكن لدولة، أن يفتقد أرشيفها الوطني إلى معلومات مفصلة لما جرى في مذبحة باريس وعدد القتلى، وما هو مصير المفقودين؟!
هل ثمة حقائق صادمة تسعى فرنسا إلى دفنها إلى الأبد في مستودع الذاكرة؟!!
المصدر: عربي 21