حسن حنفي ومشروعه الكبير عن “التراث والتجديد”

د.عمار علي حسن

كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها على اسم الفيلسوف الكبير حسن حنفي، الذي رحل عن دنيانا 21 أكتوبر 2021، وقت أن كنت طالباً جامعياً، وكان هذا من خلال مجلة بسيطة الإخراج؛ لكنها تحتوي على رؤى عميقة ومختلفة، اسمها “اليسار الإسلامي”. ورحت أتابع هذا التيار الذي كان يشكله بعض الباحثين والكتاب الأزهريين ذوي النزعة الاشتراكية؛ ومنهم مَن كانوا ينتمون إلى “حزب التجمع” الذي ضم أصنافاً من اليسار، بدءاً بالاشتراكية الاعتدالية وحتى الماركسيين والتروتسكيين.

بعدها جلست إلى حنفي مستمعاً في ندوات كثيرة، ثم لحقت به كاتباً في صحيفة “الاتحاد”, وفي كل مرة قابلته فيها حرصت على مشاكسته؛ فهذه طريقة جيدة لإخراج بعض الساكن في رؤوس العلماء الراسخين. كان رحب الصدر معي محباً وشجاعاً، وكنت قد تعلمت من كتبه الكثير، وأعرف قدره، وأعلم أن تأثيره في الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا كبير؛ فهو المفكر البارز في إندونيسيا وماليزيا، في وقت ظل فيه مستبعداً في بلده، إلا قليلاً.

ولم يكن لي أن أقوم بهذه المشاكسة لولا أني اطَّلعت على مشروعه المهم عن “التراث والتجديد”، واستفدت منه كثيراً، وأثَّر في ذهني عميقاً إلى جانب غيره من مشروعات وتصورات فكرية لعابد الجابري وطيب تيزيني وأدونيس وعبدالله العروي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا.

ويظل مشروع حنفي هو الأكبر من حيث المساحة، والأكثر طموحاً؛ فهو لا يعالج مناهج البحث في تراثنا العربي- الإسلامي القديم فحسب، بل يمتد لمعالجة التراث كله بوصفه لا يزال متفاعلاً مع الواقع ويؤثر نفسياً على الجماهير الغفيرة. وينطلق حنفي في مشروعه من أن “المعركة الحقيقية الآن هي معركة فكرية وحضارية، ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة، إن لم تكن أساسها. وأن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية، وأن الخطر المداهم الآن ليس فقط هو ضياع الأرض؛ بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد”. وينطوي المشروع على ثلاثة روافد، يرى أن التمعن في جزئياتها المتعددة يمكننا من بناء مشروع للنهضة العربية- الإسلامية. وهذا المشروع لا يهتم بالذات فحسب، كما فعل أدونيس والجابري؛ بل يمتد إلى “الآخر” ليحاول مواجهته بأسلحته نفسها، من أجل أن يقضي على الرهبة منه، والوهم إزاءه، ويعيد الثقة في الذات، ويعرج على الواقع، ليدرس جدل الأفكار فيه، وإمكانية صمودها في وجه التحديات التي تفرضها الحياة بشتى تعقيداتها. وقد حدد حنفي جوانب مشروعه الفكري، الذي لم يكتمل بعد، على النحو التالي:

التراث والتجديد

والجبهة الأولى من المشروع، وهي المتعلقة بالموقف من التراث القديم، تهدف إلى إعادة بناء العلوم التقليدية، ابتداء من الحضارة ذاتها، بالدخول في بنائها، والرجوع إلى أصولها لبيان نشأتها وتطورها؛ سواء بالنسبة إلى كل علم، أو بالنسبة إلى مجموع العلوم.. وذلك بالإشارة إلى هذه الأصول نفسها، والبدء منها، واستعمال لغتها، والتفكير في مؤلفيها، دون أية إشارة إلى عوامل خارجية من ظروف أو تأثرات، إلا إذا اعتبرت هذه الظروف كمثيرات، وهذه التأثرات كتشكل كاذب.

وكما هو موضح في الجدول السابق، فإن هذه الجبهة تشتمل على ثمانية أجزاء؛ الأول يرتبط بعلم الإنسان (من العقيدة إلى الثورة)، وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي، باعتباره أول العلوم الإسلامية، من حيث الظهور؛ إذ إنه يعرض للوحي في أساسه النظري، ويمس لب الدين وجوهر العقيدة؛ وهو مرتبط بالبيئة الإسلامية أشد الارتباط، ويتسم بالنقاء الخالص؛ حيث لم يخضع لأي أثر خارجي في نشأته، بل كانت الأحداث السياسية التي زخر بها العالم الإسلامي هي الدافع وراء وجوده، في نظر حنفي، الذي يري أن هذا العلم يمكن أن يمدنا بأيديولوجية عصرية، تشتمل على لاهوت الثورة والأرض والتحرير والتنمية والتقدم.

ويرتبط الجزء الثاني (من النقل إلى الإبداع) بفلسفة الحضارة وعلوم الحكمة، ويحاول فيه حنفي أن يوضح طبيعة العمليات الحضارية التي حدثت في الفلسفة الإسلامية القديمة، جراء تقابل الحضارة الإسلامية الناشئة مع الحضارة اليونانية الوافدة؛ الأمر الذي يشبه، إلى حد كبير، ما حدث في عصرنا الحديث، من التقاء الحضارة الإسلامية مع الحضارة الغربية وقت نهضتها. ويهدف الجزء الثالث إلى كشف جوانب المنهج الوجداني المرتبط بالتصوف؛ حيث “يظهر فيه الإنسان كبعد مستقل، والشعور كنقطة بداية لتأسيس العلم”. وهذا التوجه بالغ الخطورة، في رأي حنفي؛ لأنه يجذر قيماً سلبية، مثل الخضوع والتوكل والهروب من الواقع، ولذا يرفض غنوصيته، وانسحابه.

ويعد الجزء الرابع (من النص إلى الواقع) محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه التقليدي، الذي تمكن من تحويل الوحي إلى منهج استنباطي استقرائي، مرتبط بـ”علم التنزيل”؛ وهو علم مستقل يؤكد حنفي أنه أفضل ما أخرجته الحضارة العربية الإسلامية، وأنه يوضح بجلاء تكوين الإنسان الداخلي، من حيث هو زمان ونية، والخارجي، من حيث هو فعل وسلوك. ولا يقتصر هذا العلم على العقدي والتعبدي فحسب؛ بل يمتد إلى “الفقه الاجتماعي” أو “فقه الوجود”، الذي يحاول حنفي أن يغير مادته المعتادة، التي يغلب عليها طابع الأحوال الشخصية، إلى مادة عصرية يغلب عليها الطابع الاجتماعي. أما الجزء الخامس فيحاول فيه حنفي أن يعيد بناء العلوم النقلية، التي تشمل القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، من خلال دراستها في ضوء “أولوية الواقع على الفكر” و”أثر التطور والزمن على النص”، وعبر تجاوز الطرق اللغوية والأدبية والفقهية في تفسير النص القرآني إلى وضعه وسط الأشياء المتفاعلة والمتغيرة، وتجاوز مناهج الرواية في الحديث إلى النقد العقلي والحسي للمتون، والانتقال من الشخصي إلى الكلام في التعامل مع السيرة؛ بحيث يتم الحد من سلطة الشخصي وعبادة الأشخاص في حياتنا العامة.

وفي الجزء السادس يسعى حنفي إلى إعادة بناء العلوم الرياضية من جبر وهندسة وحساب وفلك وموسيقى؛ بحيث تتم معرفة “توجهات الوحي الشعورية التي أدت إلى الاكتشافات النظرية في هذه العلوم”، كما تتم إعادة بناء العلوم الطبيعية من كيمياء وفيزياء وطب وتشريح ونبات وحيوان وصيدلة؛ من أجل معرفة “وظيفة الوحي في توجيه الشعور نحو الطبيعة وتملك قوانينها”. ويكمل الجزء السابع محاولة إعادة بناء العلوم، من خلال تركيزه على الإنسانيات من علم نفس واجتماع وسياسة وتاريخ وجغرافيا ولغة وأدب؛ بحيث يتم التعرف من خلالها على دور الوحي في بناء الشعور وتوجيهه نحو الفردي والجماعي. أما الجزء الثامن، فهو محاولة لوصف البناء الحضاري الإسلامي وتطوره، توطئة لنقله إلى طور جديد، ينهض بالمسلمين، ويخرجهم من دائرة التاريخ المغلقة التي يعيشون فيها إلى شكل عصري يتقدم بهم إلى الأمام.

وحدد حنفي للجبهة الثانية في البداية خمسة أجزاء؛ أولها عن آباء الكنيسة والعصر المدرسي الأوروبي (من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر)، وثانيها حول الإصلاح الديني وعصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر)، وثالثها يتناول العقلانية والتنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر)، والرابع يتعلق بالوضعية العلمية (القرن التاسع عشر)، والخامس والأخير يدور حول الوجودية والتحليلية (القرن العشرون). لكن حنفي عاد، لدافع العمر وطول المهمة من ناحية والتخفيف من الطابع التاريخي لهذه الجبهة من ناحية ثانية، ودمج هذه الأجزاء الخمسة في ثلاثة فقط؛ أولها عن مصادر الوعي الأوروبي، المعلنة مثل الفكر اليوناني والإغريقي والرافدين المسيحي واليهودي، والمستترة مثل المصادر الشرقية القديمة والبيئة الأوروبية ذاتها خلال فكرة تكوين الحضارة الغربية من القرن الأول حتى الرابع عشر الميلادي. والثاني يتعلق ببداية تكوين الوعي الأوروبي في عصرَي الإصلاح الديني والنهضة، في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، وصولاً إلى العقلانية في القرن السابع عشر، ثم التنوير والثورة في القرن الثامن عشر. والجزء الثالث يرتبط بنهاية الوعي الأوروبي، وفيه يتناول حنفي التحول الأساسي في مسيرة الوعي الأوروبي؛ حيث انتقاد الذات لاكتشاف طرق معرفية وحياتية جديدة.

غلاف كتاب “التراث والتجديد”

أما الجبهة الثالثة، التي تتعلق بالموقف من الواقع، فتحوي “نظرية للتفسير”، تهدف إلى إعادة بناء الحضارتَين الإسلامية والأوروبية معاً، ابتداء من جذورهما الأولى المتمثلة في الكتب المقدسة وحتى تجلياتهما الراهنة في الواقع المعيش؛ بما يعني تحويل النص المقدس إلى علم إنساني شامل، بعد أن أظهرت جزئيات الجبهتَين السابقتَين أن الأفكار البشرية جميعها تخضع لنظرية للتفسير، سواء للنص أو الواقع.

وتشتمل هذه الجبهة على ثلاثة أجزاء؛ الأول يتصدى للعهد الجديد، وهو، في نظر حنفي، محاولة لتحقيق صحة الوحي في التاريخ، ابتداء من مراحل الوحي السابقة على المرحلة الأخيرة، أي التوراة والإنجيل، سواء من ناحية فهم النصوص، أو من حيث سلوك أهل الكتاب، بما يعتبر مساهمة في التأكد من صحة الوحي السابق على الرسالة الخاتمة، باستعمال مناهج النقل التاريخي- الشفاهي أو الكتابي؛ من أجل الوصول إلى درجة من درجات اليقين، بالنسبة إلى النصوص الدينية. ويعتبر حنفي أن البحث في هذا الاتجاه يؤدي، في الوقت ذاته، إلى التحقق من صحة الفرضيات الإسلامية حول التحريف والتغيير والتبديل والإخفاء والزيادة والنقص في العهدَين القديم والجديد؛ بما يفصل بين الكتاب المقدس والتراث الكنسي. والجزء الثاني يرتبط بالعهد القديم، ويحاول أن يميز بين التوراة وكتب التاريخ، التي تُنسب إلى الملوك والقضاة، والفصل بين كتب أنبياء بني إسرائيل وكتب الحكمة، والتفرقة بين ما قاله هؤلاء الأنبياء وما قاله الأحبار والملوك. ثم دراسة تطور العقائد عند بني إسرائيل، والذي لا ينفصل عن تاريخهم القومي.

 ويتلمس حنفي هنا خطى علماء المسلمين القدماء، حين تعرضوا إلى نقد الكتب المقدسة، ويعتبر أن الحاجة إلى هذا التوجه تبقى قائمة؛ إذ إن المسلمين لا يزالون أهل الكتاب، حين يواجهون مخاطر الاستعمار والصهيونية. ويتعلق الجزء الثالث بالمنهاج، وهو محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي كانت متبعة في تراثنا القديم، الكلامية والفلاسفة والفقهية والصوفية ومراوحتها بين مناهج ذات طابع نصي أو عقلي، أو واقعي أو وجداني، ووضع نظرية جديدة للتفسير، تكون جامعة لكل هذا؛ نظراً لأنها “تبدأ من الواقع الشعوري الذي يقدم لنا التجارب الحية، التي يقوم العقل بتحليلها، ويصل إلى معانٍ تكون هي مباني النص، والتي يمكن إدراكها بالحدس الموجه إلى النص مباشرة، أو الواقع مباشرة”. ويرى حنفي أن اتباع هذا النهج يمكننا من تقنين المداخل التي ننفذ بها إلى النص لتمحيصه، وأن البحث عن المنهاج هو نهاية مشروع “التراث والتجديد” وبغيته الأولى، وهو منهج إسلامي عام لحياة الفرد والمجتمع، وأيديولوجية لتطوير الواقع.

ويرى حنفي أن هذه “الجبهات” الثلاث تشير إلى “جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد؛ فالجبهة الأولى تضع الأنا تاريخها الماضي وموروثها الثقافي. والجبهة الثانية تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر؛ وهو الوافد الثقافي الغربي أساساً. والجبهة الثالثة تضع الأنا في خضم واقعها المباشر.. الجبهتان الأولى والثانية حضاريتان بينما الثالثة واقع مباشر.. وإذا كانت الجبهة الأولى تتعامل مع الوافد فإن الجبهة الثانية تتعامل مع الوافد، وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه”.

 وفي رأي حنفي، فإن هذه الجبهات الثلاث ليست منفصلة عن بعضها البعض؛ بل تتداخل في ما بينها، “فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادراً على الدخول في تحديات العصر الرئيسية يساعد على وقف التغريب، الذي وقعت فيه الخاصة، وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة والذي أفرزته فرق السلطان؛ فلم تجد حلاً إلا في التراث الغربي.. ولما كانت التحديات العصرية هي الواقع المباشر الذي يُعاد فيه بناء التراثَين معاً القديم والغربي، فإن أخذ موقف نقدي منهما يساعد على إبراز الواقع ذاته، وفرض متطلباته على قراءة التراثَين معاً”.

وهناك ثلاثة حلول تتنازع قضية “التراث والتجديد”، في رأي حنفي؛ الأول هو الاكتفاء الذاتي بالتراث، وهو في نظره ظاهرة اجتماعية أكثر منها فكرية، ترتبط بفئة تدافع عن مصالحها ومكاسبها ومناصبها، عبر المزايدة بالدين. ويعتقد أصحاب هذا الحل أن تراثنا القديم قد حوى كل شيء، ما مضى وما نحن فيه وما هو آت، ولذا يجب علينا الرجوع إلى تراثنا بحثاً عن حلول للمشكلات التي تواجهنا، وأن حركة التاريخ تسير نحو الأسوأ؛ لأن الزمن الذي ذهب أفضل من زماننا، برجاله وقضاياه. وبالطبع فإن ما سبق لا يعدو كونه هروباً إلى الماضي، وفراراً من معارك العصر، ويبدو أن أصحاب هذا التصور مصابون بالنفاق والعجز والنرجسية والاستلاب؛ النفاق لأنهم في الحقيقة لا يؤمنون بشيء ولا يبغون سوى مصالحهم الضيقة، متسترين بعباءة العلم الديني، والدعوة إلى نصر القديم على “البدع المستحدثة”. والعجز؛ لأن هؤلاء غير قادرين على إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب، ولذا يبعدون الناس عن حاضرهم، ويجعلونهم يعيشون في الماضي، ويجدون فيه العزاء عن واقعهم المرير. والنرجسية لأنهم يضخمون ما بين أيديهم، ويغلقون أعينهم وآذانهم حيال “الآخر”، حين يزعمون أن التراث لم يترك شاردة إلا وعالجها. والاستلاب؛ لأن أصحاب هذا الاعتقاد يتركون أنفسهم للحكام ليستخدموهم أدوات لإضفاء الشرعية على أنظمتهم، وتبرير وجودها، عبر الخطاب الديني.

أما الحل الثاني فيكمن في الاكتفاء الذاتي بالتجديد. وينطلق أصحاب هذا الاتجاه من أن التراث القديم لا قيمة له في ذاته، ولا يحتوى أي عنصر للتقدم، وهو جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره، ولذا فإن الارتباط به نوع من الاغتراب ونقص في الشجاعة، وتخلٍّ عن الموقف الجذري، الذي يؤدي تبنيه إلى النهضة. ومن وجهة نظر حنفي، فإن هؤلاء على حق من حيث المبدأ وعلى خطأ من حيث الواقع؛ لأنهم يبنون فوق جدران متهدمة، ولا يبذلون جهداً من أجل رفع الأنقاض لتشييد بناء جديد، ويتناسون أن الشعوب لا تتغير في لحظة. ولذلك فإن أصحاب هذا الاتجاه مصابون بقصور النظرة العلمية والتقليد والازدواجية. والخلل العلمي يتمثل في إسقاطهم التراث تماماً، مع أنه لا يخلو من قيمة؛ فهو إن لم يكن كفاية أو غاية في ذاته، فإنه وسيلة مهمة في التغيير؛ لأنه بمثابة المخزون النفسي للمعاصرين، وأحد مكونات الواقع التي لا يمكن تجاهلها، والجماهير التي تتمسك به لا يمكن تبديل جماهير جديدة بها؛ بل يجب تطوير ما هو موجود بالفعل، دون الانسياق وراء أوهام وأحلام. والتقليد يرتبط بأن مَن يتبنون هذه الرؤية، لا يفعلون شيئاً سوى استعارة تجارب مجتمعات أخرى، وخلعها من سياقها الاجتماعي، ومحاولة زرعها في مجتمعاتنا المختلفة ثقافةً. وقد يصل الأمر بهؤلاء إلى مستوى خطير، لا يقتصر على التبعية الفكرية فقط؛ بل يصل إلى حد العمالة وخيانة الوطن. والازدواجية لأن العديد من هؤلاء في الوقت الذي يطالبون فيه بترك القديم “الإسلامي”، فإنهم يتمسكون بالقديم “المسيحي”، وفي الوقت الذي يعيبون فيه على ما يصفونها بأساطير الشرق وخرافاته، فإنهم يمارسون طقوساً مشابهة؛ لكنها ذات صلة بجذر ديني وثقافي آخر.

ويتمثل الحل الثالث في “التوفيق بين التراث والتجديد”. ويعني هذا الأخذ من القديم ما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقياس القديم، واستيعاب مزايا كلا الحلَّين السابقَين؛ لكن أصحاب هذا الاتجاه يقعون، في نظر حنفي، في التلفيق، وإن كانت محاولاتهم تأخذ أشكالاً ثلاثة؛ الأول هو التجديد من الخارج، أي انتقاء مذهب أوروبي حديث ثم قياس التراث عليه. والثاني التجديد من الداخل؛ بمعنى إبراز أهم الجوانب الإيجابية والتقدمية في تراثنا القديم ورؤية مشكلات العصر من خلالها. وهناك يمكن الحديث عن عقلانية المعتزلة، ومبدأ الشورى في الحكم، والرؤية الاقتصادية الإسلامية في الملكية العامة، والتصور القانوني في التشريع.. إلخ؛ لكن جميع محاولات هؤلاء، فضلاً عن أنها جزئية، يغلب عليها طابع الانتقائية.

وفي النهاية، أعتقد أن هذا المشروع، الذي لم يحظَ إلى الآن بتداول على مستوى واسع يليق به، سيظل محل أخذ ورد، ومدح وقدح، في المستقبل؛ لأنه شامل وعميق ويمس قضايا جوهرية لا تزال مطروحة في حياتنا، فضلاً عن وقوفه على أرضية عربية- إسلامية، ثم نظرته إلى آفاق الحكمة أينما كانت، وهي مسألة إن كان ينازعها متطرفون ومتشددون طالما اتهموا حنفي بالفسق والمروق، بل وبالكفر أيضاً، فإن لها من بين الفاهمين المعتدلين أنصاراً كثراً في العالم الإسلامي.

♦روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي

المصدر : كيوبوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى