في غمرة إشغال اللبنانيين والتهويل بحرب أهلية جديدة وتهديدات أمنية من هنا وهناك، يزور لبنان مسؤول أميركي يهودي يحمل الجنسية الاسرائيلية للبحث في موضوع ترسيم الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة..الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة عن توقيت التصعيد الأمني المفاجىء الذي توج بأحداث عين الرمانة والتظاهرة المسلحة والرد المسلح مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى.
في الوقت الذي يعاني فيه لبنان واللبنانيون من انهيار معيشي وحياتي غير مسبوق وغير مقبول بأية صورة من الصور، تأتي تلك التهديدات والأحداث الأمنية لتربك المواطن اللبناني وتجعله أسير الخوف مما هو أسوأ بالفلتان الأمني والتقاتل المتبادل؛ فتجبره على تناسي همومه الحياتية المعيشية وتصرف الأنظار عما فعلته به سلطة المحاصصة الطائفية الفاسدة المأجورة وعن مسؤوليتها المشتركة بكل أطرافها عما آلت إليه أحوال الشعب والوطن والمؤسسات من خراب وإنهيار.
وبعد ان واكب ألأحداث منذ إنتفاضة تشرين أول قبل عامين وعي كثير من اللبنانيين فكان شعارهم الواحد الجامع ” كلن يعني كلن ” تعبيرًا عن فهم موحد لحقيقة مشاكل الوطن ومسؤولية نظام المحاصصة الفاسد بكل مكوناته الإسلامية والمسيحية عن إنهيار الدولة وخراب الحياة في الوطن.. ( فكان هذا بداية حيوية لإعادة تأسيس وعي وطني لبناني يتجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية )؛ في هذا الظرف الحرج ؛ تشتعل أحداث أمنية تصاحبها تهديدات تعيد الأمور إلى مراحل سلبية سابقة حيث التجييش الطائفي والمذهبي كان سببًا في تمزيق الصف الشعبي وتقسيمه وإخضاعه لأطراف السلطة الفاسدة ذاتها ومصادرة أية إمكانية للتغيير ولو التدريجي..وهو ما كان يشكل سببًا أساسيًا لإنسداد أفق المستقبل في لبنان ويؤدي إلى تهجير أجيال متعاقبة من الشباب والعقول والطاقات.
وحينما تشكل رأي عام لبناني موحد يرى السلطة ذاتها وجميعها مسؤولة عن الخراب/ الإنهيار ويطالب بالتخلص منها؛ أتت الأحداث الأخيرة محاولة إعادة الزمن إلى الوراء ومصادرة الوعي الجديد الجامع المتشكل حديثًا ليكون ذلك مدخلًا لتثبيت سلطة المحاصصة ونظامها الطائفي المأجور وإطالة عمرها وإستمرار تسلطها على الشعب والوطن والأخطر استمرارها كغطاء لتبرير وتمرير الأطماع الصهيونية بالأرض والماء والنفط والغاز والأمان.
وبصرف النظر عن أية إختلافات سياسية أو حزبية محلية؛ فإنه من غير المقبول واقعيًا وعملانيًا فصل ما يجري في لبنان عن تلك الأحداث المتسارعة في المنطقة العربية وخصوصًا المشرق العربي وبلاد الطوق المحيطة بفلسطين.
النفوذ الأجنبي في لبنان يتمحور أساسًا حول ضمان أمن دولة ” الإسرائيلي ” المحتل وتمرير مصالحه وغض النظر عن أطماعه ومشاريعه الهادفة إلى سيادته على المنطقة.
من هنا ننظر إلى ما يجري في لبنان على ضوء المشروع الصهيوني وأطماعه ومخاطره..وليس بمعزل عنه بحال من الأحوال.
وحينما يعلن رئيس ” حزب الله ” عن امتلاكه مئة ألف مقاتل ما يعني قوة عسكرية ضخمة؛ فيما حدود لبنان الجنوبية آمنة مطمئنة منذ خمسة عشر عامًا متواصلة؛ فهذا يعني أن هذه القوة ليست موجهة لمواجهة العدو الصهيوني بل هي موجهة للداخل اللبناني ومعه الداخل العربي.
وحينما يعلن أن الحزب يلتزم ” قواعد الإشتباك ” مع حكومة العدو فهذا يفيد صراحة لا مواربة بوجود تفاهم أمني يضبط قواعد الإشتباك بين الطرفين بما يجعلها مناوشات ودية كما حصل قبل عدة أسابيع..وهذا يطرح تساؤلات عن تلك القوة العسكرية التي يملكها الحزب وعن الأهداف الموكولة إليها راهنًا أو مستقبلاً..لبنانيًا وعربيًا.
أليس منطقيًا وموضوعيًا القول بعد هذا أن هذه القوة ليست لمحاربة العدو الذي يحتل فلسطين والقابع على حدود لبنان الجنوبية؛ وإنما هي لمحاربة قوى وفئات إجتماعية لبنانية وعربية بما يخدم التوجه الإستراتيجي الأساس لحزب الله كطليعة ميليشيوية مذهبية مقاتلة لصالح المشروع الإيراني وأطماعه في عموم المنطقة.
فقد بينت أحداث الخمس عشرة سنة المنصرمة طبيعة الأهداف الإيرانية في المنطقة والتي قاتل ويقاتل حزب الله دفاعًا عنها وفي خدمتها في لبنان وسورية.
وحينما يؤكد الحزب أنه لا يستهدف الوجود المسيحي لا في لبنان ولا في سورية بل ساهم في حمايته؛ يثور ذلك التساؤل الذي طالما تحدث عنه كثيرون من العارفين والمراقبين وأثبتته الوقائع الميدانية ومفاده أن الدور الأساسي للحزب كان تدمير أكبر عدد من المدن والقرى العربية وتهجير أهلها من ” السنة ” والسعي لتغيير ديمغرافي سكاني وثقافي وإجتماعي يؤدي – لو استمر – إلى تغيير هوية المنطقة التاريخية أي شطب عروبتها واستبدالها بولاءات مذهبية عنصرية شعوبية حاقدة كما هو حاصل في العراق وسورية ويحتمل حصوله في لبنان. فإلى أي مدى يتناغم هذا السلوك مع أهداف المشروع الصهيوني وأطماعه ؟؟
بالعودة إلى لبنان فإن محاولة إعادة فرز الولاءات على أساس طائفي ليس إلا محاولة جديدة لخلط الأوراق والتعمية على حقيقة المواقف المصيرية التي ترسم مصير لبنان والمنطقة للعقود المقبلة حيث الحرب على الوجود والهوية والوحدة المجتمعية قائم متسارع يتفعل كل يوم بألاعيب مخادعة وممارسات مشبوهة تفضي إليه تتشارك في صنعها أطراف كثيرة تأتمر جميعها بتعليمات قوى الإحتلال الأجنبية..وما لبنان ببعيد عما يراد ويجري وسط غياب تام لأي دور عربي إيجابي وغياب أية فعالية للأحزاب ” الوطنية ” بكل مسمياتها وخضوع الشارع للهم المعيشي المنهك.
إن جميع أطراف السلطة في لبنان ترتهن لقوى النفوذ الأجنبي والمصالح الأجنبية. فلا يعتد بأية طروحات لأي منها ولا أمل بإنقاذ تعد به مهما كانت قوتها. إن مواجهة تسيد ميليشيات حزب الله الموالية لإيران لا يمكن أن يكون عبر أطراف لبنانية مرتهنة لقوى النفوذ الأجنبي.
ما لم تقم حركة شعبية وطنية لبنانية مستقلة متحررة من الوصاية الأجنبية ومن الخلفيات الإنقسامية الطائفية والمذهبية فسوف يبقى لبنان سائرًا في خط الإندفاع نحو الهاوية وما أدراك ما الهاوية حيث السيادة الحقيقية للعدو الصهيوني بأدوات محلية.