“ما سيكون هو نفسه ما كان”، تلك حكمة وضعها مقاطعو الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق نصب أعينهم. وهي عبارة متشائمة تنطوي على قدر هائل من اليأس من إمكان التغيير بالطرق السلمية، أي من طريق الانتخابات. فلا يحتاج المرء اليوم بعد ظهور نتائج تلك الانتخابات إلى أن يكون عرافاً لكي يتنبأ بما سيجلبه المستقبل القريب من أحداث على صعيد تداول السلطة بين الأحزاب الحاكمة. فبعد الهدنة التي مثلها تعيين مصطفى الكاظمي رئيساً لحكومة تصريف الأعمال والتي أنقذت النظام السياسي من السقوط بتأثير مباشر من الاحتجاجات الشعبية يبدو النظام اليوم قد تعافى واستعاد قوته بما يؤهله لإدارة كل الملفات، ومن ضمنها ملف الاحتجاجات الشعبية المتوقعة بأسلوب استعلائي ستكون المقاعد القليلة التي حصل عليها عدد من ممثلي الاحتجاجات (في النجف والناصرية بشكل خاص) من خلاله كما لو أنها آخر تنازل يمكن أن يقدمه النظام استجابة للمطالب الشعبية التي أعلن عنها المحتجون في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019.
من المتوقع أن لا ينفرد طرف سياسي بتأليف الحكومة العراقية. ما حلم به الصدريون الذين نالوا الحصة الأكبر من مقاعد مجلس النواب لن يجد طريقه إلى الواقع. فالحكومة ستتألف من ممثلي الأحزاب نفسها إضافة إلى مراعاة وجود حصة للميليشيات التي خسر مرشحوها بطريقة مذلّة. بمعنى أن الرابحين والخاسرين سيكونون موجودين حول الطاولة نفسها. لكل واحد منهم استحقاقه المتفق عليه سلفاًً. اما الانتخابات فستذهب نتائجها إلى الأرشيف كما حدث مع نتائج انتخابات عام 2010. يومها فازت الكتلة التي ترأسها أياد علاوي بأكثر من تسعين مقعداً غير أن مؤامرة “الكتلة الأكبر” كانت في انتظارها تحت قبة مجلس النواب حين استطاع نوري المالكي أن يجدد ولايته من خلال عقد تحالفات مع أحزاب أخرى ليشكل الكتلة الأكبر التي أيدت المحكمة الاتحادية حقها في تعيين رئيس للحكومة. وكان المالكي هو ذلك الرئيس.
لا يحتاج الأمر إذاً إلى أكثر من عقد تحالف بين مجموعة من الكتل النيابية بغطاء شيعي – سني يلتحق به الحزبان الكرديان لأسباب نفعية فتكون الكتلة الصدرية الفائزة هي الأقل عدداً وبذلك تفقد الحق في تشكيل الحكومة المقبلة. وبالرغم من أن ممثلي الصدر صرحوا بأن كتلتهم لن تسقط ضحية للمؤامرة مثلما سقطت كتلة أياد علاوي فإن التضحية بالمالكي من أجل عيني الصدر تبدو غير ممكنة بالنسبة الى أطراف عديدة لا تجيد التعامل مع مزاج مقتدى الصدر بتحولاته الغامضة التي تربك الأصدقاء قبل الخصوم.
وليس صعباً على المرء المتابع أن يستنتج أن النظام نجح في الحفاظ على بنيته من الداخل بالرغم من أن النتائج لم ترضِ زعماء الميليشيات، وهم ليسوا دخلاء على النظام فحسب، بل وأيضاً يشكلون عائقاً أمام التسوية الأميركية – الإيرانية في مرحلة حرجة من مراحل الحوار بين الطرفين، لا في ما يتعلق بالملف النووي وحده، بل وأيضاً بملف مصير المنطقة. كان واضحاً أن فوز الصدريين لا يعد انتصاراً لطرف معارض. فالصدر هو واحد من أهم سدنة النظام السياسي القائم منذ عام 2003 كما أنه واحد من أهم رعاة الحرب الطائفية. أما علاقته بإيران فيمكن التعرف الى خلاصتها من خلال تفضيله قم على النجف محلاً للخلوة والدراسة والتأمل بعيداً من السياسة. كما أن مرجعه الديني الذي هو كاظم الحائري إيراني يقيم في قم برعاية الولي الفقيه.
ليست شعارات الوطنية العراقية مشكلة بالنسبة الى الصدر. في أية لحظة يمكنه أن يصرخ “أنا شيعي أولاً” كما فعلها قبله نوري المالكي الذي سلم الجزء الأكبر من الأراضي العراقية إلى التنظيم الإرهابي “داعش” وهو مطمئن إلى أن النظام الإيراني سيحميه من المساءلة والملاحقة والعقاب، بل وسيعيده رئيساً للحكومة في ولاية ثالثة. ذلك لن يحدث طبعاً فهو ينطوي على فكرة انتحارية. غير أن الصدر الذي يمكن أن ينقلب على شعاراته إرضاء لإيران لا يمكنه الوقوف في وجهها حين تقرر أن يكون رئيس الحكومة العراقية هذه المرة واحداً من أبنائها المخلصين الذين تثق بهم. لا أعتقد أن الصدر سيقف عائقاً دون قيام تلك الحكومة التي ستحفظ له نصيبه في المحاصصة. سيكون كما هو دائماً معارضاً لا تفقده معارضته شيئاً من امتيازاته.
صار مقتدى الصدر خبيراً بلعبة الحكم في العراق. لقد نجح في أن يضع الفساد والإصلاح في سلة واحدة. وهو إذ يستعمل لغة متعالية ومتغطرسة يحاول من خلالها أن يوهم مناصريه بأنه المنتصر الذي سيكون في إمكانه الإمساك بخيوط اللعبة كلها فإنه في الوقت نفسه يدرك جيداً أن انتصاره قد يرتد عليه بسبب دهاء خصومه وحنكتهم السياسية. ولكنه لا يملك سوى الاستمرار في إدارة ما أسميه بالظاهرة الصدرية التي هي ظاهرة غوغائية لا قيمة لها في مواجهة قدرة النظام السياسي على إعادة انتاج آليات عمله. وبما أن الصدر مطمئن إلى أن وجوده ضروري لاستمرار عمل تلك الآلة فإنه يعمل بكل ما يملك من قوة على تضليل جمهوره بأفكار طوباوية عن الإصلاح فيما يعمل المقربون منه على تعميق دولته السرية التي تقف في موازاة دولة نوري المالكي العميقة. لذلك فإن الحكومة المقبلة التي ستكون خياراً توافقياً بين عدوين هي مجرد واجهة أخرى لعراق سينتظر أربع سنوات أخرى من أجل التغيير.
المصدر: النهار العربي