إنها حكومة الحسابات الضيقة وإحراج الجميع في الاستحقاقات التي تواجهها، وفي كيفية مقاربتها ومعالجتها. وانفجار الحكومة، على خلفية تحقيقات انفجار المرفأ أمر متوقع. وهناك استحقاقات أخرى كثيرة قابلة لتفجيرها.
وحزب الله وحده غير مُحرجٍ، ويعلن مواقفه صراحة من انفجار المرفأ. ولديه المسوغات كلها لتبرير هجومه على القاضي طارق البيطار، وحمل الحكومة على اتخاذ القرار الذي يريده.
نصرالله يحرج عون
المُحرَج الأول هو رئيس الجمهورية، والثاني هو رئيس الحكومة. فعندما وجّه أمين عام حزب الله تساؤلات للقاضي البيطار: هل استمع لإفادة رئيس الجمهورية الذي أعلن استعداده للإدلاء بإفادته، من دون حاجته إلى رفع الحصانة عنه؟ كان نصرالله يشير ضمناً إلى عون. وهناك تصور يفيد أن رئيس الجمهورية يدعم البيطار إلى حدود بعيدة. وعندما وقع الخلاف في جلسة مجلس الوزراء يوم الثلاثاء 12 تشرين الجاري، قال عون: “لا يمكن للحكومة أن تتخذ قراراً بإقالة القاضي، لأن ذلك يعدّ تدخلاً في عمل السلطة القضائية، ويتعارض مع مبدأ فصل السلطات”.
ويُفسّر هذا الموقف بأن عون يدعم البيطار، ولكنه في المقابل يرفض إعطاء الإذن لملاحقة اللواء طوني صليبا المحسوب عليه. وهنا التناقض الأول والإحراج الأساسي.
أما الإحراج الثاني فسياسي، ويتعلق بعلاقة عون بحزب الله. فهناك تصور يعتبر أن جريمة المرفأ طالت بقوة المسيحيين، وهم يريدون التحقيق والحقيقة، فيما المسلمون لا يريدونها. وسير عون إلى جانب حزب الله يجعله محرجاً في بيئته. أما إذا عارض توجهات الحزب إياه، فتتعرض علاقته به لتداعيات سلبية.
وبناء عليه أصبحت الحكومة في وضع لا تحسد عليه. وعلى الرغم من سياسة التسويف والتأجيل والترقيع، تظل الحكومة مهددة في أي لحظة بشلّ عملها، أو لأن تكون أسيرة حسابات سياسية تختلف مع توجهاتها.
خصوم عون يعتبرون أن التحقيقات تستهدفهم، ويتهمونه بمحاولات التأثير على القضاء للإنتقام منهم وتطويقهم. والرئيس نبيه برّي يعتبر أن المسألة أصبحت شخصية وهدفها النيل منه. أما حزب الله، الحليف الوثيق لعون، فلا يمكنه القبول باستمرار البيطار، ولا بأي قاضٍ يعمل بالطريقة التي قد تؤدي إلى توقيف شخصيات شيعية قريبة منه.
حكومة “الضرب بالميت حرام”
وهنا تصبح الحكومة أمام خيار من اثنين: إما تسقط داخلياً، أو تستمر وتسقط خارجياً وفق كل المعايير التي قيل إنها تشكلت على أساسها. وسقوطها يعني العودة إلى سيناريو تطيير الانتخابات والدخول في أزمة حكم. أما استمرار الحكومة فيجعل ملف المرفأ وسواه متاريس في حسابات عون وباسيل للمرحلة المستقبلية، مروراً بالانتخابات النيابية وما بعدها للاتفاق على آلية تكوين السلطة، فيستخدمان كل الأوراق لتعزيز وضعهما.
ووسط هذه المعمعة يحاول الرئيس نجيب ميقاتي التهرب من المواجهة التي قد تؤدي إلى تطيير الحكومة مبكراً جداً. وهو لا يريد إغضاب عون ولا حزب الله، ولا السير بقرار يتنافى مع تطلعات القوى الدولية، لا سيما واشنطن وباريس اللتين تركزان على ضرورة استكمال التحقيقات في انفجار المرفأ. لذا، ليس أمام ميقاتي سوى اعتماد سياسة التسويف لتجنب الانفجار الكبير.
وثمة من يصف الحكومة بأنها “حكومة الضرب بالميت حرام”. ومن يتابع المواقف السياسية المحلية يستنتج أن الحكومة أصبحت في مكان آخر كلياً، بعد كلام نصرالله عن شروطه في تحقيقات المرفأ، وخطط الكهرباء والنفط، وصولاً إلى الخطط المالية والاقتصادية والتفاوض مع صندوق الدولي.
فحزب الله لم يعد يتوانى عن القول إن هناك تقصيراً فاضحاً في أداء الحكومة ومقاربتها للملفات. والرئيس نبيه برّي ينتقد طريقة إدارة عمل الحكومة، ومحاولات إعادة انتاج المحاصصة في التعيينات، ويشكك بوجود اتفاق ضمني لتمرير التعيينات المسيحية لمصلحة جبران باسيل رويداً رويداً.
سنياً، ارتكب وزير الداخلية المحسوب على ميقاتي مجموعة أخطاء قاتلة: أولها زيارته باسيل أكثر من مرة. وثانيتها إعلانه عن هذه الزيارات. وهذا ارتداده السلبي كبير داخل البيئة السنية. وكانت أولى الإشارات مواقف مسؤولين في تيار المستقبل، وزيارة الرئيس فؤاد السنيورة إلى الرئيس نبيه بري.
حكومة الحسابات الضيقة
على المستوى الدولي والإقليمي، من الواضح أن أبواب دول الخليج مقفلة أمام حكومة ميقاتي. وعلى الرغم من زيارة ميقاتي إلى الأردن ولقائه الملك عبد الله، محاولاً تجميل وجه الحكومة، التي لا يبدو أن لها أحداً غير وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان.
أما اللقاء بين ماكرون وميقاتي فلم يكن لقاء دعم، قدر ما كان لوضع النقاط على الحروف حول ما يجب أن تقوم به الحكومة على مستوى الكهرباء. وطلب ميقاتي من ماكرون فتح باب الخليج، فوعده بالمحاولة لا بالقدرة على فتحه.
وعلى مستوى صندوق النقد الذي يريد تحميل المصارف جزءاً من الخسائر، يجد ميقاتي نفسه مربكاً بسبب ارتباطاته المصرفية ومع حاكم مصرف لبنان. أما الانتخابات النيابية فقد جاء قرار إجرائها على لسان نصرالله. أي لا فضل للحكومة في إجرائها سوى على صعيد الأمور اللوجستية.
وهذا يعني أن حكومة اللحظة الفرنسية-الإيرانية كانت متقاطعة مع حسابات داخلية ضيقة. ويبدو أن الأزمة في لبنان ليست أزمة حكومة، قدر ما هي أزمة حكم وإعادة تكوين السلطة، وأزمة سياسية بارتباطات إقليمية ودولية تتعلق بمسار المفاوضات الإيرانية-الأميركية. وتصعيد نصرالله في خطابه الأخير ضد السعودية والوهابية مجدداً، يؤكد ذلك. ويندرج في هذا السياق موقف حزب الله وحلفائه من تحقيقات المرفأ، وهو تصعيد بعيد المدى على مشارف إعادة إحياء المفاوضات الإيرانية-الأميركية.
المصدر: المدن