يؤكد دارسو التاريخ السياسي العراقي الحديث أن القابض على السلطة في العراق كالقابض على الجمر، نتيجة المزاج الشعبي المتغير على الدوام، والمصالح المتحركة في أوقات الشدة.
ففي الوقت الذي انتشر فيه الخبر الصاعق للقوى الخاسرة في الانتخابات الخامسة، أشاعت القوى الخاسرة حملة تسقيط شديدة لطرفين مستهدفين، المفوضية المستقلة للانتخابات، والفائز باكتساح الأصوات وهو التيار الصدري.
حملة تسقيط وتشكيك غير مسبوقة
وشهد إعلان النتائج الأولية حملة مضللة غير مسبوقة من الاتهامات للمفوضية بأنها شريكة بالتزوير مع الطرف الرابح، بل وذهب الولائيون إلى التهديد العلني لأعضاء المفوضية من قوى سياسية وعشائرية نافذة وجدت نفسها خارج قبة البرلمان، بعد أن أنفقت أموالاً طائلة على الترشح وصلت إلى حد التظاهر بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وجراء حملة التصعيد باستخدام السلاح من قبل الولائيين المسلحين والمنتشرين في عموم البلاد، اضطر الموقع الإلكتروني التابع لمفوضية الانتخابات إلى حذف جميع النتائج الأولية، واللجوء إلى الفرز اليدوي لعدد غير قليل من الصناديق قدرت بنحو ستة في المئة من مجموع الأوراق الانتخابية.
الكاظمي يمهد للتحالف مع الصدريين
من جهته، لم يحتاج رئيس الحكومة المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي جهداً كبيراً أو تحفظاً على التأييد والمساندة للصدريين الذين ساندوه في الوصول إلى رئاسة الحكومة، وهو يعلن أن مقتدى الصدر (سيد المقاومة وعلى عناد الجميع). ونفى وقتها أن يكون مقتدى قد سيطر على الحكومة التي يتولاها الكاظمي حتى الآن، ووصفه بأنه اتهام باطل ومحض أكاذيب تروج، فلم يفرض الصدر وزيراً على حكومته.
بهذا الانطباع فسر مراقبون عراقيون بأن مصطفى الكاظمي يمهد الأرض لولاية جديدة، بعد أن خاض معارك مع خصوم مقتدى الصدر من الولائيين الذين استقدموا قائد فيلق القدس إسماعيل قآني إلى بغداد بعيد الانتخابات لمعاونتهم على تنصيب سياسي موال من قبلهم أو مساند لهم، وهو نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، الذي يجاهر بإعلان رغبته في تولي إدارة الحكم مرة ثالثة وسط عاصفة من الممانعات العراقية التي يتقدمها اعتراض الصدريين الذين بينه وبينهم ما صنع الحداد، وهم اليوم في الكفة الراجحة بعد حصولهم على (73) مقعداً، بينما حصد المالكي وائتلافه 37 مقعداً نيابياً، وفقد حلفاؤه الولائيون في قائمة الفتح التي يترأسها هادي العامري عشرات الأصوات، ليقفوا على حصيلة 16 صوتاً لا تؤهلهم لإدارة البلاد، ولا بالتكليف الدستوري لتشكيل الحكومة.
الولائيون يلوحون بشن مجابهات لخسارتهم
لكن الفصائل الولائية شككت في نتائج الانتخابات وأصدرت بياناً بذلك على لسان القائد الولائي البارز ورئيس حركة حقوق في كتائب حزب الله حسين مؤنس المكنى بأبي علي العسكري، الذي وصف الانتخابات بأنها “أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي والتاريخ الحديث، التي لا تقل سوءاً عن الاستفتاءات التي أجراها النظام السابق المقبور، وأننا سنقف بكل حزم وإصرار لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح”.
بل لوح أبو علي العسكري بالمجابهة المسلحة “على الأخوة في المقاومة الاستعداد لمرحلة حساسة تحتاج منا إلى الحكمة والمراقبة الدقيقة، وأن الإخوة في الحشد هم المستهدفون الأساسيون، وقد دفع عربون ذبحهم إلى من يريد مقاعد في مجلس النواب، وعليهم أن يحزموا أمرهم وأن يستعدوا للدفاع عن كيانهم المقدس، وأن الإخوة المشاركين في الانتخابات وأخص بالذكر منهم تحالف الفتح وبقيادته الشجاعة والحكيمة، وتحالف قوى الدولة وسيدهم الحكيم، والإخوة في العهد الوطني وحركة حقوق ورئيسها حسين مؤنس، وبقية الأخوة المخلصين الذين شرفت جهودهم، أقول تيقنوا لن يضيع حق وراءه مطالب، فلا تكلوا ولا تملوا ولا تهاونوا وسيكون الظفر حليفكم”.
ويقول أحمد ملا طلال وهو إعلامي شيعي بارز، “لو كنت أمتلك القرار الشيعي لقبلت بالنتائج حتى وإن كانت مؤامرة كما يظن البعض، وخرجت بحل توافقي يجنبنا اقتتالاً شيعياً – شيعياً، وهو أن يقدم محور المقاومة نوري المالكي رئيساً للوزراء، وأن يقبل الصدر ذلك بشروطه”.
كما أن المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الإيرانية حسين جابر أنصاري سجل اعتراضه على عنوان غرفة إيرانية تضم دبلوماسيين إيرانيين في “كلوب هاوس” بعنوان (ولادة عراق الصدر)، واعتبر أن مقاطعة نتائج الانتخابات واجبة.
المفوضية: سنحتكم إلى القضاء تجاه المهددين
لكن إدارة المفوضية أعلنت من جهتها رفضها تهديد موظفيها والتشكيك في نزاهتها من قبل بعض الخاسرين، وأعلنت معاون متحدث المفوضية المستقلة نبراس أبو سودة “أن التهديدات الموجهة مرفوضة وغير مقبولة ومخالفة للقانون الذي سيحاسب من أطلقها”، داعية المعترضين على النتائج إلى تقديم الطعن قانونياً وعدم اللجوء إلى التهديد.
وكشفت أبو سودة “أن المفوضية العليا تلقت 120 شكوى في يوم الانتخابات واليوم الذي بعده، وكانت جميعها تصنف خضراء وصفراء، ولم ترتق للشكاوى الحمراء ولا يوجد أي مبرر لتهديد مؤسسات الدولة العراقية”.
الصدريون بثقة: لا تتعبوا أنفسكم
لكن الصدريين الذين ضمنوا إلى حد كبير فوزهم بحصولهم على أكثر من 70 مقعداً وتأهلهم للتكليف بتشكيل الحكومة جاء ردهم على لسان القيادي في التيار الصدري جليل النوري برسالة مقتضبة، “لا تتعبوا أنفسكم ولا تضيعوا وقتكم بانتظار رسائل الخارج، وبالأمر حسم، والصدر ليس علاوي”.
وأشار جليل إلى انتخابات العام 2010 حين أُجبر الدكتور إياد علاوي زعيم القائمة الوطنية على التنازل أمام ضغوط الولائيين الذين يقودهم عرابهم نوري المالكي التي تولى رئاسة الحكومة، تحت ذريعة الكتلة الأكبر التي أبطلت في ما بعد بقرار دستوري يمنع انتقال النواب لحين تكليف الحاصل على أعلى الأصوات، وهنا في هذه الانتخابات يلزم رئيس الجمهورية المنتخب بعد الجلسة الأولى للبرلمان بأكثر من 165 صوتاً الذي يشكل نصف الأعضاء زائد واحد، أن يكلف الصدريين الحاصلين على أعلى الأصوات بتشكيل الحكومة.
انقسام شيعي ورضا أطراف منافسة
الإشكال المهم يكمن لدى النواب الشيعة وليس لدى الآخرين، فهم يوجهون خلال الممارسات الانتخابية من المرجعية وأطراف أخرى في مقدمها إيران بالتمحور في ائتلاف شيعي يمثل الأكثرية النيابية، الذي بدأ بالتناقص في هذه الانتخابات نتيجة المشاركة الواسعة للسنّة والأكراد والأقليات، لكنهم ما زالوا يتصدرون الأغلبية العددية من دون الأغلبية البرلمانية الكلية.
وهذا أضحى ورقة يلوح بها الخاسرون من الأعضاء الشيعة في المجموعة الولائية التي تعلن رغبتها أن يقود الائتلاف لدورة ثالثة نوري المالكي، الذي تحول بيته في المنطقة الخضراء، وهو أحد قصور صدام، إلى مركز معارضة لنتائج الانتخابات، وهو يواجه خصومه مقتدى الصدر والمرجعية على حد سواء، التي يحسب لها ألف حساب في حال تطورها لمجابهة عسكرية.
كذلك يواجه ممانعة من كثير من الأطراف السنيّة التي تتهمه دوماً بضياع الموصل وتمكين “داعش” من السيطرة على مناطقهم، بل وينتقدون النبرة الطائفية التي أطرت حياته السياسية بعبارة “ما ننطيها” التي أكد فيها تفرد الطائفة في الحكم، حين أشهرها بوجه شركائه في الدولة والبرلمان تحديداً، مما أكسبه عداوة ورفضاً مرجحاً، إضافة إلى الخسائر الهائلة في المشاريع الوهمية التي حدثت إبان تشكيله حكومتين متعاقبتين أهدرت كثيراً من المال العام وبددت الموازنات، مما جعل مناطق الوسط والجنوب في الدرك الأسفل مدنياً وحضارياً، وخلفت الآلاف من ملفات النزاهة المؤجلة إلى الحكومات المقبلة.
احتمالات الصدام المفتوحة
ويجمع كثير من المراقبين أن الصراع المقبل في العراق بعيد الانتخابات سيصل إلى مرحلة غير مسبوقة لم تشهدها البلاد من قبل، نتيجة كونه صراعاً لقوى تمتلك أسلحة وفصائل مسلحة تخرج عن منظومة وزارة الدفاع أو سيطرة القائد العام للقوات المسلحة، وهذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ضعف الحكومة الحالية وعدم قدرتها على السيطرة على المسلحين خارج مشجب الدولة يرجح تغولها.
ويأتي انسحاب القوات الأميركية الوشيك ليزيد الطين بلة، إذ سيمكن أطرافاً إقليمية من التوغل في الأراضي العراقية واقتسام النفوذ بين تركيا في الشمال التي أنشأت عشرات القواعد العسكرية حول ولاية الموصل، كما تصفها، وإيران التي تسيطر على السليمانية في الشمال وتغلغلها المذهبي والطائفي والولائي في المناطق الوسطى والجنوبية، وتحكمها بأغلب المفاصل الاقتصادية، بل بعموم الدورة الاقتصادية في البلاد، مما يشعر كثيرين بالضيق والسؤال الدائم: هل نحن مستقلون حقاً؟ مع تحديات كثيرة في تشتت القرار السياسي والاقتصادي والتشرذم المجتمعي، والهجرة المستمرة للكفاءات مما ولّد وضعاً أقل ما يقال عنه أنه كارثي.
وهناك من يحذر من القوى الولائية بخطورة تعرض مقتدى الصدر إلى الاغتيال، وإلى ما سيؤدي إليه ذلك من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، كما يجاهر بعض الشيعة الولائيين الذين يسوغون في تحليلاتهم ضرورة إبقاء الحكومة وأجهزتها الأمنية بأيديهم، لا سيما وزارة الداخلية التي تحوي أكثر من 20 ألفاً من قوات “الدمج” بين ألوية وزارة الداخلية العراقية.
وهؤلاء “الدمج” مقاتلون في الصف الإيراني في الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980 – 1988)، والذين تم استقدامهم بعد سقوط النظام واحتلال العراق عام 2003 ومنحهم مناصب أمنية خطرة، ويحذرون من صدام كبير قد يقوض حكم الشيعة وانقسامهم في العراق، ومن خلال حملات منظمة غير مسبوقة.
المصدر: اندبندنت عربية