في واقعية تفاهم سعودي – إيراني وآفاقه

عبد الباسط سيدا

ليس واضحاً بعد ما إذا كان صنّاع القرار ضمن النظام الإيراني قد وصلوا إلى قناعة راسخة بصعوبة الاستمرار في النهج الذي اعتمدوه على مدى أكثر من أربعين عاماً؛ وهو نهج تصدير “الثورة” عبر استغلال “المظلوميات الشيعية” واستخدامها في المجتمعات المحيطة، بغية خلخلتها والتغلغل فيها. وهو نهجٌ أدّى، في نهاية المطاف، إلى تململ واضح بين الشيعة أنفسهم، ورفض صريح منهم بالذات في العراق نتيجة تفاقم قسوة الأوضاع المعيشية المأساوية، وفقدان الأمان والاستقرار؛ وذلك في ظل الدولة العراقية الهشّة التي تعاني من التدخلات الميدانية والسياسية الخارجية، لا سيما الإيرانية منها. كما تواجه الدولة المعنية ضغوطاً شعبية، بفعل العجز عن تلبية الحد الأدنى من الخدمات والمستلزمات الضرورية للعيش الكريم. وتتمثل أسباب هذا العجز، بصورة خاصة، في الفساد الأسطوري الذي يلتهم القسط الأكبر من الموارد المالية الضخمة التي يوفرها الإنتاج النفطي الهائل.

مع ذلك، يبدو أن مستوى اللقاءات الإيرانية – السعودية قد بلغ درجة متقدّمةً، وصلت إلى حد إعلان العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، بنفسه عن رغبته في بلوغ تلك اللقاءات والاتصالات نتائج ملموسة؛ وذلك في خطابه أخيرا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبناء على الترحيب الإيراني بالموقف السعودي الذي جاء على لسان المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده الذي أكد بلوغ المحادثات مراحل متقدمة. وما يسبغ أهميةً خاصة على أي تفاهم سعودي – إيراني هو الدور المنتظر له، في حال حدوثه، في التخفيف من حدّة التوتر المذهبي الشيعي – السني الذي أنهك مجتمعات المنطقة، وبدّد إمكاناتها، وحال دون التركيز على المسائل المحورية الأساسية التي من شأنها ضمان الأمن والاستقرار والازدهار لصالح الجميع.

ما يُنتظر من هذه اللقاءات أن تساهم في تمهيد الأرضية لفتح الآفاق أمام علاقاتٍ متوازنةٍ بين دولها؛ وذلك بعد مرحلة اضطراب كبرى اتّسمت بصورة خاصة باعتماد الجانب الإيراني على المليشيات المحلية والوافدة في عملية التمدّد في مجتمعات الجوار، فقد كانت تلك المليشيات، وما زالت، تُستخدم لتنفيذ المهمات القتالية، وتوجيه الرسائل. وقد أثبتت هذه السياسة التي بدأ النظام الإيراني بها في المنطقة منذ عقود فشلها على المدى الطويل، على الرغم من الاختراقات الميدانية، والتأثير الإيراني المباشر على عملية اتخاذ القرار في دول عديدة في المنطقة.

والدور العراقي في الدفع نحو تشجيع اللقاءات السعودية الإيرانية وترتيبها لافت، مبني على حاجة العراق نفسه إلى تفاهم سعودي إيراني بشأن صيغة من الاستقرار في المنطقة، وهو دور ما كان له أن ينجح، لولا جهود أعضاء مجموعة الحكم العراقية الحالية؛ فهؤلاء قد بذلوا، ويبذلون، جهوداً مضنية حثيثة في ميدان البحث عن المشتركات للبناء عليها. وقد كان مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي دعا إليه رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، وانعقد في أواخر أغسطس/ آب الماضي، مقدّمة واعدة لحوار مطلوب بين دول الإقليم. كما أن الاجتماع الذي دعا إليه وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، في نيويورك، وجمع بين أطراف مؤتمر بغداد من أجل متابعة الجهود الحوارية التوفيقية، يؤكد استمرارية التوجه العراقي في مساعيه التصالحية. هذا بالإضافة إلى اللقاءات التركية الإماراتية، والتركية المصرية، والقطرية الإماراتية؛ والمصرية القطرية، وكذا الجهود المصرية مع إسرائيل لتخفيف التوتر في قطاع غزة؛ فكل هذه التطورات تؤكد أن الحل الأنسب هو الحوار بين دول المنطقة، عوضاً عن سياسة تصفية الخلافات عبر الوكلاء، وتوجيه الرسائل عن طريق المليشيات والقوى غير المنضبطة، وهي الاستراتيجية التي اعتمدتها إيران بصورة خاصة، ولم تؤدّ سوى إلى التدمير والقتل والتهجير وعدم الاستقرار.

التنوع الديني والمذهبي والقومي سمةٌ أساسيةُ من سمات مجتمعات منطقتنا، لا سيما في سورية والعراق ولبنان وتركيا وإيران. ولكن الأنظمة السياسية اعتمدت أسلوب فرض أيديولوجيات اللون الواحد على الجميع، سواء القومية منها أم الدينية. وعمَدت إلى قمع الخصوصيات التي وجدت فيها خطراً على مزاعمها الأيديولوجية، وتهميش هذه الخصوصيات؛ فكانت الصراعات والحروب وسياسات الاضطهاد التي استنزفت الطاقات والموارد، وفتحت المجال أمام التدخلات الخارجية في شؤون هذه الدولة أو تلك من دول المنطقة.

وهذا الواقع مرشّح للاستمرار، بل لمزيد من التداعيات، في حال إصرار المسؤولين الإيرانيين على فرض توجهاتهم، ومتابعة خططهم التوسعية المستلهمة من ماضٍ لم يعد موجوداً، وهي تتناقض مع واقعٍ جديد، لا يستوعبه أصحاب تلك الخطط، أو أنهم يتجاهلونه لأسبابهم الخاصة، فللأجيال الشابة في المنطقة طموحاتها وتطلعاتها المشروعة، فهي تطالب بالتعليم الجيد الذي يرتقي إلى مستوى معارف العصر وتحدّياته؛ كما تطالب بفرص العمل التي تتناسب مع مستويات التحصيل العلمي، وتلحّ على الخدمات والرعاية الصحية، وتشدّد على حرية التعبير وحق المشاركة في الإدارة. ولا تقتصر هذه المطالب على مجتمعات بعينها، بل هي سمةٌ إنسانية عامة تتشارك فيها سائر المجتمعات، لكنها تأخذ طابعاً خاصاً بالنسبة إلى مجتمعاتنا التي عانت كثيراً من الاضطرابات والضغوط والحرمان.

لقد مرت عقود طويلة حاولت خلالها الأنظمة الحاكمة في دول المنطقة الاحتفاظ بالسلطة وبأي ثمن، وفرضت على مجتمعاتها أيديولوجياتٍ أثبتت الوقائع عجزها عن فتح الآفاق أمامها، لتحظى بمكانةٍ مرموقةٍ ضمن المجتمع الدولي، تتناسب مع حجم مواردها الطبيعية والبشرية وخبرات أهلها. ونتيجة تلك السياسات الخاطئة، تعرّضت منطقتنا لهزّاتٍ عميقة، وصراعات إثنية ومذهبية؛ وكانت هناك باستمرار خلافات داخلية عميقة بين أجنحة الحكم على السلطة، وغالباً ما كانت الانقلابات العسكرية السمة الغالبة لعملية تصفية الحسابات بين تلك الأجنحة.

والطريف أن تلك الانقلابات كانت تُسوّق باستمرار تحت عناوين ثوروية ما زالت مجتمعاتنا تدفع ضريبتها، وقد تمثلت حصيلتها في عمليات تسطيح العقول التي تمّت في ظل حكم الانقلابيين هنا وهناك، هؤلاء الذين فرضوا أحكام الطوارئ على المجتمعات، وتحكّموا بموارد البلاد، وعطّلوا كل إمكانية للمساءلة والمحاسبة.

تحتاج منطقتنا إلى الاستقرار واستتباب الأمن، وهي تمتلك الموارد والطاقات والخبرات الكافية لضمان تنميةٍ مستدامة، توفر المقدّمات لعيش كريم لجميع سكانها ومستقبلاً واعداً للأجيال المقبلة. وهذا لن يتحقّق من دون القطع مع سياسات استخدام النعرات والعصبيات والحساسيات المذهبية والإثنية، وسياسات استخدام العنف لحل الخلافات، والتركيز، في المقابل، على الحوارات والتفاهمات، ومشاريع التعاون المشترك.

الجهود العراقية المبذولة من أجل إحداث اختراقات، ولو متواضعة، في العلاقات الإقليمية خطوات صحيحة في طريق صحيح. ولكن السؤال هو: ما مدى إمكانية استمرارية هذه الخطوات وحدودها بعد الانتخابات البرلمانية التي سيشهدها العراق بعد أيام؟ ويمكن صياغة هذا التساؤل بشكل آخر: هل ستساعد المراجعات الجادّة للسياسات المعتمدة في منطقتنا أو الخاصة بها، سواء من دولها، أم من الدول الكبرى من خارجها، على توفير أجواء مناسبة يتمكّن في ظلها العراقيون من اختيار ممثليهم الذين يتوسّمون فيهم الخير، ويأملون أن يساهموا في إخراج العراق من دائرة العنف والفساد والتدخلات الخارجية، ويسعون من أجل إطلاق حوارات وطنية معمقة مفيدة بين المكونات المجتمعية والسياسية العراقية، ليتمكّن العراق من تأدية دوره المطلوب على صعيد تفعيل التواصل والتمازج الحضاريين بين شعوب المنطقة ودولها، لتتعاون من أجل الاستثمار في الميادين المعرفية البحثية والتقنية والاقتصادية والصحية، وذلك كله بهدف ضمان مستقبل أفضل زاهر للأجيال المقبلة؟.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى