«كرونولوجيا» اللاجئين واللجوء

 عبد الباسط حمودة

ظاهرة اللجوء قديمة قدم الإنسان؛ هذه الظاهرة التي رافقت تطورات الحياة البشرية على وجه البسيطة، ولكلِّ حالةٍ لجوء ظروفها ومخاطرها ورواياتها بهذا الشأن إضافة لأزماتها، ولكن الحالة السورية ليس لها مثيل إطلاقاً من حيث الإرهاب والحيف والتواطؤ العربي والدولي مع القتلة والمجرمين ممن ترعرعوا بشكل ممنهج بيد سلطةٍ مغتصبة، ووظيفية لكل حماتها من الصهاينة ودول الغرب والشرق خاصة أميركا راعيتهم جميعاً، دفعت هذه الحالة بثلث الشعب السوري للنزوح داخلياً وبأكثر من نصفه للهرب ومغادرة وطنه لدول الجوار ومن ثم إلى أوربا وكندا وأميركا وأستراليا، وكان العدد الأكبر للاجئين السوريين من نصيب تركيا بوصفها الجارة الأكبر والأقرب لقلوب السوريين.

اللجوء اصطلاحاً يُعرف بأنه الصفة القانونية التي تمنح الحماية لفردٍ غادر وطنه الأصلي، للإقامة في بلد آخر خشية اضطهادٍ أو تنكيلٍ أو قتلٍ لأيِ سببٍ كان، واللجوء يمكن أن يكون سياسياً بسبب اضطهاد سياسي لنظام حكم، أو يكون دينياً بسبب اضطهاد لأسباب دينية، أو بسبب حروب ونزاعات إثنية أو عرقية، ويمكن أن يكون لجوءاً إنسانياً بسبب الإرهاب الممنهج لسلطة نظام حكم وميليشياته ومرتزقته كما في حالتنا السورية الفريدة الشاملة لمجمل أسباب اللجوء.

لا بد من الإشارة هنا إلى الخلط الحاصل عادة بين مصطلحي (اللاجئين) و(النازحين)؛ فالأول ينصرف إلى الذين هجروا بلدهم  لبلدٍ آخر، والثاني؛ أي (النازحين) فهم الذين انتقلوا داخلياً في بلدهم من منطقةٍ إلى أخرى.

وقانونيا تم التنصيص على منح “حق اللجوء” ضمن بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، قبل أن تتولى معاهدة جنيف ثلاث سنوات بعده، تفصيل مقتضيات هذا الحق وحيثيات صفة اللاجئ، التي دخلت حيز التنفيذ في 22 نيسان/أبريل 1954، ومن بين ما جاء فيها التفصيل في مختلف أنواع اللجوء والأشخاص المشمولين بها، حيث استثنت منهم المتابعات المترتبة على جرائم الحق العام، ويسجل هنا قصور هذه المعاهدة عن تغطية مختلف أشكال اللجوء، إذ ظهرت أصناف جديدة منه في العقود الأخيرة؛ منها “اللجوء الاقتصادي” الذي ارتبط بظاهرة “الهجرة غير النظامية لأسباب اقتصادية”، وكذلك “اللجوء المناخي” ذي الصلة بالتغيرات المناخية على كوكب الأرض، فثمة مناطق عديدة في العالم لم تعد صالحة للعيش جراء ارتفاع منسوب البحار والمحيطات أو معدلات درجات الحرارة وانتشار الجفاف، لكن وحتى اللحظة لا تعترف التشريعات الدولية بهذه الأصناف بدعوى شمولية مفهوم “اللجوء الإنساني”.

 وقد أمكن التكلم “أول مليون” في تاريخ البشرية من اللاجئين الأوربيين بين بلدانهم الأوربية ثم “ملايين” اللاجئين إثر الحروب الدينية والتطهير الديني والعرقي التي شهدتها أوروبا زمن الملوك الكاثوليك في القرن السادس عشر خاصة ضد العرب المسلمين في إسبانيا والتي تُوجت عملياً بطرد من بقي من مسلمي إسبانيا على قيد الحياة في عام 1492بعد محاكم التفتيش والتطهير الديني، وبلغت أوجها مع اضطهاد البروتستانتيين جراء إلغاء مرسوم “نانت” الذي كان يسمح بحرية المعتقد الديني عام 1658، وتباعاً توالت موجات اللجوء فخلال وبعد اندلاع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر كانت سبباً لهجرة ما يفوق 150 ألف فرنسي “نحو 6 في المائة من السكان حينها” إلى بلدان الجوار، ثم تلتها موجة جديدة خصوصاً في أوروبا الوسطى والبلقان مع ثورات منتصف القرن التاسع عشر “ثورات 1848” التي آلت معظمها إلى الفشل وما أردفها، ما حرك مئات الألوف من المسلمين كلاجئين إلى القسطنطينية، ودفع في الطرف الآخر بالمسيحيين من رعايا السلطان إلى الدول المجاورة.

وبحلول القرن العشرين تحولت ظاهرة اللجوء إلى فاجعة كونية كبرى يعد ضحاياها بعشرات الملايين، فالأرقام تؤكد أن الحقبة ما بين 1917 و1947 عرفت تغيير ما يفوق على 27 مليون إنسان لبلد إقامته، بعدها انتشرت الظاهرة في الأركان الأربعة للأرض، فحصاد الحرب العالمية الثانية قدر بنحو 18 مليون لاجئ، والصراع الهندي الباكستاني بلغ رقم 14 مليون لاجئ على حدود الدولتين، وثورة إيران شردت مليوني لاجئ إيراني عبر العالم، والحرب الأهلية الإسبانية خلفت 300 ألف لاجئ؛ وقبل كل ذلك ارتبط اللجوء والنزوح معاً بالفلسطينيين منذ عام 1948 وهلم جرًا، قبل أن ينتشر في بلاد الشام كلها وبالأخص لبنان وسورية ومن ثم العراق وليبيا والجزائر والسودان واليمن جراء الثورة العربية عام 2011؛ أما القارة السمراء فكان لها حظ احتلال الصدارة من حيث عدد اللاجئين هرباً من الحروب الإثنية والعرقية طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي.

إنها أزمة متجددة. فبداية الألفية الثالثة، وتحديداً في 4 من كانون الأول/ديسمبر عام 2000 تبنت منظمة الأمم المتحدة القرار رقم 55/76، وأقرت بموجبه يوم 20 حزيران/يونيو من كل عام يوماً عالمياً للاجئين، وتبقى التقارير الصادرة عن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة صادمة، فسنة بعد أختها تتصاعد الأرقام وتتزايد الأعداد بشكلٍ مذهل.

الأدهى والأمر أن البلدان العربية والإسلامية تأتي على رأس قائمة مصدر اللاجئين، وفي رقم دال غني عن كل تعليق تقول المفوضية “إن شخصاً واحداً على مستوى العالم من بين كل 122 شخصاً إما لاجئاً أو نازحاً داخلياً أو طالب لجوء”.

وبلغة التوطين على الخريطة تشير المفوضية إلى سورية، العراق، اليمن، ليبيا، مالي، جنوب السودان، شمال مالي، ساحل العاج، إفريقيا الوسطى، الكونغو، أوكرانيا، بورما، أفغانستان، وباكستان. وتبقى شعوب “سورية، أفغانستان، والصومال” في طليعة الجماعات الأكثر تضرراً. وهذا السرد للتحولات التي عرفتها جغرافية اللجوء عبر التاريخ يرمي إلى خلاصتين أساسيتين:

الأولى متصلة بحركة اللجوء وما يتبعها، لأن لاجئو أوربا  في أغلب الأوقات هم لاجئون مؤقتون، بينما يتحول لاجئو إفريقيا وآسيا إلى لاجئين مزمنين أو مشروع مواطنين تراهن عليهم الدول الأوروبية باعتماد مقاربة إدماجية كحل جزئي لمشكلات شيخوخة الهرم السكاني والشغل في بعض قطاعاتهم.

والثانية متعلقة بالتغيرات النوعية التي ستلحق بالتركيبة السكانية لبعض الدول الأوروبية على المدى المتوسط في ظل سياسات تحديد النسل واتساع دوائر مناهضي فكرة الأسرة، ما يعني أننا على موعد مع خريطة جديدة لتوزع الأعراق البشرية في السنوات والعقود المقبلة.

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى