بين هادي العامري ومقتدى الصدر تمتد دروب المتاهة العراقية التي ستكشف الانتخابات التشريعية المقبلة “بعد أيام” عن خرائطها السياسية الجديدة، التي توحي بأنها ستكون مفصلية بسبب علاقتها بالاحتجاجات الشبابية التي شهدها العراق قبل سنتين “تشرين 2019”.
العامري هو رجل إيران المعلن، أما الصدر فإنه رجلها الخفي. وهناك فرق مظهري آخر بين الرجلين، يكمن في أن الأول يستند الى تاريخه (الجهادي)، بدءاً من مشاركته في الحرب على العراق، باعتباره أحد مقاتلي الحرس الثوري الإيراني في ثمانينات القرن العشرين، وانتهاءً بقيادته فصائل من الحشد الشعبي في الحرب المفتوحة على التنظيم الإرهابي “داعش”. أما الثاني فإنه يستمد سطوته على ملايين البسطاء والفقراء من سمعة دينية مشكوك فيها، وقد تكون ملفقة ورثها عن أبيه الذي سبق له أن أطلق مفهوم الحوزة الناطقة، بعدما رفضت الحوزة الدينية في النجف التعامل معه أو الاعتراف بشهادته.
بين عمامة الصدر وبندقية العامري، سيكون على العراقيين أن يتجرعوا سم واحد من الخيارين: دولة دينية بغطاء مسلح، أو لغم مزوّق بالأدعية والفتاوى الدينية. غير أن سمعة العامري الذي اشتهر يوم كان وزيراً للنقل بحادثة إعادة طائرة طيران الشرق الأوسط إلى بيروت، لأنها لم تقل ولده الذي تأخر عن الطائرة، ليست أكثر سوءاً من جهة ارتباطه بجرائم القتل والخطف التي تعرض لها شباب الاحتجاجات من سمعة مقتدى الصدر الذي تصدّت ميليشياته للمحتجين في غير موقع، وبأكثر من مناسبة، ويُعتقد أن الصدريين كان لهم النصيب الأكثر في القتل.
ولكن العلاقة بين الرجلين التي يمكن أن تكون أساساً لقيام تحالف يقضي على كل آمال العراقيين بالتغيير، تستمد قوتها من كراهية مشتركة يضمرانها للزعامات الشيعية الأخرى، وخصوصاً لنوري المالكي الذي سبق له أن كان رئيساً للوزراء بين عامي 2006 و2014.
يكره الصدر المالكي، لأن الأخير لا يرى فيه إلا شخصاً متخلّفاً عقلياً ينبغي استبعاده عن الحياة السياسية، وهو ما دفعه إلى شن حربين على “جيش المهدي” التابع للصدر في البصرة وبغداد، أما العامري فيكره المالكي بسبب تنافسهما على موقع الصدارة لدى إيران. فإذا كان العامري إيراني الجنسية والمعتقد، فإن هناك مَن يعتقد أن حظوة المالكي لدى الإيرانيين إنما ترتبط بمليارات الدولارات التي ضخها في الاقتصاد الإيراني، ضارباً عرض الحائط بحدود العقوبات الأميركية.
غير أن ما لا يصدقه الاثنان أن المالكي صار ورقة محترقة. لم يعد الرجل الذي وقّع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة عام 2008 مهماً لطرفي التسوية الأميركية ــ الإيرانية. كما أن حظوته لدى إيران تقلصت إلى حدود الاكتفاء بحمايته من رفع الحصانة ومواجهة المحاكم العراقية بتهمة الفساد. ما يخشاه الاثنان أن يتمكن المالكي من خلال الدولة السرية التي لا يزال يديرها من الزج بمرشحين بعناوين مستقلة يعود فوزهم في النهاية إليه. لطالما ندد الصدر والعامري بالفساد الذي تعاني منه الدولة العراقية، وهما يقصدان ماكينته التي يديرها المالكي. وهي ماكينة ليس من اليسير الاستهانة بتأثيرها في مجرى الانتخابات. ذلك لأن الجزء الأكبر من الدورة الاقتصادية في العراق يقع تحت سيطرتها.
ولكن ماذا عن العامل الخارجي، وبالتحديد ما يتعلق بموقف الولايات المتحدة بعدما صار الموقف الإيراني واضحاً؟ سيكون صادماً لو قلنا إن الولايات المتحدة تفضّل الصدر لكي يكون وسيطاً ما بينها وبين إيران. العامري لا يصلح لمهمة من ذلك النوع فهو إيراني مفضوح. تحتاج الولايات المتحدة إلى وسيط يؤكد حاجة العراق إلى بقاء القوات الأميركية، بالرغم من أن الاتفاقية الأمنية نصّت على استئجار القواعد لمدة 99 سنة. الصدر يمكنه أن يكون ذلك الوسيط، وهو من خلال ذلك الدور يقدم خدمة استثنائية إلى إيران التي يهمها أن تكون شريكاً مؤتمناً للولايات المتحدة في المنطقة. ومن أجل إتمام تلك الصفقة بين الطرفين، لا تبدو إيران على عجلة من أمرها في مسألة الاتفاق النووي الجديد.
بالنسبة إلى إيران، ينبغي أن يكون الاتفاق النووي خاتمة الاعتراف بهيمنتها على المنطقة. ولا أعتقد أن أميركا وحلفاءها الغربيين بعيدون من ذلك التصور. أما أن يكون العراق هو مفتاح ذلك الاعتراف، فإنه أمر طبيعي. ليس العراق لبنان ولا سوريا ولا اليمن. إنه بوابة ثراء إيران. وإذا ما كان نوري المالكي قد أسس لعلاقة مالية غير سوية بإيران، فإن الصدر يمكنه أن يستمر في تلك العلاقة تحت لواء الدفاع عن المذهب وصيانته. لقد كشف الصدر غير مرة عن طموحه في زعامة البيت الشيعي، فهو طائفي بامتياز بالرغم من أنه لم يتبنّ شعار المالكي “جيش الحسين مقابل جيش يزيد”.
اللافت في الأمر أن أحداً لا يشعر بالحرج إزاء الثقة المسبقة بحقيقة أن أصوات الناخبين ستتوزع بين مرشحي الحشد الشعبي ومرشحي التيار الصدري، بالرغم من أن هناك ضمانة دولية بأن تلك الانتخابات لن تتعرض لأي نوع من أنواع التزوير. ترى ما مصدر تلك الثقة؟
في ظل دعوات المقاطعة، فإن حظوظ مرشحي التيارين في ازدياد، وخصوصاً أن التيارات الشيعية الأخرى لا تأمل الحصول على مقاعد كثيرة لأسباب تتعلق بانخفاض شعبية زعمائها الذين انهمكوا عبر السنوات الماضية بإدارة شؤون ممالكهم المالية، تاركين العمل السياسي لوكلائهم الذين يستعدون لوراثتهم سياسياً، كما هي الحال بالنسبة الى أقرباء نوري المالكي.
لذلك فإنه ليس من السابق لأوانه أن يتخطى الصدر والعامري عقدة البيت الشيعي ويعقدا صفقة يتم من خلالها وضع تصور لنوع العلاقة المستقبلية، في مرحلة سيغلب عليها طابع الارتجال “الثوري” الذي سيزيد من حجم الفوضى التي يتعايش معها العراقيون، في انتظار تغيير صار عليهم أن يؤجلوا الحلم به أربع سنوات أخرى.
المصدر: النهار العربي