افتراق الطرق بين عصرين!

عبد الله السناوي

كان رحيل «جمال عبدالناصر» فى (28) سبتمبر (1970) مفاجئاً وصاعقاً، لكنه لم يحل ــ رغم مشاعر الحزن التى غمرت المصريين ــ دون أن يبدأ الصراع على السلطة.
من يخلفه فى منصبه؟.. وكيف تُدار الدولة بعده؟
كان ذلك أمرا طبيعيا، فالسلطة ــ أى سلطة ــ لا تعرف الفراغ.
طرحت أفكار كثيرة فى لحظات الحزن مثل «القيادة الجماعية»، وضرورات التماسك والانتقال السلمى للسلطة، فالبلد لا يحتمل تنازعا عليها فى وقت حرب.
كانت تلك أفكارا نبيلة فى مقصدها ونواياها لم يُكتب لها أن تستقر على أرض، فالسلطة هى السلطة.
لخص مشهد واحد فى جنازة «عبدالناصر»، التى لا مثيل لها فى التاريخ الإنسانى، افتراق الطرق بين رجلين وتوجهين داخل بنية النظام، أولهما ــ نائب رئيس الجمهورية «أنور السادات»، وهو يتصور أن صعوده إلى منصب الرجل الأول محفوظ بالتراتبية والأقدمية، رغم أن دوره محدود وهامشى فى صنع القرار.. وثانيهما ــ أمين عام الاتحاد الاشتراكى ورئيس الوزراء السابق «على صبرى»، وهو يتصور أن صعوده إلى نفس المنصب محفوظ بحجم نفوذه داخل المؤسستين السياسية والأمنية.
فى ذلك المشهد تخلف الرجلان عن المضى مع الشخصيات الدولية والعربية خلف الجثمان قبل أن تضطرها الجماهير الملتاعة على ترك الجنازة.
عاد «السادات» إلى مجلس قيادة الثورة بالقرب من كوبرى الجلاء على كورنيش النيل مسنودا على اثنين من مرافقيه بعد إصابته بحالة إغماء.
أدخل على الفور إلى حجرة رجال المطافئ لتلقى الإسعافات الضرورية.
بعده مباشرة جاء «على صبرى» بداعى الإرهاق الشديد وأدخل إلى الحجرة نفسها.
كان «عادل الأشوح»، مدير مكتب أمين التنظيم الطليعى «شعراوى جمعة»، الذى يتولى فى الوقت نفسه حقيبة الداخلية، مكلفا بالإشراف على المكان.
حسب روايته فإنه طلب من الدكتور «حمدى السيد» ــ نقيب الأطباء فيما بعد ــ الكشف عليهما للنظر فيما إذا كان هناك خطر على حياتهما يستوجب التصرف العاجل.
قال «حمدى السيد»: «مافيش حاجة.. مرض سياسى».
أثناء مغادرتهما المكان قال «السادات» عند الباب الخارجى: «تعال يا على أوصلك».
ــ «لا اتفضل أنت.. طريقى غير طريقك».
كان ذلك التعبير الذى أطلقه «على صبرى»، بقصد دلالاته السياسية أو بدون قصد، مثار تعليق كل الذين استمعوا إليه، أو وصل إلى علمهم.
لم يكن «أنور السادات» شخصية مجهولة، فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة فى أروقة التنظيم السياسى ودوائر الدولة، ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول.
باستثناء أصوات معدودة فى التنظيم الطليعى، أو داخل الاتحاد الاشتراكى، لم تكن هناك ممانعة كبيرة فى التقدم به رئيسا لاستفتاء عام.
تكفلت المجموعة المهيمنة على مقاليد الأمور داخل مؤسسات الدولة بالدعوة إلى انتخابه رئيسا.
كانت المفارقة الكبرى أن «السادات» أودعها السجون بعد زهاء سبعة أشهر بتهمة التآمر عليه، فيما سميت بـ«ثورة التصحيح»، أو «انقلاب ١٥ مايو» (1971) بتوصيف آخر.
كان مثيرا أن توصف بـ«مراكز القوى»، و«مجموعة على صبرى»، رغم أنها لم تظهر حماسا لصعوده إلى موقع الرجل الأول وفضلت عليه «أنور السادات» الرجل الضعيف بظن أنه يمكن التحكم فيه!
فى مراجعات ما بعد هزيمة «يونيو» (1967)، التى سجلت فى محاضر رسمية، إشارات لنوع الصدام المتوقع بين الرجلين إذا ما اختفى فجأة الرئيس «عبدالناصر».
لم تبد فى مداخلات «السادات» أى انتقادات لنظام الحكم لها صلة بقضية الديمقراطية والحريات العامة.
مانع فى أى إقدام على التغيير مؤيدا على طول الخط «عبدالناصر» بغض النظر عن طبيعة نظامه، ولم يعرب عن أى توجهات اجتماعية تُعبر عن شخصية صاحبها.
حسب المحاضر نفسها، لم يمانع «على صبرى» فى التغيير، أو مراجعة ملف تجاوزات العليا لتصفية الإقطاع وإجراءات الحراسة، دون أن يمس طبيعة توجهات النظام الاجتماعية.
فى ظروف وتوازنات معقدة تقاسما السلطة، «السادات» رئيسا و«على صبرى» نائبا.
كان ذلك مشروع صدام مؤجلا بالنظر إلى طبيعة الرجلين.
فى لحظة الصدام وظّف «السادات» الانتقادات الجوهرية التى وجهها «عبدالناصر» لنظامه بغرض تصحيحه للانقضاض على مشروع يوليو نفسه.
فى أعقاب حرب أكتوبر (١٩٧٣) تهيأت الظروف للإعلان عن توجهات جديدة وبناء نظام آخر على أنقاض إرث «عبدالناصر» وتوجهاته وسياساته.
حين بدأ السجال يحتد داخل مصر والحملات تأخذ مداها بين عامى (١٩٧٤ــ 1975)، كان الدكتور «لويس عوض» يعمل أستاذا زائرا بجامعة كاليفورنيا (لوس أنجلوس).
«كنت فى أوقات متباعدة ألتقى فصائل من المصريين تقيم حفلات الحقد المستمر على عبدالناصر والناصرية وتردد كل سخافة تقرؤها فى الصحف الأمريكية، فإذا رأت أن الجرائد الأمريكية تهلل لأن فايز حلاوة كتب مسرحية اسمها يحيا الوفد تسب الروس، مجدت فايز حلاوة دون أن تعرف شيئا عن مسرحياته».
«وكنت أهتم بأن أسأل هؤلاء النازحين هذه الأسئلة المحددة: هل صادر عبدالناصر لك أو لأسرتك أملاكا؟ فيقول: لا. هل سجنك عبدالناصر أو سجن فردا فى أسرتك يوما واحدا؟! فيقول من يحاسب الناس وهو فى أمريكا: لا. فيما إذن هذه المرارة ضد عبدالناصر؟ إنه خرب البلد بالقطاع العام والتبعية للسوفييت. كل ما فعله عبدالناصر دميم وينبغى نقده. حتى السد العالى ينبغى هدمه».
«كانت وجوههم مصرية وقلوبهم غير مصرية».
أهمية هذه الشهادة فى صاحبها، وأنه أدلى بها وهو يقف على الجانب الآخر من التجربة الناصرية وفى معرض نقده لها.
ربما أراد أن يضع نفسه فى حيز مختلف حتى لا تختلط وجوه ومواقف كأنها واحدة.
«للناصرية اليوم وبعد وفاة صاحبها، نقاد بلا عدد ولكن لا تجوز مناقشة بعضهم لأنهم مجردون من الشرف الوطنى، أو من الشرف الشخصى».
هكذا كتب حرفيا، التوصيف نفسه يصح إطلاقه على بعض ما يكتب الآن.
بطبائع الأمور كان رد الفعل بذات درجة الضراوة، لا تسامح مع الحملة وأصحابها، ولا مهادنة مع الذين نقلوا مواقعهم من ضفة إلى أخرى فى ثورة مضادة كاملة.
رغم ذلك كله، فهناك من يصر بإلحاح إلى درجة مرضية أن مصر يحكمها منذ عام (1952) نظام واحد، كأن الانقلابات الاجتماعية والاستراتيجية وحملات التشهير المتصلة التى جرت بعد رحيل «عبدالناصر» لم تحدث أبدا!

المصدر: مجلة الوعي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى