تشكلت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي بعد ضغوط فرنسية – إيرانية وغض نظر أميركي، أو بموافقة غير معلنة، وأيضاً بتسوية داخلية أجبرت القوى السياسية والطائفية المتنازعة على السير بتسوية، بعدما أوصلت البلد إلى طريق مسدود. وبتشكيلها نجحت الطبقة السياسية اللبنانية بالتنفس لإنقاذ نفسها بالدرجة الأولى وإعادة تعويم دورها، باستمرار التركيبة ذاتها وإدارة البلد بالطريقة نفسها، ومن بينها تشكيل الحكومة، باستثناء وحيد أن هناك طرفاً لديه فائض قوة هو “حزب الله”، ووجد أن تشكيل الحكومة في اللحظة الراهنة في لبنان أفضل من استمرار الفراغ القائم، ويخفف عنه وطأة إدارة الدولة مباشرة، ما دام يحتفظ ببناه المستقلة ولا يتحمل مسؤولية الانهيار وحده.
استعاد “حزب الله” هيمنته بصورة واضحة على القرار، ولا شك في أن تحالفه مع رئيس الجمهورية ميشال عون أمّن له الغطاء الكامل لكل ممارساته وتدخلاته، بما في ذلك استجلاب النفط الإيراني الذي دخل إلى لبنان بصورة غير شرعية عبر معابر سورية، وذلك بعدما كان الحزب والشيعية السياسية عامة قد خسرا في البيئات الطائفية الأخرى منذ انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. قبل أن يُتخذ القرار الخارجي بالتشكيل. كان الخارج في السابق يتحرك تجاه لبنان ويضغط لإيجاد تسويات، لكن التأزم الداخلي اللبناني ومشاريع الهيمنة كانا من الأسباب التي جعلت الخارج ينفض يده من أي تدخل مباشر، وكذلك الأوضاع الخارجية في الدول التي أصبحت أولوياتها في مكان آخر. ولعل التغيرات التي حدثت في لبنان نفسه في التركيب السياسي والطائفي والاصطفافات ساهمت أيضاً في تراجع الخارج عن محاولات إيجاد صيغ تسووية، فضلاً عن مصالح كانت تربطه بلبنان.
جزء من الأزمة مرتبط بـ”حزب الله” كطرف يقدم نفسه قوة إقليمية بعدما كان قوة مقاومة على مدى سنوات طويلة، وكذلك ما حدث في التركيب السياسي والطائفي وانعكاسات الحرب السورية على لبنان، كما الاصطفاف في محور الممانعة الذي يريد استثمار ما يحققه خارجياً في لبنان. وإذا كانت هناك أطراف عديدة قد راهنت على تغيّرات في الخارج ومن كل الطوائف، كل وفق وضعيته، إلا أن فائض القوة والهيمنة المفروضة والقدرة على التحكم بالطائفة الشيعية باسم المشروع الخارجي والتمدد في البيئات الطائفية الأخرى، جعل الحزب يطمح إلى تكريس مكاسب وواقع جديد في التركيب السياسي في البلد، إذا لم نقل إن الهيمنة الشيعية كانت تتكرس يوماً بعد يوم عبر “حزب الله” بالدرجة الأولى، إنما في تركيز الحكم بالتحالف مع الرئيس ميشال عون و”تياره الوطني الحر” الذي يرفع شعارات استعادة حقوق المسيحيين والصلاحيات، فيما الدولة والكيان يتآكلان أمام أعين العالم.
شُكلت الحكومة اللبنانية أخيراً على الفصل بينها وبين “حزب الله”، لكنه فصل يكرّس الهيمنة للحزب ويجدد أيضاً تعاضدها معه في مختلف المجالات، باعتبار أن رعاية ولادة الحكومة كانت على المستوى الخارجي إيرانية – فرنسية، وبدفع من قوة “حزب الله” الداخلية وامتداداتها الإقليمية. وخلاصة الاعتبارين أن الحكومة وكذلك الدولة لن تتعارض مع سياسة الحزب في ضوء ما حدث من تطورات في المرحلة الأخيرة، أبرزها مسار العلاقات مع النظام السوري والاتفاق على استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر الأراضي السورية بموافقة أميركية، ثم دخول صهاريج المحروقات إلى لبنان من سوريا برعاية الحزب، بعدما أفرغت حمولتها في مرفأ بانياس في سوريا.
لا ينفصل كل ما حدث عن تفاهمات فرنسية أميركية لها علاقة بالمنطقة، في العراق وسوريا، وبغض طرف أميركي وأيضاً بموافقة روسية على ما حدث في تسوية درعا السورية، وهذا يؤشر إلى تقاطعات معينة تهيّئ الأمور لمرحلة استئناف المفاوضات الأميركية – الإيرانية غير المباشرة حول الملف النووي. أما في لبنان، فقد جاء تشكيل الحكومة ليتوّج هذه التفاهمات من دون أن يكون ذلك مؤشراً لحل الوضع في لبنان، بل مرحلة انتقالية لمنع الانهيار الكامل للبلد. ولذا تقدم “حزب الله” وكأنه المنقذ، مستثمراً التسوية الخارجية واستجلابه المحروقات الإيرانية، معتبراً أنه حقق نصراً على مختلف المستويات، وأعاد تفعيل دوره ضمن البيئات الطائفية الأخرى، حتى أن أمينه العام السيد حسن نصر الله تحدث أخيراً وكأنه المرجع في القرار والبلد في يده.
كل ذلك يدل على أن لبنان دخل في مرحلة جديدة مع حكومة نجيب ميقاتي، لكن بهيمنة يقودها “حزب الله” الذي جدد هيمنة الشيعية السياسية على البلد لكن بقالب مختلف عما كانت تشكله ضمن البيئات الطائفية والمذهبية الأخرى، بعدما كان الثنائي الشيعي “حركة أمل” برئاسة نبيه بري والحزب يهيمنان على الطائفة الشيعية، ولهما وزن سياسي حاسم في التركيبة اللبنانية، في مقابل السنية السياسية والمارونية السياسية التي حاول ميشال عون استعادة صلاحياتها بالأمر الواقع وأثار اصطفافات طائفية مقابلة. وهذا الأمر يعني أن البلد كله دخل مرحلة جديدة الى أن يحين وقت إعادة هيكلة النظام، وربما تغيير الدستور بنسف اتفاق الطائف وكل ما تكرّس خلاله في الحقبات الماضية.
الواقع اليوم يشير الى أن “حزب الله” هو الطرف المقرر وصاحب فائض القوة، وهو بفعل كل التطورات الإقليمية والدولية والداخلية اللبنانية، عزّز موقعه سياسياً في لبنان وأيضاً طائفياً، وباتت له قدرة أكثر على التحكم في مسارات البلد، انطلاقاً من أنه سهل تشكيل الحكومة وفرض ما يريد، وفرض على حليفه ميشال عون تسهيل التأليف بوصفه الطرف الأقوى تنظيمياً وعسكرياً بعد بيئته الطائفية.
لكن سيناريو التركيبة السياسية والطائفية المقبلة في لبنان يحمل الكثير من التكهنات، فالبلد لن يكون بوجه شيعي، وإنْ كانت الهيمنة الشيعية قائمة عبر “حزب الله” اليوم ولها حسابات إقليمية، وذلك بعدما وصل إلى ذروة قوته بالدعم الإيراني وكقوة مستقلة عن الدولة بالبنى والمؤسسات والسلاح، وتحوّل قوة إقليمية تدخلت في سوريا والعراق وحتى في اليمن. وباتت الأمور اليوم تحت سيطرته وضمن توازنات يحددها للقوى السياسية والطائفية الأخرى. لكن التسويات يمكن أن تتغير والتوازنات أيضاً، وفي كل حال البلد يبقى على فوهة البركان وانفجاره محتمل في أي وقت…
المصدر: النهار العربي