كنا قد كتبنا في هذه الزاوية في منتصف حزيران/يونيو الفائت، متوقعين انتهاء الصيف الهادئ لسعر صرف الليرة السورية، مع مطلع شهر أيلول/سبتمبر، نظراً لارتباط موسم الخريف مع استحقاقات موسمية تستنزف العملة الصعبة الشحيحة لدى المركزي السوري. ويبدو أن توقعاتنا بدأت تتحقق، مع الإقرار بأن انهيار سعر الصرف كان قد بدأ قبل ذلك، ومنذ نهاية شهر آب/أغسطس، حيث وصلت الليرة إلى قاع أدنى سعر مبيع منذ خمسة شهور، قبل أن يمدّ لها المركزي حبل نجاة مؤقت، من خلال قرارَين، أثارا الكثير من الجدل.
وقد يكون من المفيد تتبع تحركات سعر الصرف، منذ مطلع أيلول/سبتمبر الجاري، في فهم جزء من المعادلات التي تحكم تلك التحركات.
ففي 1 أيلول/سبتمبر، كانت الليرة السورية تقبع عند قاع أدنى سعر مبيع منذ خمسة شهور. وفي ذلك اليوم، تداول الإعلام المحلي والمُعارض، بكثافة، قرارَي المركزي، الذي قضى الأول منهما، بحصر تمويل التجار لمستورداتهم، بقنوات المصارف وشركات الصرافة، والحسابات المصرفية للتجار، في محاولة للجم حالات لجوء التجار للسوق السوداء. فيما قضى القرار الثاني، بتفعيل تعهد إعادة قطع التصدير مجدداً، وهذه المرة بنسبة 50%، بحيث بات على التاجر المُصدّر أن يبيع للمصارف المرتبطة بالمركزي، 50% من عائدات القطع الأجنبي الناجمة عن عملية التصدير، وبسعر المركزي المحدد بـ 2512 ليرة سورية للدولار الواحد، وهو سعر كان أقل بحوالي 1000 ليرة عن سعر السوق السوداء.
تسبب القرار بصدمة لأسواق الصرف وللتجار والصناعيين. وانعكس سريعاً على تعاملات سوق العملة، فهوى “دولار دمشق”، في 2 أيلول/سبتمبر، وفي أقل من 24 ساعة، 150 ليرة. وفي 5 أيلول/سبتمبر، سجلت الليرة السورية ذروة تحسن بعد القرارَين، عند 3430 ليرة سورية للدولار الواحد. أي أن القرارَين المشار إليهما، أعادا لليرة، 5% من قيمتها، مقارنة بسعر الدولار.
لكن الأثر الإيجابي للقرارَين على سعر صرف الليرة السورية، لم يكن هو ذاته على حركة الإنتاج وقطاع التصدير. إذ شُلت حركة التصدير، وأقرت مصادر إعلامية موالية، (صحيفة “الوطن”)، نقلاً عن مصدر في معبر البوكمال الحدودي مع العراق، أن حركة التبادل التجاري مع البلد الجار لسوريا، توقفت بصورة شبه كاملة، بعيد تداول قرار تعهد إعادة قطع التصدير.
وسريعاً، تحرك مصرف سورية المركزي، الذي استشعر مسؤولوه الأثر السلبي لقراراتهم، فاجتمعوا مع قطاع الأعمال السوري، واتفقوا معه، في 6 أيلول/سبتمبر، على شراء قطع التصدير بسعر أعلى –نظرياً- من سعر السوق السوداء. وقال حينها، رئيس لجنة التصدير في اتحاد غرف الصناعة السورية، إن المركزي أخبرهم أنه إن كان سعر الدولار في السوق بـ 3390 ليرة، فهو سيشتري منهم قطع التصدير بـ 3410 ليرة للدولار الواحد، أي بزيادة 20 ليرة على سعر السوق، وفق المركزي. مع الإشارة إلى أن سعر السوق حينها كان بحدود 3430 ليرة للدولار الواحد، لكن رغم ذلك، اعتُبر تراجع المركزي عن شراء قطع التصدير بالسعر الرسمي (2512 ليرة للدولار)، موقفاً إيجابياً يستوعب مخاوف التجار والصناعيين، بصورة دفعت بعضهم للإشادة به.
وسريعاً، انعكس إقرار المركزي، جزئياً، بسعر الصرف الرائج في السوق، على التعاملات والمضاربات فيه. وفي 9 أيلول/سبتمبر، وبعد أسبوع فقط من تحسن سعر صرف الليرة بموجب قرارَي المركزي المشار إليهما أعلاه، عكس الدولار اتجاهه ليرتفع مجدداً على حساب الليرة السورية، التي خسرت خلال الأسبوع الفائت، حوالي 2% من قيمتها، أي 40% من المكاسب التي حققها قرارا المركزي لليرة، في الأسبوع الذي سبقه. وتراجعت الليرة من ذروة تحسن عند 3430 ليرة للدولار، في 5 أيلول/سبتمبر، إلى 3500 ليرة للدولار، مساء 15 أيلول/سبتمبر.
العرض السابق، لتقلبات سعر الصرف، منذ مطلع شهر أيلول/سبتمبر الجاري، يوضح مدى هشاشة تأثير أدوات السياسة النقدية التي يستخدمها المركزي السوري، على سوق الصرف في البلاد. ويرجع ذلك بصورة أساسية، إلى أن المركزي يعتمد أدوات نقدية فقط، فيما الاقتصاد برمته في حالة انتكاس، منذ سنوات. ومن دون أدوات اقتصادية حقيقية، تبقى الأدوات النقدية محدودة الأثر، وأشبه بالمُسكّن.
فبعد أن اعتمد المركزي على مدى أشهر الربيع الفائت، على استراتيجية “تجفيف” الليرة من السوق، عبر قرارات وإجراءات تقييدية لحركة السيولة، اضطر هو ذاته للتراجع الجزئي عن تلك الاستراتيجية حينما ضخ زيادة رواتب الموظفين بنسبة 50% في مطلع آب/أغسطس، مما زاد من المعروض النقدي في البلاد، وأتاح عودة المضاربات في سوق الصرف. ناهيك عن بدء استحقاقات موسم الخريف، المتمثلة بزيادة الطلب على المحروقات للتدفئة (مازوت التدفئة)، والحاجة لاستيراد القمح لسد العجز في الاحتياجات المحلية.
وهكذا، انتهى صيف الليرة الهادئ، نسبياً، ليبدأ موسم خضّات سعر الصرف. فالمركزي عاجز عن ضبط هذا السعر إلا لأيام، كما أوضحنا في عرض تقلبات سعر الصرف، أعلاه. وما دامت سياسات النظام الاقتصادية، تعتمد أدوات نقدية تقييدية، دون أية حلول موضوعية للمشكلات الاقتصادية الكبرى التي تعاني منها البلاد، ستبقى الليرة السورية عنيدة، وستبقى قرارات المركزي ذات أثر قصير المدى، للغاية.
المصدر: المدن