درعا، قليل مما يمكن قوله

راتب شعبو

ينطوي ما يجري في درعا اليوم على مرارة خاصة، ليس فقط لأن درعا هي مهد الثورة السورية ومنطلقها، بل لأنه مؤشّر مؤلم إلى مقدار التفكّك الذي وصل إليه المجتمع السوري، ومدى هامشية تعبيراته السياسية، وهو مؤشّر إلى مقدار التراجع المحلي والعالمي أمام منطق القوة على حساب الحق والعدالة والأخلاق. منذ شهور قليلة، اشتعلت فلسطين والعالم حين حاولت إسرائيل ترحيل بضع عائلات من منازلها في القدس الشرقية، أما في درعا، فإن التهجير يُفرض على آلاف العائلات، أي يصل إلى مستوى تغيير ديموغرافي، من دون أن يجد المجرم من يقف في وجهه، لا في الداخل ولا في الخارج. أكثر من ذلك، لا يزال هذا المجرم، بعد كل شيء، يحوز شرعية دولية، ويتكلم باسم الدولة السورية.

جريمة عائلات حوران أنها عبّرت عن رفضها نظام الأسد، وأن أبناءها حملوا السلاح حين لم يبق أمام السوريين المحتجّين على النظام من خيار آخر سوى الاستسلام الذي يليه الانتقام وفق منطق طغمة الأسد، المنطق العصاباتي، البعيد كلياً عن منطق الدولة. يمكن النقاش كثيراً في صوابية حمل السلاح والتحوّل العسكري في الثورة السورية ولا صوابيته، وصاحب هذه السطور على قناعة بأن التحوّل العسكري كان منزلقاً كارثياً، ولكن لا يمكن مناقشة هذا الموضوع بعيداً عن الصورة التي رسّختها السلطة السورية في أذهان محكوميها، بوصفها سلطة طغمة حولت الدولة إلى مستعمرةٍ لا تعترف بالحقوق العامة للمحكومين، وذات طابع انتقامي لا حدود له، يطاول ليس فقط الشخص المعارض، بل ومحيطه العائلي.

قبول أهالي درعا بالرحيل عن بلدهم وديارهم وأرض نشأتهم، ومطالبتهم الخروج إلى الأردن أو تركيا، أي الخروج من البلد، لا يمكن فهمه موقفا سياسيا يقول فيه الأهالي إنهم لا يعترفون بالأسد الوريث رئيساً، ويفضّلون ترك البلد على أن يسكتوا عن رفضهم له. ليست هذه هي الصورة الواقعية لما يجري، فأهل حوران يقبلون بالرحيل لأنهم يخشون الموت والمذلة وشتى صنوف الانتقام على يد طغمة حكمٍ انتقامية، لا صلة لها بمفهوم الدولة بوصفها مؤسّسة عامة تقوم على ترتيب اجتماعي مكتوب أو غير مكتوب. انتقام النظام يطاول العائلات، نساء وأطفالاً وشيوخاً، ولا يقتصر على من حمل السلاح، كما قد يعتقد من لم يجرّب العقلية الأسدية التي ابتكرت تهمة “البيئة الحاضنة”.

لا يوجد في قاموس طغمة الحكم الأسدي أو الأبدي أو أشباهها محل لمعارضين سياسيين، بل لأعداء سياسيين. وبطبيعة الحال، لا يمكن التفكير بشراكةٍ مع أعداء، وعند التمكّن من العدو، فإن مكانه السجن أو القبر. والحق أن هذه العقلية اللاسياسية أو العدوانية وجدت مستقرّاً لها لدى نسبة غير قليلة من أنصار طغمة الحكم، بمن فيهم من يعيشون تحت خط الفقر بسبب استمرار طغمة الحكم نفسها وسياستها.

بناء على فكرة العداء السياسي الراسخة في الذهنية الأسدية، كان مفهوماً، منذ البداية، أن اتفاق تموز 2018 في درعا مؤقت، لا يمكن أن يدوم، وأن نظام الأسد سوف ينقلب عليه ما أن تُتاح له الظروف، أو سوف يعمل على صناعة ظروف الانقلاب عليه. كان الاتفاق جزءاً من عملية تفكيك الجبهة المواجهة للنظام إلى جبهات متعدّدة، ثم، إذا احتاج الأمر، تفكيك كل جبهة منها إلى جبهات أصغر، (مثلاً، فكّ درعا عن باقي المناطق السورية، ثم فكّ درعا البلد عن باقي درعا، ثم محاولة فكّ حي المخيم وطريق السد عن درعا البلد) لكي يسهُل “تسويتها”.

لم يكن نظام الأسد بطل عملية التفكيك المذكورة. في الواقع، كانت الجبهة المواجهة للنظام هي بطلة تفكيكها الذاتي، حين غلب المنطق العسكري على المنطق السياسي وغلبت الميول التسلطية على الميول التحرّرية. بدأ يترسّم التفكيك ويتأطر في أستانا 2017، على يد ثلاثي أستانا (روسيا، إيران، تركيا). لم تكن تحتاج هذه العملية من النظام سوى حفاظه على وحدته السياسية والعسكرية، وقد استطاع، في مقابل تجزؤ “أعدائه” الداخليين وتفكّكهم في السياسة كما في العسكرة.

في السياسة، لم يغير النظام من نظرته إلى الأحداث، ومن موقفه حيالها طوال الفترة التي تلت اندلاع الثورة. إنكار تام لأي أحقية سياسية للمعارضين بكل تنوّعاتهم، بمن فيهم “المعارضة الوطنية” بحسب تسميات إعلام النظام. من نافل القول إن ثبات النظام على هذا النهج ينبع من فقدانه أي مرونة سياسية وعجزه عن استيعاب تغييرات سياسية في تكوينه.

في العسكرية، نجا الجيش من الانقسام، بسبب التماسك العصبوي للصف القيادي الأول فيه (ظلت الانشقاقات هامشيةً في الحجم وفي الرتب العسكرية)، ثم تكفل الانزياح الإسلامي الجهادي في المشهد العسكري المواجه للنظام، وما عرضه هذا المشهد من ممارساتٍ انتقاميةٍ وضيعةٍ ولغةٍ مقطوعةٍ عن العصر، في منع مزيد من الانشقاقات، وفي رصّ الصف العسكري للنظام. ذلك لأنه لا يوجد قبول وازن للجهادية الإسلامية في معظم الأوساط المدنية المتعلمة والمتنورة في سورية. أهم ما نتج عن التحوّل الإسلامي أنه ولّد لدى عسكريي النظام، كلما تعمّق هذا التحول وتجذّر، قضية قتالية. إنهم لا يقاتلون من أجل الأسد أو لحماية كرسي الأسد، بل يقاتلون ضد جهاديين وضد مطامع دولٍ تستخدمهم.

عندما نقول التماسك العسكري للنظام، لا نعني قوته العسكرية، فقد خسر النظام مناطق واسعة من سورية لصالح القوى التي واجهته، ووصل عسكرياً، بعد أربع سنوات ونصف السنة، من اندلاع الثورة، إلى لحظة ضعفٍ استدعت التدخل الروسي المباشر، لكننا نعني أن الجسد العسكري للنظام حافظ، مع ذلك، على وحدته وتراتبيته ولم يتفكّك، الأمر الذي جعل للتدخل الروسي فاعلية، ذلك لأنه جاء لمساندة جيشٍ منهكٍ ولكنه محافظ، مع ذلك، على خيوط تماسكه التنظيمي.

في المقابل، حوّلت مناطق خفض التصعيد التي نتجت عن لقاءات أستانا “أعداء” النظام إلى جزر مستقلة بعضها عن بعض، لا يجمعها خيط سياسي أو عسكري. كل جزيرة فاوضت عن نفسها وصولاً إلى ما شهدناه في مفاوضات درعا، حيث الأهالي يفاوضون من دون وجود أي طرف سوري “عام” يمثل إرادة السوريين الرافضين لنظام الأسد يتحدّث باسمهم وباسم قضيتهم بوصفها شأنا سورياً، وليس شأناً محلياً معزولاً.

لا بد أن نتعلم حل صراعاتنا بالسياسة، والمحطّة الأهم على هذا السبيل استيعاب فكرة المعارضة السياسية محل فكرة العداء السياسي التي تمارسها الطغم المستبدّة وتزرعها في وعي محكوميها، فتنظر إلى المعارضين باعتبارهم أعداء، وتحيل الصراعات السياسية بالتالي إلى حروب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى