قبل ثلاث سنوات، وتحديداً في الثاني عشر من أيلول ٢٠١٩، خرج علينا السيد “لافروف”، وزير خارجية روسيا، قائلاً إن “الحرب في سوريا انتهت”. وكان لقوله هذا دلائل مفرحة، كبارقة أمل للسوريين الذين عانوا من ويلات الحرب، التي ذبحتهم، ودمرت الغالي في حياتهم. فهم أساساّ ما أرادوها، ولا اختاروها أداة أو منهجاً لتحقيق أهداف ثورتهم على الاستبداد؛ ولكن لافروف للأسف ألحق عبارته هذه بالقول: “… إلا في بعض البؤر”؛ ليكون ذلك صادماً لكثير من الأطراف المنخرطة بالقضية؛ فبعض هذا الكثير يبقى في السلطة بحجة الحرب، وآخرون يستمرون بالهيمنة وتنفيذ مخططاتهم ومصافقاتهم باستمرارها، وعبر ما ولّدته من دم ودمار وتشريد.
ربما كان أول “المصدومين” روسيا ذاتها- الداعم الأساس لبقاء النظام- فأين سيجرّب معلم لافروف أسلحته الجديدة، إذا انتهت الحرب؟! وكيف سيحضر على الساحة الدولية ابتزازياً من خلاله أخذه سوريا رهينة؟! وكيف يحلُّ ملفاته العالقة دولياً، دون استمرار استعراض القوة على الأرض السورية، حيث يمتلك الكلمة الفصل هناك؟! وكيف يستطيع أن يضع يديه على المليارات السورية التي سرقها وراكمها نظام الاستبداد لعقود؟! الصدمة الأكبر مِن عبارة لافروف كانت لإيران، التي يعيش مشروع ملاليها على التوتر والدم؛ وهي التي قالت إثر اتفاق تركيا وروسيا والمعارضة على إدلب كمنطقة “خفض تصعيد”: “إن هذا الاتفاق لن ينجح”.
من هنا أتى الاستدراك السريع للعبارة، بأنه لا يزال هناك “بؤر” لا بد من استئصالها؛ فالروس وإيران ومنظومة الاستبداد أرادوها /مسمار جحا/: واحدة في الشمال الغربي السوري، يوفّرها “الجولاني” باستفزازاته المحسوبة؛ وثانية في الجنوب الغربي، يوفرها حقد الأسدية على شرارة الثورة، درعا. وها هو نظام الاستبداد بمعية ميليشيات الملالي يضيفون ثالثة بأبعاد اقتصادية واجتماعية لتلك الحرب على شعب سوريا عبر الإفقار والمخدرات وسحق ديموغرافية سوريا.
وبين المستفيدين جداً من مأساة هذه الحرب على السوريين، وربما المصدومين من عبارة لافروف “إسرائيل”؛ التي ما فعلت وما كان باستطاعتها أن تفعل بالسوريين وبلدهم ما فعله هذا النظام المجرم وأعوانه. ومن هنا كانت تراقب من بعيد، وتتسلى بلعبة التوتر مع الإيراني؛ مقدّمةً مبرراً كبيراً لاستمرار التحالف الأسدي- الخامينائي، ومنسّقةً مع الرخص الروسي، مستغلةً حاجة بوتين لغرب يعتقد أن إسرائيل بوابته الأسرع.
يشكل استدراك لافروف السريع، وإضافته عبارة “بؤر” إلى الجزء الأول من تصريحه نسفاً لمقولته الأساسية بانتهاء الحرب؛ فهو بذا يطمئن منظومة الاستبداد بأن الأمل باستمرار الحرب مازال موجوداً (فهذه البؤر الإرهابية لا بد من اجتثاثها). وفِي الوقت ذاته يقول لأهل سوريا بأن عذاباتهم لم تنتهِ بعد. وربما أكثر من أي جهة أخرى، يدرك لافروف أن تلك البؤر التي يتحدث عنها كانت وبالاً على أهل سوريا، ونعمة على منظومة الاستبداد والروس؛ حيث قدمت لهم الذريعة المطلوبة؛ ولو انتهت، لكانوا في ورطة حقيقية.
بالنسبة لأهل الدم، السوريين، فكم كانوا يتمنون أن يكون لافروف صادقاً بإعلانه عن نهاية الحرب. فنهايتها بدايةٌ تريح السوريين من ميليشياوية منظومة الاستبداد الإجرامية، وصواريخ روسيا وطائراتها، وداعش والنصرة؛ وتريحهم من تمدد مشروع إيران على حساب دمهم ودمار بلدهم؛ وتريحهم من تمتع إسرائيل بخراب حياتهم وبلدهم. إنها تريحهم مما لا يقل أهمية عن ذلك، والمتمثل بخلاصهم من وصمة الاٍرهاب التي صبغهم بها نظام الاستبداد ولافروف ذاته، بسبب تلك الأدوات الوسخة والمسمومة التي ابتلوا بها، والتي شكلت الذريعة لذبحهم ودمار بلدهم.
عبارة لافروف هذه تعكس تخبطاً ومأزومية في السياسة الخارجية الروسية، كما تشي بانعدام الرؤية الاستراتيجية للصراعات. فلم يعد خفياً على أحد أنه بالنسبة لروسيا – لو كانت فعلياً قوة عظمى كما تقدم نفسها- لرأت أن سوريا هي أحد المرتكزات الاستراتيجية لكسر أحادية القطبية؛ والمتوسط قطب رحى في الصراع الجيوبلتيكي الدولي، وسوريا واسطة عقده، وبحكم أن لروسيا اليد العليا فيها؛ لكان تصرفها مغايراً تماماً لما هو عليه. واضح للمبتدئ في السياسة، أن هناك مَن يخرِّب عليها هذا المنجز؛ وفي صالحها استراتيجياً أن تتخلص من هذا المنغّص.؛ وتسحب هذه العلة المتمثلة بالمنظومة الإجرامية الاستبدادية الابتزازية المراوغة من جذورها، وإيران التي تلعب بها وتهينها؛ حيث ثبت بالدليل القاطع أنهما المعرقل الأساس لنجاح سياستها، أو طريق خروجها من مأزقها الحالي؛ فهي بلا نتائج سياسية بعد ستة أعوام من وضع مصيرها الاستراتيجي على المحك. والمثال الصغير، ولكن الصارخ، نشهده في درعا الآن.
وبالعودة إلى حال السوريين- موالاة ومعارضة- فهو أسوأ من بعضه البعض؛ فأمنية مَن في الداخل الخلاص؛ ولو بترك الوطن الذي لم يعد له فيه إلا المواجع؛ ورغم أن مَن هو في الخارج قد يكون أكثر أمانا وقدرة على العيش، إلا أنه فقد روح الحياة. وعدو الجميع تلك الطغمة التي تحاصر أهل درعا، وتقصفهم بصواريخ تسمّيها: “جولان”.
قد يكون السؤال الأدق، “متى تنتهي الحرب في سوريا أو عليها؟” والجواب ذو شجون وغايةٌ في التعقيد، ولكن السؤال الأهم من كل ما سبق هو “كيف تنتهي الحرب في سوريا؟ والجواب بكل واقعية؛ والذي يخلّص الجميع من ورطتهم هو استئصال الداء والمنبع والجذر لكل تلك المأساة؛ وتحديداً هو تظافر الجهود والتوافق على تنظيف بؤر المنظومة الاستبدادية الإرهابية وميليشيات الملالي من ورائها.
هناك قرارات دولية موجودة تنتظر التطبيق؛ تعيد سوريا إلى سكة الحياة؛ ويمكن أن تعطي روسيا ما تصبو إليه، وتحقق لها صفة القوة العظمى المسؤولة؛ وتكون لأميركا الكلمة الفصل في شؤون دولية حساسة تنسجم مع طروحات بايدن في تخفيف التوتر العالمي؛ وتكون إسرائيل خارج دائرة الخطر بوجود محيط مدمر؛ والعرب يحققون مطلبهم بعودة سوريا إلى جامعتهم، وتوقف نكبة إخوتهم السوريين. أما إيران، فالعالم معظمه يقول عنها دولة مارقة؛ فلينسجم مع نفسه ولو مرة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا